في أطول جلسة شهدها مجلس الشيوخ منذ بدء عمله في 2020، قضى وزير التربية والتعليم رضا حجازي خمس ساعات تحت قبة البرلمان، متحدثًا عن مشاكل التعليم التي أعرفها وأعيشها منذ طفولتي، وأعاني مرارتها مجددًا مع ابني، ما بين صعوبة المناهج وعدم جاذبية المحتوى، وضغوط امتحانات لا تختبر إلا قدرة الطالب على الحفظ، وضعف الأنشطة التي تنمي المواهب والمهارات، بل غيابها تمامًا في عدد كبير من المدارس.
في مثل تلك الجلسات التي تمس حياتنا اليومية، ترتبك مشاعري، لا يمكنني الفصل بين الأم والصحفية، فالمهمتان تزيدان من إدراكي بطبيعة تأثير المناهج التي تؤرق البيوت، وتضع الأطفال في منظومة تحرمهم من الاستمتاع بطفولتهم، تعزز القهر وتحول الإنسان لآلة، وتتساوى في ذلك المدارس الحكومية التي تعتبرها الحكومة مجانية، والمدارس التي تنفق فيها الطبقة المتوسطة عشرات الآلاف في محاولة لتحسين أوضاع أطفالها.
الاثنين الماضي، حضر حجازي متأخرًا عن موعد جلسة خصصت للرد على طلبات مناقشة عامة مقدمة من أعضاء الشيوخ بشأن أزمات العملية التعليمية، التي تمثّلت أبرز عناوينها بنظرهم في هجرة المدرس والطالب من المدارس، والعقبات التي تواجه أطفال التوحد في الالتحاق بالمدارس، وكيفية "استعادة المدرسة المصرية ريادتها التعليمية في إطار رؤية الجمهورية الجديدة".
واستمع الوزير لكلمات الأعضاء، وسجل مساعدوه ملاحظات النواب الخاصة بالدروس الخصوصية وسبل مكافحتها، وتكدس الفصول، وعجز المدرسين، وعيوب المناهج، والصعوبات التي يواجهها أطفال التوحد وأسرهم في الالتحاق بالمدارس.
"احكي يا ابن المدارس"
استهل حجازي كلمته باعترافه بأربع مشكلات أساسية في منظومة التعليم هي: عجز المعلمين، وكثافة الفصول، ونقص المباني، والمناهج المكدسة. لينتقل منها إلى غياب الطلاب، مشيرًا إلى أن الحضور في المدارس وصلت نسبته إلى 87.3%، وباقي الطلاب كما قال الوزير "3 ثانوي و3 إعدادي الشهادات الحضور فيها نسبي".
الوزير الذي يصدق أرقام الحضور التي تصله ويعتبرها إنجازًا، يبدو أنه يقبل تغيب طلاب الشهادات عن المدرسة، ما يعني اعتمادهم على الدروس الخصوصية بالكامل، التي يدعي العمل على مواجهتها والحد منها.
ويعتقد حجازي أن قراره بتطبيق يوم رياضي ويوم النشاط الفني والثقافي، أعاد الطلاب مرة أخرى للمدرسة. لكنه لم يوضح الوزير نسب المدارس التي طبقت القرار، وهل تم تطبيقه يومًا واحدًا فقط خلال الفصل الدراسي الأول أم بشكل منتظم؟ وتجاهل طبيعة المدارس التي يستحيل تطبيق القرار فيها لافتقارها مساحات تسمح بتنفيذ التجربة، أو عدم وجود مدرسي أنشطة يعملون فيها، أو مدارس الفترات القصيرة المتعددة التي ينتهي بها اليوم الدراسي في الحادية عشر صباحًا، فيكون الوقت عزيزًا لدى إدارة المدرسة التي لا تجد زمنًا كافيًا للانتهاء من المناهج الأساسية فتعد اليوم الرياضي رفاهية غير ضرورية.
أكذوبة التقييم
في حضرة الشيوخ، روّج حجازي لعهد جديد من التعليم يختلف عما نعرفه، مشيرًا لاعتماد أسلوب التقييم الذي يدفع لتطوير مهارات البحث ولا يقيس القدرة على حفظ المعلومة، يقول "إحنا اللي اختزلنا التعليم في اختبار والطالب مهتم يجيب الدرجة فبيروح السناتر والدروس الخصوصية"، مبشرًا بمرحلة تعليمية قائمة على التفاعل والأنشطة "لم تعد المعلومة هي الهدف، ليس الإلمام بالمعرفة الكاملة الهدف، ولا يتمكن إنسان أي كان في تخصصه من جمع المعرفة، لكن الموضوع كيف نحصل على المعرفة".
كلمات حجازي في الحقيقة تثير الدهشة والغضب، فكأنه يتحدث عن منظومة لا نعرفها ولا نعيش يومياتها في بيوتنا، الوزير الذي يكرر الحديث في خطابه عن آليات جديدة للتقييم من المفترض أن تنطبق على المناهج المستحدثة للوزارة، خاصة في الصف الرابع والخامس الابتدائي، يبدو أنه لا يعرف شيئًا عن نماذج الامتحانات الشهرية التي يؤديها الطلاب، ولا يدرك ما يحدث في اختبار المهام الأدائية المفروضة على الطلاب منذ العام الماضي، والتي توضع من قبل الإدارات التعليمية.
لكن بما إني في قلب "المعمعة"، دعنا نتعرف على شكل الامتحان والتقييم الذي يتعرض له الطلاب، فتستمر عملية تحويلهم لآلات لحفظ المعلومات لجمع الدرجات في تكرار للأسلوب الذي يدعي حجازي انتهاءه، فامتحان العلوم يقيس حجم المعلومات التي حفظها الطالب، وأسئلة الدراسات الاجتماعية عن مفهوم مقياس الرسم وتعريف الجبل وتفسير تنوع المحاصيل الزراعية في مصر والمفهوم العلمي للقارة، وجميعها أسئلة تعتمد إجابتها على الحفظ.
بينما نجد الكتاب المدرسي يتضمن أسئلة للنشاط في نهاية كل درس، تعتمد على إدارة مناقشة عامة في الفصول والبحث، لكن لا يتعامل المدرسون مع هذا الجزء، وفي أحسن الأحوال يوزع المدرس "إجابات نموذجية" لأسئلة النشاط على الطلاب، لحفظها أيضًا.
هل يعلم الوزير بما يحدث في هذه التجربة التي تدخل في إطار استراتيجية تطوير التعليم؟
خلال الجلسة حاول حجازي توجيه رسالة طمأنة لطلاب الصف الرابع والخامس الابتدائي "هتنبسطوا من المناهج في الفصل الدراسي الثاني"، ومن موقعي كأم أقول للوزير "كفاية ما تبسطهاش أكتر من كدة".
تجاهل أطفال التوحد
بمجرد تلقي الصحفيين لجدول الجلسة العامة، كان طلب المناقشة العامة الموجه من عضوة المجلس دينا هلالي بشأن مصاعب اندماج الأطفال المصابين بالتوحد في العملية التعليمية، أولوية بالنسبة لي، فالموضوع تعاني منه آلاف الأسر التي لديها أطفال طيف التوحد، وتتعسف المدارس في تنفيذ القرار الوزاري رقم 252 لسنة 2017، بشأن نظام دمج الطلاب ذوى الإعاقة، والذي ينص على قبول التلاميذ ذوي الإعاقات البسيطة بالفصول النظامية بمدارس التعليم العام الحكومية والمدارس الخاصة ومدارس الفرصة الثانية والمدارس الرسمية للغات، وهو ما تتعسف بعض المدارس في تنفيذه بحجة اكتمال الأعداد وعدم وجود أماكن شاغرة.
أما الوزير، فتجاهل مضمون طلب المناقشة الذي طالبت فيه هلالي بتبني استراتيجيات تكييف وتجهيز المدارس الحكومية لمتطلبات طلبة التوحد، لإتاحة الفرصة كاملة أمامهم في الحصول على التعليم، ولم يقدم إجابات ولم يعد بتدخلات تجاه المدارس التي تتعسف في قبول أطفال طيف التوحد، واكتفى بتوضيح أن امتحانات أصحاب الإعاقات الذهنية ستتضمن أسئلة موضوعية بنسبة 100% بعدما كانت الأسئلة المقالية 50% من الامتحان، واستعرض أعداد طلاب الدمج 108 ألف طالب في مدارس الدمج و9 آلاف معلم للتربية الخاصة، وغرف مصادر و16 ألف مدرسة بها دمج بشكل جيد، على حد تعبيره.
الوزير يخشى الحوامل
السقطة الأكبر التي وقع فيها الوزير كانت خلال حديثه عن عجز المعلمين، عندما ذكر أن وجود حوامل من بين النساء الراغبات العمل مُدّرسات، يشكل بالنسبة إليه "مشكلة"، تمهيدًا لإعلان نيته تأجيل تعيين الحامل التي تتجاوز الاختبارات المطلوبة، معتبرًا أن مجرد الالتزام بتعيينها لاحقًا يشكّل "احتفاظًا بحقها".
وتناول الوزير الاختبارات التي أجراها الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة لتعيين 30 ألف معلم، موضحًا أن "المشكلة" التي تؤرقه في تعيين الناجحين في الاختبار، والبالغ عددهم 27 ألفًا هي وجود "نسبة كبيرة حوامل من الإناث، أعين وأتعامل إزاي بعد كده"، واستدرك "مادام نجح في امتحان التنظيم والإدارة احتفظ بحقه في التعيين ممكن ألحقه بالعمل في الدورة الحالية أو الدورة اللاحقة لكن حقه يحتفظ به".
حديث الوزير يقصد المعلمات اللائي تقدمن في مسابقة تعيين 30 ألف معلم، والمقرر أن يجري التعاقد مع الناجحين منهم خلال أيام، كأول دفعة، ضمن قرار الحكومة بتعيين 150 ألف معلم على 5 سنوات لسد العجز الذي وصل إلى 400 ألف معلم.
كلمات حجازي حملت تمييزًا واضحًا ضد النساء، وعكست تفكير رجل الدولة في دورهن في المجتمع، وزادت تكريس المخاوف من التأثير السلبي للدور البيولوجي على النساء العاملات وجودة عملهن، خاصة وأنها تأتي في سياق مناخ عام تعاني النساء فيه من تمييز في سوق العمل في مصر، ويواجهن عقبات تقيد فرصهن الاقتصادية كعدم المساواة بين الرجال في الحقوق واتساع فجوة الأجور، وإلقاء أعباء أعمال الرعاية في المنزل عليهن وعدم وجود وظائف مناسبة مع متطلباتهن.
وبالإضافة إلى قانون الخدمة المدنية الذي يحظر التمييز بأشكاله المختلفة بين الموظفين، فإن مصر من الدول التي وقعت على اتفاقية التمييز (في مجال الاستخدام والمهنة)، والتي تحظر بدورها على أي تمييز على أساس الجنس في أماكن العمل وتعتبره "انتهاكًا للحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".
الأسئلة الغائبة
بينما كان الوزير متأرجحًا في إجاباته عن الأسئلة التي طُرحت عليه، بين الأحاديث المكررة وتلك التي تتضمن تمييزًا ضد النساء، ظلت هناك أسئلة غائبة لم يطرحها أحد.
أتصور بصفتي أمًّا وصحفية، أن أحد أهم هذه الأسئلة الغائبة التي يتعيّن أن تطرحها السلطات التي تراقب الأداء الحكومي، متعلّق بالجذر الذي ينبت لاحقًا أزمات كنقص المعلمين وتكدس الفصول وبناء المدارس وتطوير المناهج؛ مخصصات التعليم. تسألني عن تعليم جيد أسألك عن التمويل. هكذا ببساطة.
في موازنة العام المالي الفائت 2021-2022 تجاهلت الحكومة للعام السادس على التوالي التزامها بالحد اﻷدنى الدستوري للإنفاق على التعليم، إذ ألزم الدستور في المادة 19 بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية.
ولكن ما يحدث في الواقع هو أن نسبة الإنفاق على التعليم والتعليم العالي لم تصل إلى نصف ما يقرّه الدستور كحد أدنى، بحسب ما رصدته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
انتهت الجلسة، لأعود لمنزلي استعدادًا لامتحان الحساب، وأحاول تحفيظ ابني عدد زوايا وأوجه وجوانب الأشكال متعددة الأضلاع، التي تصر معلمته على ضرورة "حفظها كما هي"، نافيةً بثبات وجود أي طرق أخرى للحل.