بيكساباي برخصة المشاعة الإبداعي
سور حديدي

ولاد المتّاكلة

السلطة تأكل مصر بتفويضها وتترك للمجتمع كسور المتر

منشور الاثنين 6 مارس 2023 - آخر تحديث الثلاثاء 7 مارس 2023

- "طب ما أنت ابن الدايرة أهو".

قالها المخبر، على الأرجح، لاسترضاء الضابط الذي استوقفني في أحد شوارع القاهرة بسبب ما عده تجاهلًا لتعليماته بضرورة عبوري إلى الجانب الآخر من الطريق. كنت وصلتُ إلى ذلك المفترق من الشارع الذي تعبره لتكتشف أنك ممنوع من استخدام الرصيف فيما خلقه الله له، وأن "السلطة" التي تعاني من ذهان أمني مزمن، بنت سياجًا حديديًا ضخمًا يمنعك من استكمال المشي على الرصيف ويجبرك على المشي في نهر الطريق.

ذلك السياج على ما يبدو سينجح فيما لم ينجح فيه السور الضخم المرتفع الذي يحجب البناية عن الشارع، وما يعجز عنه أفراد الأمن المنتشرون في المنطقة وعلى الرصيف ذاته، وهو تأمين المكان من الأخطار المحيقة به وبنا دائمًا وأبدًا.

نزلت مضطرًا إلى نهر الشارع بحذاء الرصيف المسور كما فعل غيري. تصادف وصولي إلى تلك المنطقة في لحظة تاريخية فارقة تتكرر كثيرًا هناك؛ تلك التي تسبق عبور قافلة سيارات مفيمة يجلس في أحدها مسؤول ما، لتخترق الطريق بالعرض قادمة من شارع مجلس الشعب إلى زخانيق جاردن سيتي ثم كورنيش النيل.

بضعة أمتار في الشارع ستقطعها القافلة بالعرض في مدة لن تزيد عن الثواني العشرة، تكرس لها الدولة في كل مفرق عشرات الضباط والعساكر والمخبرين والبصاصين ورجال المرور وأجهزة التشويش على الاتصالات، وذلك الضابط الذي نهرني على البُعد لأترك هذا الجانب من الطريق إلى الجهة المقابلة.

الدايرة واللي مدورينها

سماعات الأذن والموسيقى التي كنت أستمع إليها شتتت انتباهي عما يجري حولي فلم ألحظ الضابط. كنت غارقًا في أفكاري حول ذلك التغول المستمر على المواطن الغلبان الذي يمشي في الشارع دون قافلة. تذكرتُ مبنى وزارة الأوقاف في قلب القاهرة الذي يحده سور حديدي مشابه، عطّل الرصيف المجاور للوزارة ومنع الناس من استخدامه ودفعهم للمشي في عرض الطريق دونما سبب واضح.

في زيارة سابقة للقاهرة دخلت شارع الفلكي بعد تولي وزير التعليم الحالي منصبه بيوم أو اثنين. منعني الأمن وغيري من المشاة من دخول الجزء الذي تحتله الوزارة، وفٌرض علينا اتخاذ طريق "رأس الرجاء الصالح" للدوران حولها من أجل الوصول لمحطة سعد زغلول التي يقصدها يوميًا الآلاف من الغلابة، معدومي المواكب، السائرين على الأقدام.

غاية السلطة هي استغلال السلطة

أفقتُ من تأملاتي على صياح الضابط، وعندما خلعت السماعات من أذني كان يرغي ويزبد لأنني تجاهلت التعليمات. سحب بطاقتي الشخصية وناولها لمخبر يحمل جهاز لاسلكي وهو يصرخ "شوف لنا عليه إيه ده". انتحى المخبر جانبًا ثم عاد بالبطاقة. لم يجد ما يؤاخذني عليه فأراد بالإهانة المبطنة إرضاء الضابط.

- "طب ما انت ابن الدايرة أهو".

-  نعم؟

-  يعني من سكان دايرة القسم.

تناولت البطاقة ونظرت للضابط متسائلًا "خلاص كده؟" رد بالنظرة النارية نفسها التي تنبئ عن شعور عميق بالإهانة والتهديد. عبرت الطريق وأنا أفكر في السيناريوهات المظلمة التي كان يمكن أن يسفر عنها ذلك الحادث العابر.

المسؤول يعبر الطريق.

"عااااااااااااااااا".

نظرت خلفي فرأيت طليعة الموكب. راكبو الدراجات النارية البيضاء منتفخة البطون، تزين مؤخراتها أعمدة قصيرة، تعلوها مصابيح إضاءة حمراء تدور فلاشاتها في سرعة لتبعث إحساسًا بالأهمية والخطورة. يعقبها عدد من السيارات الفخمة السوداء، ثم مجموعة أخرى من الدراجات النارية يتلفت قادتها حولهم في جدية مصطنعة وهم يعبرون تلك الأمتار المعدودة بعرض الشارع.

الضباط والمخبرون يتطلعون لموكب السيارات في بلادة، بينما يحدق المارة الواقفون على جانب الطريق في النوافذ الزجاجية المغلقة على أمل التعرف على شخص المسؤول الكبير. لم يدم المشهد المبهر سوى لحظات، عاد بعدها الشارع لصخبه وضوضائه، وتدفقت سيارات وباصات عانى ركابها من احتباسهم في الشارع لفترة غير قليلة سبقت الحدث الجلل.

في رائعته "1984" يقول جورج أورويل "إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكمًا استبداديًا لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، وغاية السلطة هي السلطة".

السلطة تتغول وتتمدد وتتحول عن تفويضها الأساسي. تنسى أنها تمثل جموع المواطنين وتتجاهل واجبها في الحفاظ على مصالحهم وحمايتها، وينسي من فوضوها مسوغات التفويض، لننحدر جميعًا إلى عالم أورويلي بامتياز؛ غاية السلطة فيه هو تثبيت دعائمها، وزيادة نفوذ موظفيها، ومداعبة غرورهم وذواتهم المنتفخة.

غاية السلطة هي استغلال السلطة، أو كما قال أورويل مرة أخرى: غاية السلطة هي السلطة.

هتاكلوا مصر يعني؟

في خطاب للرئيس السيسي عام 2014 تساءل مستنكرًا: هتاكلوا مصر يعني؟ كان الرئيس محقًا ولا يزال. سيادة الرئيس: لقد أكلوا مصر بالفعل خبزًا وغموسًا، ولا يزالون يأكلونها شارعًا شارعًا، ورصيفًا رصيفًا. لا يوجد للمواطن المصري حق في رصيف، أو شارع، أو نهر، أو شاطئ.

الدولة تتمدد والمواطن ينكمش، والسلطة انتزعت تفويضها لتأكل الشوارع والميادين والحدائق وشواطئ البحار وضفاف النيل من الإسكندرية إلى أسوان وتعيد إنتاجها وتأجيرها لمن يدفع أكثر.

في السنوات الماضية أكلت السلطة ما طالته من مساحات عامة لتُبنى عليها مقاهٍ، ومطاعم، وفنادق ومنتجعات. فرقت ما طالته أيدي ممثليها، لتمنح استقطاعات من المساحات العامة المحرمة لمختلف أفرع الشرطة والقوات المسلحة، وأندية القضاة ونقابات الإعلاميين وغيرهم. لم يعد هناك معنى لكلمة "حرم النهر" أو "حرم البحر". لم يعد هناك معنى للحرم.

قل لي كيف يبدو فضاؤك أقُل لك من أنت

يعكس استخدام الفضاءات العامة فلسفة الدولة وعلاقتها بمواطنيها. منذ سنوات كنت في زيارة لمدينة مديجين الكولومبية، مسقط رأس لورد المخدرات بابلو إسكوبار وواحدة من أخطر مدن العالم في الثمانينيات والتسعينيات. استوقفتني شابة توزع منشورات في سياق انتخابات العمودية التي كانت دائرة في المدينة حين ذاك.

على صفحة من الورق المصقول وضع العمدة المرشح جدولًا يقارن حال المدينة قبل وبعد عموديته، مركزًا على عدد الأشجار التي زُرعت، وعدد الحدائق والمساحات الخضراء والأماكن العامة المفتوحة للأنشطة الثقافية والفنية، والمزودة بشبكات الإنترنت التي أضيفت للمدينة.

التخطيط العمراني وإعادة تصميم المساحات العامة ضمن عدد آخر من المعايير غير وجه المدينة الكولومبية، فأصبحت واحدة من أجمل المدن الجاذبة للشباب والمتقاعدين بعد أن كانت ساحة حرب بين الدولة وتجار المخدرات وواحدة من أخطر المدن في العالم. في استطلاع أجرته مجلة "تايم آوت" البريطانية في العام الماضي، احتلت المدينة المرتبة الثالثة في قائمة أفضل مدن العالم للمعيشة.

البرازيل مثال لدولة عصف بها الفساد والاضطرابات السياسية، ولكن حتى في أحلك الظروف لم يتمكن أحد من بيع شواطئها أو تأجيرها لناد أو مطعم أو تخصيصها لسلاح أو نقابة

قد لا يكون ذلك غريبًا إذا عرفنا أن دستور كولومبيا (1991) كان له السبق في تأكيد أهمية الفضاءات العامة. "واجب الدولة أن تحمي الفضاءات العامة (أو المشتركة) وتخصيصها للاستخدام العام، وهي أولوية تتجاوز المصالح الفردية". (مادة 82).

بالمنطق نفسه تعاملت كولومبيا مع مدينة خطرة أخرى وهي العاصمة بوجوتا التي بدأ عمدتها في التسعينيات جهود إعادة تخطيطها عمرانيًا، والتوسع في فضاءاتها العامة للمواطنين والأطفال، وزيادة رقعة المساحات الخضراء وطرق المشاة لتصبح العاصمة واحدة من النماذج التي تدرس في أكاديميات التخطيط العمراني.

دستور الإكوادور (2008) بُنى على ما ورد في الدستور الكولومبي وتجاوزه، مؤكدًا أهمية أن يتمتع الأفراد بحق استخدام الفضاءات العامة والمشاركة فيها كمساحات للتواصل الثقافي والالتحام الاجتماعي ودعم قيم المساواة والتنوع، ولهم أيضًا حق نشر وترويج المظاهر الثقافية دون أي قيود، بما لا يخالف القانون ويتماشى مع الدستور. (مادة 23).

أين ذهبت الحدائق والشواطئ والأشجار؟

لا توجد الإشارة لحق استخدام المساحات العامة في كثير من الدساتير ومنها الدستور المصري، ولكنه يعد امتدادًا طبيعيًا لكثير من الحقوق التي ينص عليها عادة. وفي أغلب المدن والبلدان الساحلية التي زرتها والتي عرفت بشواطئها الممتدة لم أجد مثيلًا لما حدث في مصر. البرازيل مثال لدولة عصف بها الفساد والاضطرابات السياسية على مدى عقود، ولكن حتى في أحلك الظروف لم يتمكن أحد من بيع شواطئها أو تأجيرها لنادٍ أو مطعم أو تخصيصها لسلاح أو نقابة.

في مدينة ريو دي جانيرو تستطيع أن تمشي على شاطئ كوبا كابانا الشهير الذي يمتد لنحو ستة كيلومترات دون أن يحتجب البحر عن ناظريك أكثر من مرتين أو ثلاثة. الشاطئ الشهير المحبوب كله عام واستخدامه متاح للأغنياء والفقراء بل والمعدمين.

الشواطئ العامة والحدائق المجانية حق أساسي في معظم المدن والبلدان. مجرد التفكير في وضع قائمة بأسماء الحدائق المجانية المفتوحة في المدن الكبري هو نوع من العبث. فالقائمة حتمًا ستزيد عن عدد الكلمات المسموح بها في المقال.

أما في مصر فالمساحات العامة تتآكل كما تتآكل الشواطئ والشوارع والحدائق والميادين والحقوق. أين شواطئ الإسكندرية العامة التي كنا نتردد عليها منذ عقدين أو ثلاثة؟ كيف يمكن لك أن ترى البحر في مدينة الغردقة التي اختفت شواطئها خلف البنايات والفنادق بطول المدينة؟ لماذا اختفت شواطئ شرم الشيخ خلف البوتيكات والبازارات وأسوار الفنادق والمنتجعات؟ من الذي اتخذ قرارًا برصف ثلاثة أرباع حديقة الأزبكية، أكبر حدائق القاهرة؟ أين ذهبت حدائق عابدين، وأغاخان، وحلوان؟ وماذا حدث لحدائق القناطر الخيرية؟

لكل مواطن نصيب

منذ عقود قليلة كان يمكن للأسرة المصرية البسيطة أن تجهز سندوتشاتها وتحمل مشروباتها وتتوجه إلى حديقة عامة أو شاطئ مفتوح ليلعب الأطفال ويسري الكبار عن أنفسهم. أما اليوم فلا تكاد توجد مساحة واحدة لم يتم تسويرها ووضع كشك لتحصيل تذاكر الدخول على بوابتها.

طبقًا لـتقارير نشرتها مبادرة تضامن المعنية بالتخطيط العمراني، يبلغ نصيب الفرد في دبي من المساحات الخضراء العامة نحو 12 مترًا مربعًا، وفي تونس تقترب من 15 مترًا، وفي أديس أبابا 36 مترًا، والدار البيضاء 55 مترًا. اتحداك أن تتمكن من تخمين ما يتمتع به المواطن المصري في الإسكندرية أو القاهرة. الواقع سيتجاوز خيالك لأنك المساحة المتاحة للمواطن المصري في المدينتين لا تقاس بالأمتار المربعة وإنما بكسور المتر.

نصيب القاهري من المساحات الخضراء هو ثمانية أعشار المتر، أما السكندري فله نصف ذلك. ولا يفوتنا أن نقول إن تقارير مبادرة تضامن نشرت في موقعها منذ نحو عشر سنوات اعتمادًا على دراسات أجريت بعضها قبل ذلك بسنوات. بعبارة أخرى فإن هذه السنتيمترات كانت موجودة قبل أن تطال معاول "التطوير" مؤخرًا ما تبقى من كسر المتر في المدينتين.

الفضاءات التشاركية العامة ليست ترفًا ولها دور محوري في تعزيز اللحمة الاجتماعية، والتواصل الثقافي، والسلامة النفسية. منظمة الصحة العالمية تقدر أقل مساحة يحتاجها الفرد بنحو تسعة أمتار مربعة، بينما تبلغ المساحة الخضراء المثالية للفرد نحو خمسين مترًا، والدراسات تؤكد أن تلك المساحات الخضراء لها دور محوري في تقليل معدلات التوتر، والاكتئاب، والقلق وتحسين الصحة العامة.

من هنا تبرز أهمية أن تعيد "السلطة" في مصر تقييم جهودها الحثيثة لـ"التطوير"، وأن تهدئ من وتيرة سحب الطرق والحدائق والميادين العامة من تحت الأقدام، وظلال الأشجار من فوق الرؤوس، ومشاهد الطبيعة والبحار ونهر النيل من أمام العيون. أن تتوقف عن معاملتنا باعتبارنا "أبناء الدايرة"، بعد أن أحالتنا وبجدارة إلى أولاد الدولة "المتاكلة".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.