تصميم: المنصة

"جوزي مسافر": كيف تبرر زوجات المسجونين السياسيين غيابهم

منشور الأربعاء 1 أبريل 2020

"جوزك اتقبض عليه دلوقتي من المكتبة وقالي أبلغك إنهم أمن الدولة".. مكالمة استقبلتها منال عطية* صباح 9 فبراير/ شباط العام الماضي، من صديق زوجها. سمعت الجملة فابتعدت عن زميلاتها في العمل لتعرف المزيد عن الأمر، فأخبرها المتصل أن زوجها ألقي القبض عليه من المكتبة التي يعمل بها، وليس لديه معلومات لديه أكثر من ذلك، فهو لا يعرف مكانه أو لأين اصطحبوه.

تمالكت السيدة أعصابها وتظاهرت أنه لم يحدث شيء وأنهت المكالمة، ثم ذهبت لمدير المدرسة التي تعمل بها وأخبرته أن والدتها مريضة وستضطر للذهاب إليها، فخرجت من المدرسة للمنزل في منطقة حدائق المعادي، وأغلقت الباب وبدأت تفكر فيما ستفعل، وماذا ستقول للمقرَّبين منها، وهل ستخبرهم أنه تم القبض على زوجها؟

اتصلت منال بوالدتها وأخبرتها بالأمر، فأكدت عليها الأم أن تتكتم عليه، قائلة "قالت لي محدش هيسيبك في حالك لو عرفوا إنه اتقبض عليه وكمان ممكن تتضري في شغلك، اصبري لحد منشوف هيظهر امتى وإيه اللي هيحصل".

عاد أولادها من المدرسة، وسألوها عن والدهم فأخبرتهم أنه سافر في عمل تابع للمكتبة التي يعمل بها، وأعدت الطعام لهم، ثم عاودت الاتصال بزميل زوجها لتحاول معرفة أي معلومات عنه، وذهبت لقسم الدقي، القريب من محل عمل زوجها تسأل عنه ولكن دون جدوى.

الهروب من سؤال "جوزك فين؟"

استرجعت السيدة تلك التفاصيل معي في الزيارة الأسبوعية بسجن طرة للمحبوسين احتياطيًا، والتي كانت شبيهة بتجربتي مع حبس زوجي وليد شوقي طبيب الأسنان، الذي ما زال داخل السجن على ذمة القضية 621 منذ ما يقرب من عام ونصف.


اقرأ أيضًا: اللقاء والفراق في سجن طرة


عادت منال للمنزل مجددًا وقابلت هناك والدتها، واتفقتا على الانتظار حتى ظهور زوجها ثم التصرف بناء على ذلك، فاتصلت بزميلة لها في المدرسة تطلب منها تقديم طلب إجازة لها، بحجة مرض والدتها المفاجئ.

لم تخبر منال طفليها في بداية الأمر وظلت تبحث عن زوجها لثمانية أيام ظل مختفيًا فيها، ثم ظهر في نيابة أمن الدولة في اليوم التاسع، ووضع اسمه ضمن المتهمين في إحدى قضايا النشر، بتهمتيّ نشر أخبار كاذبة، والانضمام لجماعة مخالفة للقانون. "الدنيا ضلمت في عيني، مكنتش متخيلة إن ده ممكن يحصل، قلت هيقعد يومين تلاتة وبعدين يظهر وكأنها قرصة ودن ليه علشان يبطل يكتب حاجة على فيسبوك، بس لقيت الموضوع بقى بجد ودخل في قضية فعلًا".

يعمل زوج منال في إحدى المكتبات الخاصة، ولم ينضم لأحزاب أو حركات سياسية، لكن كان يكتب آراءه من حين لآخر على صفحته بفيسبوك، وبعد ظهور الزوج قررت منال أن تخبر زميلاتها في العمل أنه سافر للعمل بشكل مفاجئ بإحدى الدول العربية "مكنتش حمل إن حد يقعد يتكلم عليا من ورايا ولا يقول للمدير اللي ممكن يمشيني من الشغل، اللي بقى مصدر دخلي الوحيد لولادي، لما يعرف إن جوزي مسجون في قضية سياسية".

اتفقت منال مع والدتها أن تخبر الجيران أيضًا بهذا الأمر، وجلست مع طفليها، اللذين يبلغ أحدهما 12 سنة والآخر 9 سنوات، وأخبرتهما بالموضوع وطلبت منهما أن يخبرا أصدقائهما في المدرسة أن والدهما سافر للعمل، حفاظًا عليه وعليهما أيضًا.

"معرفش القوة دي جتني منين، مع إني طول الوقت بعيد عن أي حاجة ليها علاقة بالسياسة، ومفيش حد قريب مني حصله كده، بس أنا قررت أواجه ده وأحمي نفسي وولادي". أخبرت منال جارتها المقربة في الشقة المقابلة لها أن زوجها اضطر للسفر سريعًا ولا تعلم متى سيعود، وأن والدتها ستقيم معها في الفترة المقبلة لرعاية طفليها.

تقول منال "جارتي افتكرتني كنت مخبية عليها سفر جوزي علشان الحسد وكده، باعتبار إنه مسافر يشتغل ويجيب فلوس، بس ده أهون وأرحم من إني أقولها إنه اتسجن، فممكن تقول لصاحب البيت ووقتها ممكن يخليني أسيب الشقة الإيجار علشان هو كمان هيخاف.. أي حاجة فيها أمن الدولة بتخوف الناس".

عادت منال للعمل، وأصبحت تزور زوجها في السجن يوم السبت، في الإجازة الأسبوعية من عملها "مرهق جدًا عليا إن مفيش يوم أرتاح فيه، بس مش هيبقى عندي مبرر في الإجازات، وكل سبت أدعي الصبح وأنا نازلة محدش يشوفني من السكان ويشوف الشنط معايا".

من السفر للدراسة في كندا

استمعت لقصة منال فعدت بذاكرتي ليوم القبض علي وليد؛ بعد عودتي من العمل أخبرتني السكرتيرة أنه تم القبض عليه من العيادة الخاصة به. ظل مختفيًا لستة أيام وظهر عقب ذلك بنيابة أمن الدولة بتهم مشابهة، وهي نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة محظورة.

قُبض علي زوجي وليد في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين اﻷول من عام 2018، وبعد مرور 15 يومًا اتصلت بصاحب الشقة لدفع الإيجار وأخبرته أنه وليد سافر وسأدفع أنا له الإيجار هذا الشهر، وهو الشهر الأخير في عقد الإيجار، أحسست من صوته أنه يعرف شيئًا لأنه كان صديقًا لوليد على فيسبوك.

قابلته لدفع الإيجار وأخبرته بالواقعة، وأخبرته أيضًا أنني سأبحث عن شقة جديدة خلال الأيام المقبلة، لتكون قريبة من عملي أيضًا، وبدأت رحلة البحث عن شقة في منطقة السيدة زينب، لتكون قريبة من عيادة زوجي، وقريبة من عملي السابق أيضًا في الدقي.

رحلة البحث عن الشقة لم تكن سهلة أبدًا، فكنت أذهب للعديد من السماسرة بمفردي، بعد فشل محاولات البحث على "أولكس"، السمسار الأول قال لي "بصي يا مدام في شقة بس لمؤاخذة صاحبها عاوز أسرة مش عاوز واحدة مطلقة"، فأخبرته أن زوجي مسافر للدراسة بالخارج، وسأقيم في الشقة مع ابنتي فرد قائلًا "هشوف صاحب البيت وأقولك المهم إنه مفيش رجالة تيجي ولا تطلع علشان ده بيت عيلة"، فتركته ولم أتصل به.

رحلة البحث عن الشقة استمرت شهرًا، تركني خلاله صاحب الشقة الأولى مقيمة للبحث عن شقة جديدة. قابلت سمسارًا آخر بمفردي أيضًا، وعرضت عليه الشروط المطلوبة في الشقة، فأخبرني أن هناك شقة سيعرف التفاصيل الخاصة بها ويخبرني هاتفيًا، فأخذ رقم هاتفي، وفي نفس اليوم اتصل بي في تمام الواحدة صباحًا، فلم أرد على الهاتف، وقررت خوض تلك التجربة بعد ذلك بصحبة أحد أصدقاء وليد.

بعد عدة محاولات استعنت خلالها بصديق لوليد وجدت شقة مناسبة، وأخبرت صاحب العقار أن زوجي يدرس في كندا، وسأقيم في الشقة بصحبة ابنتي ووالدي ووالدتي. وقعت العقد واستلمت الشقة، وبعد يومين وجدت جارتي الجديدة أيضًا والتي تربطها صلة قرابة بالمالك تريد التعرف إليَّ، جلسنا سويًا في شقتي وأخبرتها أن زوجي يدرس في الخارج، كانت ردودي مقتضبة وقصيرة. عادت لشقتها وأغلقت شقتي.

فلترة الجيران 

أحضرت هاتفي المحمول، وبدأت البحث عن اسمها عبر فيسبوك، ثم حظرت الحسابات التي ظهرت باسمها واسم زوجها وصاحب العقار أيضًا، كانت يدي ترتجف خوفًا من أن أكون ظهرت لأحدهم وعلم من صفحتي ما حدث. دوَّنت في ورقة اسم الدولة التي أخبرتها أن زوجي يدرس بها خوفًا من نسيانها، لأن ذاكرتي سيئة، كنت خائفة رغم حضور أبي وأمي للعيش معي، لكني كنت وما زلت خائفة، فبعد مرور عام ونصف تتصل بي جارتي من حين لآخر بعدما تَرَكَتْ الشقة المجاورة لي؛ تسألني عن زوجي "أبو نور عامل إيه؟"، فأجيب بتحفظ شديد "الحمد لله كويس"، وأغيِّر الحديث لموضوع آخر.

ذهبت للمكوجي المجاور لي في مرة، ودون أن أفتح أي حوار طلبت فقط تنظيف وكي الملابس، فرد عليّ قائلًا "أنا تحت أمرك يا أستاذة أنا متابع حضرتك وعارف إنك ساكنة لوحدك، لو احتجتي أي حاجة أنا تحت أمرك"، فأخبرته أنني لست وحيدة ومتزوجة بالفعل، فابتسم لي ثم تركته وذهبت، وقررت استخدام مكواة المنزل.

كانت والدتي تؤكد على والدي عدم الاختلاط بالجيران، وعدم الحديث عن وليد، وكان يطبق الأمر، فهو استطاع تكوين صداقات عديدة بالمنطقة، ولكنه حافظ على الاتفاق الساري بيننا، وحافظت أنا عليه أيضًا.

"السجاير" تكشف القصة

تتكرر قصة منال وقصتي في العديد من الأسر، فأخبرتني هالة السيد*، أن زوجها قبض عليه من أحد المقاهي بمنطقة وسط المدينة منذ ما يقرب من عشرة شهور. كانت تسكن معه في شبرا، هي وأطفالها الثلاثة، وبعد القبض عليه اضطرت للذهاب للإقامة مع أسرتها بمحافظة الشرقية. أغلَقت الشقة وأصبحت تأتي مرة في الأسبوع في ميعاد الزيارة، وقالت لجارتها إن زوجها سافر للعمل في الغردقة، وستذهب للإقامة مع والدتها، ومن حيت لآخر ستأتي لتنظيم الشقة وترتيبها.

"عارفة إن جوزي مش حرامي ولا قاتل ولا نصاب مثلًا، ولا أصلًا كان ليه رأي سياسي ولا حاجة يمكن زمان أيام الثورة كان بيكتب حاجات على النت لكن دلوقتي خلاص، بس محدش من بره الدايرة بتاعتي هيفهم ده علشان كده قلت إنه مسافر مش خجلانة منه بالعكس أنا فخورة بيه وعلشان كده بحميه".

تابعت "جارتي خدت بالها إني باجي كل أسبوع في نفس اليوم وبنزل الصبح ومعايا شنط، ومرة شافت السجاير وسألتني اضطريت أقولها وحلّفتها متقولش لحد، وقعدت أأكد لها إنه معملش حاجة"، لم تخبر الجارة أحد، لكنها، كما قالت هالة، لم تعد تتصل بها كما كان يحدث في السابق.

زوج هالة كان يعمل محاسبًا بأحد الشركات، لكن تم فصله بعد تغيبه عن العمل، ومعرفة مدير الشركة بما حدث، قُبض عليه من أحد المقاهي وظل مختفيًا لمدة 15 يومًا، ثم وضع اسمه على ذمة إحدى قضايا النشر، ووجهت له نفس الاتهامات السابقة.

"كله عارف بعضه في البلد"

الحياة في المدن يمكن خلالها استخدام هذا التعبير "جوزي مسافر"، لكن في القري والمحافظات ذات الطابع الريفي يصعب الأمر، فالجيران يعرفون بعضهم البعض جيدًا، وهذا ما حدث مع مروة علي*، المقيمة بإحدى القرى التابعة لمحافظة الغربية، والتي ألقي القبض على زوجها منذ عام وثمانية شهور من المنزل، واتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وتم نقله لسجن طرة. قالت مروة "وقت القبض كان بالليل وكل الجيران شافت وسمعت اللي حصل، مكنش ينفع نخبي ومش هنعرف نخبي، كله عارف بعضه في البلد".

بعد القبض على زوج مروة الذي كان يعمل بالوحدة الصحية للقرية، تغيَّر الحال بحسب وصفها، فكثير من أصدقائه تجنبوا السؤال عنه خوفًا من أن ينالهم مصير مماثل "واحد صاحبه قالي إن جوزي في باله على طول بس معلش مش عارف حتى يكتب عنه حاجة على فيسبوك، علشان أي حد بيكتب حاجة بيتاخد دلوقتي والوضع صعب".


اقرأ أيضًا: سُبح و"حظاظات" وباقات ورد ورقية: كيف يصنع السجناء الهدايا لأحبائهم؟


نعلم جيدًا أن التهم السياسية ليست مخلة بالشرف، ولكنها في أغلب الأوقات تكون ثمنًا للتعبير عن الرأي يدفعه صاحبه، لكن المحيطين بنا لا يعلمون هذا، يظنون أن الموجودين خلف الأسوار هم المجرمين فقط وليس أصحاب الرأي. لا نخجل من التهم السياسية ونراها شرفًا لا يراه الآخرون. نحاول التعايش والتكيف مع المحيطين، منعًا للأذى والمخاوف التي من الممكن أن نتعرض لها بمفردنا.


* اسم مستعار بناء على طلب المصدر