فيسبوك
صورة من فعالية للتضامن مع خالد لطفي

سجن يشبه صخرة سيزيف: عن خالد لطفي ورعب العقاب

منشور السبت 11 يناير 2020

ظلت هذه الصفحة بيضاء فترة طويلة وتأخر ظهور سطورها كثيرًا، بحثًا عن مدخل مناسب، وعن فكرة تصلح للكتابة مرة أخرى عن خالد لطفي. خالد لطفي الذي يواجه عقابًا مرعبًا قُصد به أن يكون هكذا، مرعبًا، وهانحن قد ارتعبنا بالفعل.

تتنوع أشكال العقاب منذ ظهور الحاجة إليه. لم يكن في البدء ثمة سجن، ثم اخترعه الإنسان، كان العقاب يُنفذ أولا من قبل الإلهة، كعقاب دفع الصخرة من سفح الجبل إلى قمته، هذا العقاب تحدثت عنه الأساطير كثيرا، وتحدث عنه المؤلفون، وتحدث عنه كُتاب الأحاجي، وحتى استلهمه أرباب الأعمال عندما اختلقوا وظائف عبثية، تشبه كثيرًا هذه الفعلة، فعلة دفع الصخرة من أسفل إلى أعلى، مع العلم المسبق أنها ستتدحرج، وتهوي مرة أخرى، وأنه سيتعين على الإنسان المُعاقب أن يعيد الكرّة.

شهد كثيرون هذا العقاب، فمن حمل شعلة النار إلى البشر لينقذهم من ظلمتهم ويمنحهم الدفء، كان يجب الانتقام منه، والانتقام تمثل في صيغة عقابية لا صيغة انتقام عادي، كإنهاء حياته دفعة واحدة؛ شنقًا أو سحقًا، وأحيانًا التمثيل به، أو تقطيع أوصاله، بل كان العقاب يتمثل في ضرورة فرض عليه فعل هزلي، ساخر، شديد البشاعة في نفس الوقت، وهو أن يلتهم نسر من كبده كل ليلة، ينهش قطعة، فتنمو طيلة الليل، إلى أن يأتي النسر مرة أخرى في الصباح وينهش منه مرة ثانية، وهكذا..فعل متكرر لا ينتهي، هزلي، عبثي، لكنه يحمل في طياته العذاب الأليم.

تطورت أشكال العقاب وتنوعت بين السلخ في الميادين، التعليق والتعذيب، الإعدام في الساحات، بتر الأطراف والصلب، التعليق من فروة الرأس، وكانت هذه الوسائل العقابية البشعة تنفّذ في الساحات وسط العامة، بغرض بث الرعب وتحقيق الردع، نشر الخوف وكسر الأعين، ووأد أية أفكار إجرامية مماثلة لما ارتكبها المُعاقبون قد تنبت في أنفس آخرين، لذا كان يتم تنفيذ هذه الإجراءات العقابية على الملأ ليشهدها جموع من الناس والعامة.

في كتابه كل رجال الباشا يشير الباحث في التاريخ الدكتور خالد فهمي أستاذ الدراسات العربية الحديثة بجامعة كمبريدج، إلى كتابات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن تاريخ القانون والأنظمة العقابية في أوروبا الغربية، تحديدا كتاب فوكو المراقبة والعقاب الذي نقد فيه الأسس الفلسفية للحداثة، وعرض سمات القانون العقابي في فرنسا وفي أوروبا الغربية بشكل عام أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، إذ كان من المعروف أن من أهم سمات هذا التطور في القانون العقابي الفرنسي هو تراجع الاعتماد على التعذيب البدني كوسيلة للعقاب.

وحسبما يقول خالد فهمي في الكتاب "تراجع استخدام المشانق والمحارق والدواليب التي كان المُعاقبون يقطعون عليها والعواميد التي كان يُربطون عليها خلال الجلد، حتى كاد ينعدم في القرن التاسع عشر، وأصبح السجن أهم وسائل العقاب الحديثة، ويرجع فوكو هذا التحول ليس إلى أن التعذيب قاس وغير إنساني، بل حسبما يرده فوكو إلى الاقتصاد السيئ للسلطة، فإذا كانت فعالية التعذيب تكمن في حضور الجمهور، فإن هذا الحضور نفسه هو المشكلة، ومشكلته أنه حضور ملتبس ومشوش، إذ كثيرا ما ينقلب مسرح التعذيب من العبرة إلى التعاطف، ومن الانتقام إلى التسامح مع المُعاقب، وخاصة عندما تدرك الجموع أن العقوبة جائرة، وأن الحكم ظالم، فهنا يتحول المُعاقب إلى بطل، فالتحول إلى عقوبة السجن لم يكن إذن وليد حساسية تجاه الإنسانية إنما انبثق من مشكلات واجهت مؤسسات التعذيب".

وهكذا جرى إبعاد المُعاقب عن جسم المجتمع، وصار السجن هو المؤسسة التي تتجلى فيها السلطة الحديثة أفضل تجل، ويطلق فوكو على هذه السلطة الحديثة اسم السلطة الانضباطية وموضوعها الأساسي هو الجسد، جسد الجندي، جسد المريض، جسد التلميذ، جسد المرأة، جسد العامل، جسد المُعاقب، فالجسد إذن هو الحيز الذي تظهر فيه السلطة الانضباطية.

من أجل ذلك، لم يعد من اللائق أن نُعاقب شخصًا ارتكب شيئًا كرهه البعض كسرقة النار ومنحها للبشر بأن نفرض عليه أن ينهش النسر من كبده، أو أن يدفع الصخرة من أسفل إلى أعلى الجبل، بل أن نرسله إلى السجن.

سجن خالد لطفي هو أيضا عقوبة على شيء عادي، ككتابة مقال، كنشر خبر، كتوزيع جريدة، كتناول الإفطار، كإقامة حفل، كتزويج حبيبين، كزراعة قطعة أرض، كشراء شقة، كتزويد سيارة من محطة بنزين بالوقود، كالسفر إلى جزيرة، كاختيار العزلة لمواجهة مشكلات نفسية، كفتح صخرة في جدار يحجب آشعة الشمس، كزرع وردة، كإنبات زهرة، كالتبرع بفص كبد لمريض، كتوليد جنين، كتضميد جرح.

سجن خالد لطفي يأتي ردًا على فعل يشبه إلى حد كبير الأفعال السابقة، فنشر كتاب كان فعلًا لم يعجب البعض، لم يعجب السلطة، وعلى الرغم من أن السلطة هي أب للجميع، أب يجب ألا يبالغ في العقاب، أب يجب أن يحنو كما وعد أن يحنو، إلا أنه مع خالد لطفي بالغ في الانتقام، فليس من المفهوم أن يُدفع خالد لطفي إلى ظلام السجن لنشره كتاب، كما هو ليس من المفهوم أن يدفع سيزيف صخرة من أسفل إلى أعلى الجبل لأنه أفشى أسرار زيوس، أو أن يأكل النسر من كبد برومثيوس لمنحه النار للبشر.

 

خالد لطفي - صورة من حسابه على فيسبوك

خالد لطفي بدأ كفاحه في تأسيس مكتبة تنمية مبكرا، قبل فتحها كان يعمل ولتسع سنوات مدير مبيعات الكتب في شركة تسمى سندباد، وكانت تُعرف أيضا باسم شركة الشرق الأوسط حسبما يشير محمود لطفي شقيقه للمنصة. كانت مهام خالد الأساسية ولتسع سنوات في هذه الوظيفة، هي توزيع الكتب، خاصة كتب سلسلة المكتبات السعودية جرير.

فجأة أغلقت هذه الشركة فرعها في مصر، ولم يجد خالد لطفي وظيفته، كان محمود شقيقه آنذاك طالبا جامعيا، أخذ خالد لطفي على عاقته المغامرة بتأسيس مشروع تجاري، وسط أجواء ملغومة تقريبا، وسط أوقات الكبار فيها كانوا يهربون أموالهم خارج مصر، أوضاع ضبابية، لا تسمح بأية مخاطرة، مودعون يخشون من الغد، وينفقون بتحسب، لاعبون كبار في سوق المال، ينكصون، ويدورون على أعقابهم، أموال رموز النظام الأسبق مجمدة في بنوك عالمية، ووسط كل هذا الغبار، يأتي شابان، يقرران الرهان على شيء من المستحيل أن تلقي عليه حجر نرد؛ الثقافة والكتب. يأتي شابان يقرران رهن حياتهما ومستقبلهما وعمريهما من أجل ماذا؟ من أجل الكتب، نشرها وتوزيعها.

وفي سوق مضطرب للكتاب والكتابة، سوق أوضاعه مزرية، يتربص بأحواله المزورون ومنتهكو حقوق الملكية الفكرية، ينتهكون بكل صلف وفُجر أوضاع هذا السوق، وينثرون على الأرصفة نسخا مزورة من مؤلفات أصلية لكُتاب عرب ومصريين، بيست سيللر أو محدودي التوزيع مرتفعي القيمة، ومع ذلك يأتي شابان، خالد ومحمود، يضعان في وسط البلد تحويشة عمريهما، فيستأجران محلا، أو يتملكانه، ويؤسسان مكتبة، نافذة على الشارع، العابر فيه يفوز براحة النظر إلى حديقة، أو جنة وسط القهاوي أو الكافتيريات والمطاعم.

يهبان النار لكل العابرين، ويمنحان دفء المعرفة، ينالهما ما ينال كل أصحاب مشروع حقيقي من غبار وعنت ومضايقات، ويعانيان معاناة كل من تواجد في الشارع المصري خلال تلك الفترة، إثقال على كاهلهما بفواتير الخدمات، دون النظر إلى أنهما لا يقدمان سلعة متداولة، أو عليها الطلب بإلحاح، يقدمان الثقافة، والكتب، يبيعان الأفكار التي يضعها أصحابها في كتب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، لم يفتح خالد ومحمود قهوة تعرض الشيشة وتساليها، كما لم يفتحا بارا أو محلا لبيع الأنتيكات، ولعلهما لو اختارا أي نشاط من هذه الأنشطة لما قدر أحد على لومهما، أو الاعتراض على خياراتهما، ومع ذلك لم يسلما.

تحديدا لم يسلم خالد، إذ عانى أولا من عنت المزورين، مثله مثل كل بائع كتب شريف لا يتعامل إلا في الكتب الأصلية، عانى من قراصنة الأفكار، وهو يعود بشحنات الكتب من بيروت والشام، فيجد هؤلاء القراصنة في انتظاره كي يبتاعوا ما جلب، ويزورونه، ثم يطرحونه على الأرصفة بأسعار زهيدة وطبعات أرخص، عانى ضمن معاناة الناشرين من التضرر من سوق التزوير الذي يربح كل يوم ويكسب ساحات جديدة في بيئة خصبة تنبت فيها بذور الجهالة وندرة الوعي والرغبة في الكسب السريع وتبرير سرقة الأفكار بمزاعم " الكتب غالية"، و"الناشرين حرامية" ومن ثم كان ابتكاره للحل الذي ظل يردده البعض كالببغاء دون أن يعرفوا تكلفته، كان أن اتجه لعقد اتفاقيات توزيع كتب الناشرين العرب، بعد طبعها طبعات مصرية، في المطابع المصرية، لتوفيرها بأسعار أرخص، لمحاربة سوق التزوير المهيمن على صناعة النشر، والمهدد له، والذي صار الآن يُصدر إلى أوروبا والدول العربية بعدما توسع المزورون، وارتبطوا بعلاقات مع شركات شحن ووكلاء يتلقون شحنات الكتب المضروبة ويعقدون بها جولات لتسويقها وبيعها.

 

نسخ من كتاب الملاك؛ الذي حوكم خالد لطفي وسُجن بسبب نشره

كانت الحرب التي دخلها خالد لطفي عفوية وغير معروف تبعاتها، أن يجلب كتب ناشرين عرب إلى قلب القاهرة، القاهرة التي صارت منغلقة على نفسها، وتحارب نفسها وتكره نفسها منذ زمن، القاهرة التي باتت في آخر عربات القطار، متخلفة عن الركب، مهزومة، تعيش حالة انكسار غير معهودة، لم تعد تجدف من أجل الخروج من دوامتها، بل تُغرق نفسها بنفسها فيها أكثر، تدفن رأسها في رمالها، وتعرقل كل من يرغب أن ينتشلها إلى الصفوف الأمامية للسباق.

كانت تلك هي الحرب. حرب توزيع الكتب التي تموج بأطراف عديدة، أطراف بعضها يكتفي بالمراقبة والصمت تأهبا للحظة الانقضاض على هذا المشروع الوليد الذي نجح في جمع شتات الكتاب وتحويل هدى شعراوي إلى بقعة منيرة، والبعض الآخر يتظاهر بالحبور والسعادة للمشروع، بينما في داخله يحبك أنسجة العنكبوت ليطيح به، شعلة النار أفقدت مصارعين ومحاربين قدامى توازنهم.

مكتبة نجحت فيما عجزت فيه سلاسل مكتبات، وخالد وشقيقه يتفوقان على أسطوات توزيع الكتب أبناء العهود الغابرة، الذين استيقظوا على شعلة النار وهي تضيء صفوفهم الخلفية، فإذا بجذوتها تحرق صدورهم، وتسحب البساط من أسفل أقدامهم، وتُحول بوصلة العابرين وقاصدي الثقافة إلى هذه النقطة الجديدة.

إذا بهذه المكتبة تهز عروش الكبار. الأفذاذ القدامى الذين هيمنوا ثم تحدرت عمائمهم على أعينهم في سنوات الكسل والاطمئنان والركون لما عليه الحال، فإذا هم يهبون من سباتهم لينقضوا على صاحب المكتبة بمطرقة الحقد والغضب والكره والحسد، وإذا أمكن أيضا أن يجلبوا نسرا لينهش خالدًا لجلبوه. هكذا كان يجب لمشروع خالد لطفي ونجاحه الكبير أن يتوقف، ولكن ليس بغلق المكتبة، بل بهدم خالد نفسه، انتزاع أفضل ما لدى الإنسان من نعِم..عمره.

كان الاكتفاء بما فعله خالد لتصحيح الخطأ الذي أغضب من غضب منه بعد نشر كتاب الملاك كافيا، إذ أعدم النسخ، بل إن الكتاب نفسه ظل موضع جدال طويل، إذ فعل الكاتب الصحفي الكبير صلاح منتصر ما لم يفعله خالد لطفي، حيث ظل منتصر ينشر حلقات من الكتاب في أكبر الصحف اليومية الخاصة، فأيهما أفدح؛ نشر حلقات في جريدة أم نشر كتاب؟

وإن كان الكتاب يختار قارئه، فإن المقال أكثر انتشارا من الكتاب، فالمقال لا يختار قارئه، بل كل القراء، المهتمون بالجاسوسية وغير المهتمين. المهتمون بالتاريخ وغير المهتمين ستقع أعينهم على المقال وعلى عامود الأستاذ منتصر. فكيف يُعاقب خالد على نشر الكتاب على نطاق ضيق بينما النشر على النطاق الأوسع حدث ومر صاحبه دون عقاب.

 

غلاف الملاك

نحن هنا بالطبع لا ندعو لعقاب الأستاذ منتصر، ولا ندعو لعقاب أي صاحب قلم أو رأي أو ناشر مقال أو كتاب، إنما نستعرض وقائع تشير إلى أن خالد لطفي هو المستهدف، مشروعه هو المقصود، شعلة النار التي منحها للبشر، لنا، كان مطلوبًا أن تنطفئ.

تصرف خالد لطفي بحسن نية، ونشر الكتاب ذا الموضوع المتخصص في إطار خطته لتوفير الكتب بأسعار مصرية غير مبالغ فيها، وتصرف بسرعة وأعدم الكتاب، فلماذا المبالغة في سحقه، قدم اعتذارا عن فعلته وكان قبلها قد أرسل ليستأذن الرقابة في نشر الكتاب فلم ترد، ولم يجبه أحد، ألا يعد هذا دليلًا على حسن نيته؟ 

لماذا الإمعان في تحطيمه وحرمانه من عمره؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.