صورة من المالك بإذن للمنصة
قرية الفرواني بالوادي الجديد

المنازل التقليدية.. عمارة بيئية تساعد المصريين على التأقلم مع التغيرات المناخية

منشور الاثنين 7 نوفمبر 2022 - آخر تحديث الاثنين 7 نوفمبر 2022

في الخارجة بمحافظة الوادي الجديد، لا يستطيع السكان قضاء يوم في فصل الصيف دون جهاز تكييف للتعايش مع درجات حرارة تتراوح بين 40 إلى 49 درجة مئوية. غير أن محسن الفراوني، الذي يسكن تلك المدينة الجنوبية، وجد حلًا ناجحًا لمجابهة أزمته، لكنه احتاج أولًا إلى إحداث تغيير جذري في نمطه المعيشي.

يقول الفرواني، إن درجة الحرارة خلال فصل الصيف، تدفع أكثرية سكان المنازل الخرسانية لاستخدام التكييفات، ما يرفع قيمة فواتير الكهرباء التي قد تتراوح بين 400 و1500 جنيه، وتكبدهم أموالًا طائلة؛ "لقيت الحل في مبنى تقليدي من مواد التربة الطبيعية اللي كانوا بيبنوها جدودنا" يوضح الفرواني، شارحًا السبب وراء اتخاذه قرارًا بمغادرة مسكنه المعاصر، وتأسيس آخر على طريقة أجداده.

كشفت دراسة حديثة، نشرت يونيو/حزيران الماضي، في دورية Review of Geophysics العلمية الأمريكية، أن درجات الحرارة في الشرق الأوسط تزداد بمعدل ضعف باقي دول العالم، متوقعة أن ترتفع الحرارة في مصر بنحو 5 درجات مئوية بحلول نهاية القرن، ما سيترتب عليه موجات حرارة أطول، وجفاف أشد حدة. ويذكر معهد ماكس بلانك الألماني، أن بعض المدن ستصبح غير صالحة للسكن فعليًا قبل حلول عام 2100.

هذا التزايد المطرَد لدرجات الحرارة يؤثر على من يعيشون داخل المنازل الخرسانية، التي تزيد درجات حرارتها عما هي عليه في الشارع. ذلك أن تلك المباني موصل سريع للحرارة وتحتفظ بها لفترات طويلة، بحسب المهندس عمرو عصام، الباحث في العمارة البيئية، الذي يوضح أن المنازل المبنية بطوب أسمنتي أكثر احترارًا، كما أن المعالجات المناخية للمباني مهملة، فالمباني المعرضة للشمس فترات طويلة تحتاج لعزل حراري، وتوسيع فتحات التهوية.

كبّد الاحتياج الملح لتحسين حرارة الجو الأهالي في محافظة الوادي الجديد فاتورة ضخمة بسبب معدلات استهلاكهم المرتفعة للكهرباء، ما دفع نوابهم في البرلمان لمطالبة الحكومة بتخفيض تسعيرة الكهرباء بالمحافظة عام 2019، بسبب مناخها القائظ.

وتعتمد مصر بشكل كبير على الطاقة غير المتجددة في توليد الكهرباء، ما يضاعف الأثر البيئي السلبي.

من الأرض وفوقها

في خضم مشكلتي ارتفاع الحرارة وارتفاع كلفة تحسين المناخ، قرر محسن الفراوني تنفيذ مشروعه، الذي يتضمن إنشاء مجمع سكني، يشبه قرية سياحية مصغرة، صديقة للبيئة وقادرة على التكيف مع ارتفاع حرارتها، وتوفر كذلك مسكنًا له ولأسرته.

كان على الفراوني أن يلجأ إلى ما عمد إليه أجداده قبل مئات السنين من مواد طبيعية لتشييد حلمه، يقول "استخدمنا المواد الطبيعية وتربة الأرض بنسبة 90%، وأحجارًا رملية في البناء، وحصلنا على الطاقة من ألواح الطاقة الشمسية لاستخدام مصدر طاقة متجدد، وحماية حرارية للمنازل، وحمايتها من الأمطار، لزيادة عمرها الافتراضي".

يقول المعماري عمرو عصام، إنه خلال السنوات الأخيرة انتشرت المباني المعتمدة على تربة الأرض والمواد الطبيعية في بنائها، وخاصة الفنادق والقرى السياحية، أو القرى التي يتردد السياح عليها، ولجأ بعض الأشخاص إلى بناء منازل تقليدية في مناطق متفرقة، ولكن هذه التجارب دائمًا تكون في القرى والمناطق البعيدة.

قادت التوعية الإعلامية بمخاطر التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وغلاء أسعار الكهرباء كثيرون إلى اللجوء للمباني التقليدية، سواء بغرض السكن أو الاستثمار، لكن طبيعة المواد المستخدمة تنوعت وفقًا لتنوع البيئة، ففي صعيد مصر يُستخدم الطين ويخلط بروث الماشية والتبن/القش، وفي الوادي الجديد يخلطون الرمل بالطَفلة، وفي سيوة يستخدمون الرمل والكرشيف (حجر ملحي يستخرج من البحيرات أو الأراضي غير المستصلحة)، وفي أسوان يستخدم الأهالي خليط الرمل والطين، وفقًا لحديثنا مع متخصصين بتلك المناطق.

يقول الدكتور أيمن ملوك، الحاصل على دكتوراه في العمارة البيئية، إن تربة الأرض متنوعة، تختلف في كمية المعادن والأملاح التي تحويها، وتُستخدم جميعها للبناء، لكن يجب إضافة عنصر تسليح لها لزيادة صلابتها وحمايتها من الشروخ، وتتنوع المادة وفقًا للبيئة، مثل روث الماشية والطفلة والتبن/القش.

مبنى بتربة الأرض في الوادي الجديد

كيف تبني منزلًا من الطوب اللبن؟

في أسيوط، يقول عبد الفتاح حلمي، متخصص في بناء ودق الطوب اللبن، إن بناء منزل من الطوب اللبن يحتاج لكمية من الطين تُعجن مع نصف حجمها من روث الماشية، وتترك يومين للتجانس، وبعدها يتم تشكيل الطوب داخل قوالب خشبية أبعاد الواحد منها (20*10 سم)، يرص فوق كمية من التبن، ويترك في الشمس حتى يجف تمامًا، وبعدها تُبنى به الحوائط وتستخدم المادة الطينية نفسها في لحم الطوب ببعضه.

أما ما يشد عضد البيت ببعضه ويسهل الانتقال داخله فيُصنع من الأخشاب، إما البيضاء مثل "سلم خشبي يصل الدور الأول بالثاني"، أو جذوع النخل للأسقف "بعد قطعها لأربعة أجزاء طولية، وبعدها يُرص جريد (أفرع) النخيل بشكل مُعاكس لجذوع النخل، وتوضع فوقها كمية من سعف النخيل، ثم تُغطى بالطين، وتغطى أحيانا بجريد النخيل، لحجب الأمطار عن سطح المنزل".

يكلف بناء بيت صديق للبيئة 93.5% أقل من تكلفة بناء منزل خرساني

في الوادي الجديد نجد الأمر نفسه، وإن أدخلت عليه بعض التغييرات التي تفرضها البيئة، فتخلط الرمل مع الطفلة لصناعة الطوب، وأحيانًا يستبدل الحجر به، بعد أن يغطى من الخارج والداخل بالمادة الطينية، ويُبنى السلم على شكل مدرجات من الحجارة، وفقًا لربيع بلال، أحد سكان محافظة الوادي الجديد.

هناك تستخدم الأخشاب أيضًا، ولكنها هذه المرة تنضم إلى النخيل الأشجار التي ترص أفرعها "أعلى الحائط ويُرص فوقه جريد النخل لتشكيل ما يشبه الشبكة (ترص بشكل رأسي وأفقي وتُربط باستخدام حبل)، ثم يوضع فوقه سعف النخيل، وتغطى بطبقة من الطين"، أما أرضيات المنزل فيستخدم فيها البلاط أو السيراميك، ويشير بلال إلى أن الأصدقاء والأقارب يساعدون صاحب المنزل في بناءه، لتوفير نفقات استئجار عمال.

هذه المنازل بحسب الدكتور أسامة قنبر، أستاذ العمارة بكلية الهندسة جامعة طنطا، صديقة للبيئة وتحقق عوامل الاستدامة. فهي غير ملوثة في جميع مراحلها، بدءً من التصنيع حتى التشييد والهدم، وتتمتع بمناخ صحي معتدل، بارد صيفًا، دافئ شتاء، موضحًا أن جدران الطين سمك 40 سم تؤخر امتصاص الحرارة 15 ساعة.

كذلك تعزل المنازل الطينية الصوت وتقاوم الحريق، ويشير قنبر إلى أنه يمكن إعادة تدويرها بسهولة إما بإعادتها لحالتها الأصلية أو تقليل الأنقاض إلى الحد الأدنى عند الهدم، وتعتبر مادة تشييد مجانية لتوافرها وسهولة استخدامها.

ويكلف بناء بيت صديق للبيئة 93.5% أقل من تكلفة بناء منزل خرساني، إذ يشير الخبير المعماري البيئي أيمن ملوك، إلى أن تكلفة تشييد منزل خرساني هي 8 آلاف جنيه لكل متر تقريبًا، أي 600 ألفًا لمساحة 75 مترًا، بينما يكلف منزل طيني مكون من دورين على نفس المساحة في محافظة أسيوط قرابة 40 ألف جنيهًا، وتقل التكلفة في محافظة الوادي الجديد، وفقًا لمتخصصين.

لكن الحياة ليست وردية

لهذه المنازل بعض العيوب أيضًا، فحوائطها، بحسب قنبر، إنشائية وبالتالي يجب أن تكون سميكة، ما يُقلص مساحة المنزل، ويجعل فرص التعديل في المبنى منعدمة، وغير مقاومة للرطوبة أو الأمطار، ما يجعل عمرها قصير، والطين بيئة خصبة لحياة القوارض والحشرات وبعض الحيوانات.

كذلك فإن الجدوى الاقتصادية لمنازل الطين ضئيلة، ويرجع عمرو عصام الباحث في العمارة البيئية، إلى قلة عدد الأدوار التي يمكن بناءها بالطين، وبالتالي فهي غير مناسبة للمدن التي ترتفع فيها أسعار الأراضي، موضحًا أن تشييد مبنى طيني مكون من 8 أدوار، يحتاج حوائط عرضها متر في الدور الأرضي.

ولكن يُمكن التعامل مع العيوب السابقة باستخدام بعض الإضافات وتطوير طرق البناء ومعالجة مشاكل الطين، كما يذهب الدكتور أيمن ملوك مؤلف كتاب البناء بتربة الأرض، الذي يرى أن المنازل الطينية تعيش أطول عندما يبنيها مُتخصصين، وهم يتوافرون بكثرة في محافظتي أسوان والمنيا، وقد استعان المعماري حسن فتحي بعمال من هاتين المحافظتين لتشييد قرية القُرنة الجديدة، المبنية بالكامل من الطين، مشيرًا إلى أن هناك منازل طينية موجودة منذ مئات وآلاف السنين.

 

ويوضح ملوك ثلاثة طرق حديثة للبناء باستخدام تربة الأرض: الأولى استخدام التربة المكبوسة compressed earth block في صنع الطوب ومادة اللحام، حيث تُستخدم مكابس يدوية أو هيدروليكية لكبس الطوب وتترك لتجف عدة أيام، وتُخلط تربة الأرض مع مواد تزيد تماسكها إذا كانت ضعيفة أو كثيرة الأملاح، مثل الجير أو الأسمنت بنسبة لا تزيد على 10%، مؤكدًا أن تلك الطريقة رائجة، ويمكن صناعة طوب به ثقوب توضع داخلها قضبان من الحديد لزيادة قوة الحائط.

أما الطريقة الثانية فهي البناء بالتربة المدكوكة rammed earth wall وهذه الطريقة غير منتشرة في مصر وتكاليفها أعلى نسبيًا، وهي عبارة عن شدة خشبية أو حديدية توضع التربة داخلها وتُدك كل 25 سم، باستخدام مدك كهربائي، ولا تحتاج لمحارة أو دهانات وتنتج حوائط جميلة، لاختلاف درجات ألوان التربة المستخدمة.

أما الطريقة الثالثة والأرخص في البناء الحديث بتربة الأرض، وفقًا لملوك، فهي البناء باستخدام شكائر الرمل earth bag، حيث تُرص فوق بعضها لتشكيل حوائط، ويكون السقف نصف أسطواني (طوب أو شكائر رمل)، وهي طريقة بسيطة وفعالة جدًا تستخدم في المناطق الفقيرة أو حال حدوث كوارث.

ويزكي ملوك الطريقة الأولى من التربة المكبوسة، ويعتبرها الأقل عيوبًا، ولا تحتاج سوى ماكينة كبس جيدة، أما التربة المدكوكة فتحتاج لجميع التصميمات وأماكن وجود توصيلات الكهرباء والمياه قبل بدء العمل، لأنه يستحيل إجراء تعديلات عليها، ورغم كفاءة تلك المنازل فلا يوجد خبراء لتنفيذها في مصر، أما شكائر الرمل فعمرها قصير، وحل مؤقت.

وعن التكلفة المالية للمنازل، يقول الخبير المعماري البيئي، إن بناء منزل بالتربة المكبوسة مساحته 100 متر يكلف 350 ألف جنيه تقريبًا (عمره 100: 200 سنة)، وتكلفة منزل مبني بالتربة المدكوكة نفس المساحة تزيد على 600 ألف جنيه (عمره أكثر من 200 عام)، بينما تكلفة بناء منزل من شكائر الرمل تكاد تكون منعدمة (عمره 30 سنة تقريبًا)، وتكلفة بناء منزل من الخرسانة يكلف 800 ألف جنيه تقريبًا (عمره 70: 120 سنة).

لم يلجأ الفراوني في قريته إلى أي من الطرق الثلاثة رغم ذلك، وإن كان استخدم في بناياته الرمل مع الطين لمنحها صلابة تجعلها تصمد لسنوات كثيرة، معولًا على القدرة التي سبق أن صمدت بها بيوت المصريين اللبنية لعمر طويل. إلا أن مبانيه تتميز بالتكنولوجيا التي مكنته من إضافة ألواح طاقة شمسية تمدّه بالطاقة اللازمة، وهو ما يبشر، في ظل اتجاه كثيرون للبيوت الصديقة للبيئة، بتطور قريب في طرق تشييدها وانتشارها.