
حكايات النساء في عنبر العظام.. ثمن فادح للرعاية المنزلية "المجانية"
13 سريرًا في عنبر 242 عظام بمستشفى دمنهور العام، ترقد عليها 13 امرأة من قرى ونجوع متفرقة بمحافظة البحيرة، تتراوح أعمارهن بين 19 و60 عامًا. تعرفت عليهن خلال مرافقتي واحدة منهن لم تكن ضحية لإصابة عمل، بل كانت تعاني من كسور سبّبها مرض السرطان.
على مدار 50 يومًا قضيتها في العنبر، كنتُ شاهدةً على حكايا النساء وانتظارهن الطويل لأدوارهن في العلاج على نفقة الدولة لإجراء عمليات جراحية بعد تعرضهن لإصابات ناجمة عن العمل الرعائي المنزلي غير مدفوع الأجر.
تدخل سعاد فايق(*) العنبر ممددةً على الترولي، تطلب من والدتها التي ترافقها مساعدةَ العاملة في وضعها على سرير العنبر.
حسب ما عَرِفْتُ من والدتها، تعاني الشابة التي لم تكمل عامها التاسع عشر بعدُ، وتزوَّجت قبل 6 أشهر في قرية بني هلال، من كسور متفرقة في جسدها، وعلى وجهها علامات الصدمة. تلتزم الصمت ولا ترد على أحد، فقط تنظر إلى السقف وتبكي.
عيد ميلاد كان هيجيب أَجَلِي
إلى جانب سعاد، ترقد عزيزة راضي(*) على السرير تقضي ليلتها الأولى في العنبر بانتظار تحديد موعد لإجراء جراحة، لكنها على العكس كانت منفتحة للحكي عما حدث، "بمناسبة إني تميت 45 سنة قلت أحتفل مع العيال، رحت الفرن العمومي عشان أسوي الأكل، وحطيت الصواني على راسي، وأنا راجعة اتشنكلت وقعت، اتكسرت رجلي".
عزيزة أم لأربعة أبناء؛ ثلاثة أولاد وفتاة، تعيش في قرية لقانة وقضت سنوات عمرها في الأعمال المنزلية ترعى زوجها وأبناءها، "إن شالله ما كلوا، ما كنت عملتها فى فرن البيت وخلاص، هو أنا لازم أحقق لهم أحلامهم، أدي رجل انكسرت والتانية بايشة، عيد ميلادي كان حيجيب أجلي وماحدش بينفعك في الآخر"، فهي لم تتلق على مبادرتها سوى اللوم "قالوا لي إنتي إيه اللي وداكي الفرن؟".
تخضع سعاد وعزيزة لأعراف مجتمعية تُلقي بمسؤولية العمل المنزلي على النساء، ما يؤدي إلى تفاقم المتطلبات الجسدية والنفسية والزمنية لهذا العمل، خاصة بالنسبة لمن يعشن في أسر فقيرة ومجتمعات مهمشة وغير آمنة، فهن يعملن دون مساعدة أو تقاسم للأدوار، وبأقل أدوات حماية من المخاطر التي تهدد صحتهن، ما يعرضهن لحوادث الكسور وأمراض متعددة ناتجة عن هذه الظروف، دون وجود دعم صحي، سواء من الأسرة أو من هيئة التأمين أو معاشات تُلبي احتياجاتهن الأساسية.
لا يمكن تقدير نسبة النساء المتضررات نتيجة الأعمال المنزلية والرعائية، لكن يمكننا تقدير حجم هذا العبء من خلال معرفة عدد ساعات العمل المنزلي التي تقضيها النساء في مصر، فحسب دراسة أعدتها باحثة الاقتصاد سلوى العنتري ونشرتها مؤسسة المرأة الجديدة، في مارس/آذار 2015، فالمرأة تعمل أسبوعيًا بمعدل يتراوح ما بين 32 و51 ساعة دون أجر أو تأمين أو معاشات، تنجز خلالها مهام شاقة تبدأ بأعمال التسوق وشراء مستلزمات البيت مرورًا برعاية الأطفال وأعمال التمريض، نهاية بالزراعة والصناعات اليدوية والتجارة الأسرية في الريف المصري.
وتشير التقديرات إلى أن 95% من المصريات يقمن بأعمال منزلية، بمعدل يقارب 5 ساعات يوميًا. وقدّرت القيمة السنوية لهذه الأعمال غير المدفوعة بنحو 458 مليار جنيه، حسب ما صرحت به هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية 2020.
إجازة في عنبر العظام
ترافق كوكب راغب(*)، 37 سنة، من قرية الخرسا بمدينة الرحمانية، محافظة البحيرة، والدتها في عنبر العظام، وتضطر للسفر يوميًا من دمنهور، إلى بيتها، من أجل أداء واجبات بيتها. "أنا قاعدة بأمى براعيها، وجوزي كل يوم يصحى يكلمني أسافر أشوف طلباته هو والعيال، ومش مقدر التعب اللى بتعبه، عرق النسا شادد عليا من السفر كل يوم"، تقول كوكب الحاصلة على دبلوم فني قسم ملابس. يعرف زوج كوكب بمرضها وظروف رعايتها لوالدتها لكنه لا يتقدم لتحمل مسؤولية طلباته وأبنائه خلال هذه الفترة، فهو تربى على أن هذه ليس من دوره.
يغيب الاعتراف بجهد النساء اليومي في الرعاية المنزلية باعتباره عملًا حقيقيًا يستحق الحماية والتقدير
وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2023، بلغت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة بأجر 15.4%، مقارنة بـ67.1% للرجال. وبناءً على هذا التفاوت، يمكننا تقدير النسبة الكبيرة من النساء اللواتي يعملن في البيوت ولدى أسرهن دون أجر، وهو ما يحدّ من فرصهن في الحصول على عمل مدفوع الأجر يمكّنهن من عيش حياة كريمة تتناسب مع احتياجاتهن.
وعلى الرغم من أن هذا العمل غير المرئي يُساهم بشكل فعّال في تعزيز دخل الأسر والدولة، فإن الكثير من النساء لا يتمتعن بحقوقهن الأساسية، سواء داخل الأسرة أو في إطار السياسات العامة للدولة، بل يُعاد إنتاج التهميش من خلال تجاهل هذا الجهد اليومي المتواصل، وغياب الاعتراف القانوني والاجتماعي به كعمل حقيقي يستحق الحماية والتقدير.
الأفدح من ذلك أن القانون لا يتعرف و لا يحمي حتى حقوق النساء العاملات في العمالة الموسمية بالزراعة والتجارة والصناعة اليدوية الأسرية، سواء بأجر أو دون أجر. "القانون ما بيعترفش بالستات اللي بيشتغلوا شغل موسمي إنهم عاملات، وبيشوف إن شغلهم جزء من دورهم في الإنجاب والرعاية، فبكده ما عندهمش أي حماية قانونية"، تقول لمياء لطفى صاحبة مبادرة المرأة الريفية لـ المنصة.
تضيف "لو الملف ده اتفتح، هتبقى الدولة قدام مسؤولية أكبر، لأن ساعتها هيبقى من حق الستات يطالبوا بحمايتهم وحقوقهم، سواء وهما بيشتغلوا في بيوتهم أو عند أصحاب الشغل، جوه البيوت أو برّه. وكمان يطالبوا بحقهم في المعاش، والتأمين الصحي، وطرق ومواصلات تكون آمنة" في إشارة إلى الأسباب وراء تجاهل الدولة لهن.
عمل بلا أجر يقصم ظهور النساء
تربط دراسة طبية بين تكرار الأعمال المنزلية ومشكلات الجهاز العضلي الهيكلي، وهو المسؤول عن آلام وأمراض أسفل الظهر والكتفين والرقبة، التي تتفاقم بمرور الوقت مع استمرار الجهد البدني. كما تؤكد مؤسسة هشاشة العظام الدولية أن 22.1% من النساء حول العالم يفقدن كثافة عظامهن قرب منتصف العمر أو بعد انقطاع الطمث، ما يؤدي إلى إصابتهن بهشاشة العظام، في حين أن نحو 80% من النساء المصابات لم يتم تشخيصهن.
يُحمِّل العُرف النساء مسؤولية الإنهاك الجسدي الناتج عن الأعمال المنزلية هذا اللوم يدفع بعضهن للشعور بالذنب حتى تجاه المرض
وتكشف دراسة شملت مليون امرأة، صادرة عن الجمعية الأمريكية لأبحاث العظام والمعادن، أن الأعمال المنزلية من أبرز أسباب كسور العظام. وتزداد خطورتها لدى النساء الريفيات والمهمشات تحديدًا، نتيجة قلة الوعي بطبيعة المرض، والفقر الذي يحول دون حصولهن على التغذية السليمة، إلى جانب صعوبة الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والفحوصات المبكرة لكثافة العظام، مما يجعلهن أكثر عرضة للإصابة، خاصة في الفئة العمرية بين 40 و50 عامًا.
يُحمِّل العرف المجتمعي النساء مسؤولية الإنهاك الجسدي والنفسي الناتج عن الأعمال المنزلية، باعتبارها "واجبًا" تقوم به كل النساء دون تذمر. هذا اللوم يدفع بعضهن للشعور بالذنب حتى تجاه المرض، فـ"الواحدة لما بتتعب بتوقف الدنيا، إيه ذنب العيال والأرض؟ الراجل لو شال شغل الأرض وجاب حد يساعده ودفع له، مش حيشيل العيال والبيت"، تقول انتصار سعيد(*)، 40 سنة، ربة منزل وعاملة بالزراعة الأسرية دون أجر، وتعاني من متلازمة النفق الرسغي.
تعارضها عزيزة بنبرة غضب "الواحدة لو ما كانتش لعيالها وبيتها بَنَّى ومنَاوِل يزعلوا؟ طب ما يخبطوا دماغهم على عتبة الدار. الواحدة ترحم نفسها شوية ما عدتش نيجي على نفسي تاني علشان حد".
حسب المركز الأمريكي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية، فإن معدل إصابة النساء بمتلازمة النفق الرسغي يزيد بثلاثة أضعاف عن الرجال، نتيجة لعدة عوامل، من بينها طبيعة الأعمال المنزلية المتكررة التي تؤثر على اليدين والمعصمين.
رعاية صحية متأخرة
مع كل ما يتعرضن له من متاعب صحية وتبعات جراء أشغال البيت، فإن النساء لا يحصلن على الرعاية الصحية اللازمة، فالمستشفيات الحكومية لا تتوفر بها لا العناية والعلاج الكافيين، كما تتأخر مواعيد عمليات العظام.
ترافق سامية غالي(*)، 30 سنة، حاصلة على دبلوم تجارة وأم لطفلة، والدتها المصابة بكسر في عنبر العظام منذ أكثر من 10 أيام "ما فيش رحمة، لما واحدة مكسورة عندها 55 سنة تقعد جوه المستشفى المدة دي من غير عملية وما ينفعش تاخد مسكن ما فيش غير برشام الكالسيوم اللى المستشفى بتديهولها كل يوم وأدينا مستنيين".
سبق وأطلقت وزارة الصحة مبادرة 100 مليون صحة في يوليو/تموز 2019 لدعم صحة المرأة المصرية، بمن فيهن ربات البيوت، على أن تقدم خدمات فحص وتوعية حول سرطان الثدى وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسمنة والأمراض التنفسية.
تعاطت المبادرة حتى فبراير/شباط الماضي مع ما يزيد على 57 مليون امرأة. وبالرغم من ذلك فإن الكثيرات، خاصة ربات البيوت والمهمشات، ما زلن خارج مظلة التأمين الصحي، ويتحملن عبء الانتظار الطويل للحصول على العلاج أو العمليات، وسط إجراءات بيروقراطية معقدة تتطلب أسابيع لتنفيذ كل خطوة على حدة.
ومع صدور القانون رقم 87 لسنة 2024، الذي يتيح للقطاع الخاص تشغيل المرافق الصحية العامة دون ضوابط للأسعار، تتضاعف الأعباء على ربات البيوت غير العاملات بأجر، إذ يواجهن خطر حرمانهن من الرعاية الصحية دون وجود دعم يضمن حقوقهن كأولوية.
كل هذه الهموم لم تمنع نساء عنبر العظام من اختطاف بعض الضحكات، فعزيزة ألفت أغنية لعيد ميلادها، وبدأت في ترديدها ما جعل سعاد التي تمسكت بالصمت طويلًا تبتسم أخيرًا وتبدأ في مشاركة قصتها "كنت بنفض سجاد بيت العيلة على السطح فوقعت. أصل السور واطى. ماحدش رماني، وجوزي حطني في عربية الجلّة (روث الحيوانات) وأخوه وصلني المستشفى، بس سابني على الباب فضلت مرمية لحد ما أمي وصلت وقالتلي ما أتكلمش وأسمع الكلام" قبل أن تعاود النظر إلى سقف العنبر باكية في انتظار العملية.
(*) أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية النساء، تم تدوين الشهادات عام 2023.