تصميم: يوسف أيمن- المنصة

بلا مأوى: يوميات طفل مشرد في مواجهة كورونا

منشور الأربعاء 15 أبريل 2020

يتكئ رأسه على حائط بينما يجلس على بطانية مهلهلة لا تختلف حالتها كثيرًا عن ملابسه الرثة، بينما يفرش تحتها بضعة كراتين، ربما تمثل الحد الأقصى من الرفاهية والراحة بالنسبة له. يهرول الجميع حوله، يرمقونه في عجل، يعدون الدقائق القلائل الباقية، قبل بداية ساعات حظر التجول المفروض لمواجهة فيروس كورونا. يسرع بلم شتاته، يجري خلسة من بين أقدام الناس المتسارعة، يلجأ لزقاق صغير مظلم تحت بيت هجره أهله، ينكمش مع قط بلا مأوى.

بعد دقائق الصخب يسود الصمت القاتل، لا يقطعه سوى صوت صرير الرياح، وسارينات سيارات الشرطة، يرتجف ويختبئ في الظلام حتى يغلبه النعاس، ما أن ترتخي جفونه المرهَقة، حتى تنسكب فوقه مياه باردة، ويشق صمت الشارع صوت صراخ جاره الستيني، يسبه بألفاظ لاذعة ليترك مكانه، يسمعه أحد الشرطيين فيسرع للقبض عليه. يشحذ الصغير قواه، ويطلق ساقيه للريح، ليختبئ في أحد أكوام القمامة على شريط السكة الحديد. هكذا يقضي يوسف، 14 سنة، طفل بلا مأوى، في مدينة الإسكندرية، يومه خلال ساعات الحظر.

مليونا مشرّد

خلال الفترات الاستثنائية، التي تتخذ فيها الدولة إجراءات لحماية شرائح عريضة من مواطنيها، تخلِّف وراءها طبقات مهمشة، تزداد معاناتها، وتُترك في العراء لمصير مجهول، لا يظهر منه سوا المخاطر. مصر تعاني من ظاهرة المشرَّدين، الذين يزداد عددهم بشكل ملحوظ، خاصة في السنوات الأخيرة، فهناك أكثر من 2 مليون فرد بلا مأوى في مصر، من بينهم على الأقل من 600 ألف إلى مليون من الأطفال، حسب أحدث تقرير لمنظمة اليونسيف، وفي عام 2016، أطلقت وزارة التضامن الاجتماعي  برنامج أطفال بلا مأوى، لإعادة دمج وتأهيل المشردين، وتوفير أماكن إيواء لهم، من خلال وحدات متنقلة، لكن ماذا عن فترة الحجر الصحي، وقضاء ساعات الحظر؟

اصطحبنا يوسف لمكان إقامته، على أحد أرصفة منطقة ميامي بالإسكندرية، وحكى للمنصّة كيف يمر وقت الحظر، ومراوغة الحياة حتى صباح اليوم التالي. يقول يوسف "أنا مش هنقل المرض لحد، ده يمكن الناس هم اللي ينقلولي المرض وهما بيضربوني، أو يرموا عليا زبالتهم، ولا لما يحدفوا عليا الكمامة وأنا نايم على الرصيف، مش عارف ليه سكان المنطقة اللي عرفني من زمان بقوا يعاملوني وحش كده، وأنا مابعملش حاجة" تدمع عيناه فيمسحهما في خجل ويكمل "ماكنتش أعرف يعني أيه كورونا ده، بس فجأة لقيت الناس بتضربني وبتمشيني من ع الرصيف، ومش عاوزني أنام قدام المحل زي ما متعود، فهمت إن في مرض بيعدي الناس، وهم خايفين مني، عشان بنام في الشارع، لأنقله لهم".

ابن الرصيف

يوسف يسكن الأرصفة منذ بداية إدراكه، لا يعرف عائلةأو أصدقاء، لا يعلم من أين أتى ولا يميز أي ملامح لمستقبله المجهول، وكذلك بالنسبة لسكان المنطقة الذين يعرفونه بـ"ابن الرصيف" كما يقول جمعة، بائع في محل ملابس بالمنطقة، "في كذا عيل زيه هنا، منعرفلهمش أهل، همّا بيسرحوا الصبح، وبالليل لما الدكاكين تقفل يفرشوا ويناموا قدامها". يجلس يوسف على فراشه الرث، ويكمل حديثه عن تأثير أزمة كورونا على حياته المعقَّدة، ويقول "ده مكاني، ببيع مناديل ومستيكة (لبان) للناس، مبقاش في حد بيشتري مني، واللي بيديني حاجه بيرميلي الفلوس من بعيد، خايف أنقله مرض، ومبيرضاش ياخد المناديل، ده بيضايقني أوي، مش لازم تديني حاجه، امشي وخلاص". لا تنتهي مضايقات المارة عند هذا الحد، ويُجمِل يوسف ما يتعرض له في موقف عابر "مرة واحدة ست مع عيالها، شافتني، راحت زقت البطانية برجلها، وهي قرفانة، و قعدت تقول هم دول اللي بيجيبوا المرض، وفين الشرطة تيجي تاخده، وأنا مش مجرم ولا عملت حاجه عشان ياخدوني". أن تحيا في العراء، عليك دفع ضرائب معيشتك، فكل دقيقة تعني خطرًا مجهولًا، أن تدبِّر وجبة غذاء تسد جوعك لساعات معدودات هو غاية يومك، وأن تقضي حاجتك وقتما تطلب طبيعة جسدك لا يتوفر أبدًا، وأن تلبِّي احتياج الراحة والنوم دون إزعاج، أمر محال، كلها مواجهات يصارعها المشردين يوميًا، وبشكل مضاعف في فترات الحظر. يقول يوسف "ساعات أصحاب المحلات والبياعين بيجبولي أكل معاهم، وأوقات السكان كانوا بينزلولي شوية أكل، لكن بعد الكورونا كل ده راح، عشان طبعًا المحلات يا إما قفلت ومشِّت البياعين، أو مبقوش يدّوهم فلوس للغدا، فيعملوا حسابي معاهم، وحتى الناس اللي بتشتري المناديل مبقوش كتير، فبقا صعب عليا أوي آكل، كمان المطاعم قافلة، فمفيش مكان أجيب منه أي أكل، ساعات بروح أشتري جبنه وعيش من السوبر ماركت عشان هو الوحيد اللي فاتح، بس مرة الراجل مرضاش يدخلني وطردني برا المحل، عشان هدومي مش نضيفة، قالي لو حد شافك هنا مش هياخدوا مني حاجه، واليوم ده فضلت جعان، لحد ما الصبح طلع". ثم يستطرد "مافيش مكان أنام فيه، أي مكان يا إما الحكومة هتجري ورايا، يا الأهالي هتقومني، فبشوف أي ممر بين العمارات، أو بيت قديم أنام تحت بلكونته، مابنامش تحت الكوبري ولا في الجنينة عشان الحكومة بتجري ورانا، ولو معايا فلوس الشمامين بيسرقوني، فبدور على حته مدارية أرتاح فيها لحد الصبح". يتنهد في ثقل ويكمل "كنت بروح الحمام في القهاوي والمساجد، بس طبعًا كلها قفلت، فمببقاش عارف أروح فين، ساعات بغسل وشي من تلاجة الميه اللي عند الكوبري" في خجل شديد يواصل حديثه "ولما بعوز الحمام كنت الأول بدخل عند حد من بوابين العمارات، بس دلوقتي السكان بيزعقولهم لو دخلوني، فبقيت بستخبى تحت الكوبري، بس ده مش أمان في عيال هناك بتضربني لما بيبقوا بيشدوا كُولّه". يخشى الأهالي ممن بلا مأوى، خاصة في أزمنة الأوبئة، ويقول محمد شاهين، 65 سنة، يسكن في شقة أرضي "أنا راجل عجوز وزوجتي كذلك، لما عيل من دول يجي ينام تحت بلكونتي القريبة جدًا للرصيف، لو حد فيهم عند دور برد هيتنقلنا، لازم أخاف على نفسي". وعن المسؤولية الاجتماعية يقول للمنصة "نطلعلهم شوية أكل، كوباية شاي دافية في الشتا، إنما مش دوري أنيمهم عندي، الحكومة ملزمة تشوفلها صرفة يا يشوفولهم بيوت يناموا فيها، يا إما يقضوا عليهم ويلموهم في إصلاحية، إنما أنا مش عارف هو بيتعامل مع مين ولا بيتعاطى إيه، ولا عنده إيه؟".

 "قلبي بيقف من الخوف"

في الليل، بينما يأوي الجميع لمساكنهم، يقضي آخرون ليلهم في الهرب من السرقة والتشويه والضرب، وأحيانًا الاعتداءات الجنسية. يحدثنا يوسف عن مخاوفه في فترة الحظر؛ "ساعات بالليل بيطلع عليا عيال كبار شوية، بيضربوني وياخدوا مني البطانية والكراتين، ولو معايا فلوس بياخدوها، لو ضربتهم ممكن يعوروني في وشي، وأنا شكلي مش ناقص الناس هتكرهني أكتر، كمان في صبيان بتبقى عاوزاني في حاجات حرام، كنت بستخبي منهم في القهاوي، بقيت خايف أكتر لما الدنيا بتبقى ساكتة بالليل، مفيش قهاوي سهرانة ولا محلات فاتحة ولا ناس معدية، بستخبى ولما بسمع صوت خطوات قلبي بيقف من الخوف، ومابعرفش أنام لحد الشمس ما تطلع". في ليالي الحظر، عندما نسمع صوت سارينة سيارات الشرطة التي تمر في دوريات للتأكد من تنفيذ حظر التجول، نغلق النوافذ ونتذكر أمرين؛ التزامنا بالمنزل يقلل خطر انتشار العدوى، وكذلك يعفينا من دفع الغرامة، لكن  الأمر في الشارع مختلف، "سارينة الحكومة" تعني إنذار بالخطر، احتمالية الهروب منه تكاد تنعدم، فبين عدد كبير من العساكر والمخبرين، يصعب أن ينفلت من بينهم جسد نحيل أنهكته الحياة. يحكي يوسف "لما الحكومة بتعدي بسيب كل حاجه وبجري، بجري بعيد وأسرع  ما عندي، ببقى تعبان وقلبي هيقف، بس من الخوف مش حاسس، العساكر لو مسكوني هيضربوني وهيودوني القسم، وهفضل بايت في التخشيبة لحد الصبح، لو مخرجونيش، بيرحلوني للمديرية، وكل مرة بخرج بطريقة، عشان معييش ورق يقول أنا مين، أنام على الرصيف، أحسن ما أنام في التخشيبة". يوسف، وغيره، يتشاركون همومهم على أرصفة الشوارع، جاهلين بوجود مراكز دورها دعمهم، و البحث عنهم لحمايتهم، وعلى الرغم من تعدد الجهات المعنية بظاهرة التشرد، لكننا لا نجد الكثير من أنشطتها على الأرض.

نجدة الطفل

يقول رئيس خط نجدة الطفل، صبري عثمان، للمنصة "ماوصلناش عدد كبير من البلاغات من بداية فترة حظر التجول، لكن في حالة وصول بلاغ من النيابة، بعد ما الشرطة تخطرها بالقبض على أفراد بسبب التسول أو خرق الحظر، بيتحرك محامي مع أخصائي اجتماعي للنيابة، بنعمل دراسة حالة للطفل، لو له أسرة النيابة بتطلع قرار إيداعه بالأسرة، مع حمايته من التعرض للعنف، في حالة عدم توفر أسرة، فالنيابة بتقرر إيداعه في دار رعاية، بعد اجراء الكشف الطبي عليه، بناخده ونتجه به لمستشفى الحميات، ويتعمله مسح وتحليل PCR، والحمدلله لحد دلوقتي مظهرش ولا حالة مصابة بكورونا". تفتقر دور الرعاية للخدمات، وبسبب كثرة عدد النزلاء، و ندرة الأماكن، فأن إمكانية تخصيص أماكن عزل للنزلاء الجدد مهمة مستحيلة، حيث يقول عثمان "مفيش إمكانية لعزل الحالة بشكل كامل عن باقي النزلاء، فبنحاول إنه مايختلطش بهم على الأقل في أول أسبوع، طالما مظهرتش عليه أي أعراض للمرض". لا يوجد إحصائية محددة بعدد دور الإيواء سواء للأطفال أو المسنين بلا مأوى في مصر، ولم يصدر بيان عن وزارة التضامن الاجتماعي يتناول آليات التعامل مع المشردين، في ظل الأزمة، مع اختفاء الوحدات المتنقلة لحملة الإنقاذ التي كانت أطلقتها الوزارة سابقًا، بسبب حظر التجول.

دور الرعاية

مسؤولة دور الرعاية بوزارة التضامن الاجتماعي، دكتورة منال حنفي، قالت إن "الوزارة بتتعاون مع متطوعين وجمعيات أهلية، والهلال الأحمر، لتعقيم كل دور الرعاية للكبار والصغار، يوم بعد يوم، ووفرنا في كل دار أجهزة الكشف عن الحرارة، للكشف المبكر عن المرض، وكذلك وفرنا حصة من المعقمات والمطهرات، زي الكلور والكحول وغيرها". وتكمل حديثها مع المنصة "وعشان أهمية تقوية المناعة طبعًا، لأن أغلبهم يعاني من سوء التغذية، إدارة الأمن الغذائي بتوفر وجبات متكاملة، بالإضافة إننا بنخليهم يمارسوا تمارين رياضية بسيطة ومفيدة لجسمهم".

يقضي المشرد رحلة طويلة، في ظل أزمة كورونا، ليصل سريره داخل دار الرعاية. توجز منال هذه الرحلة قائلة "قبل دخول أي حالة بنتوجه للمستشفى، بيتم الكشف عليه، وبعد ظهور النتيجة سلبية، وتأكيد خلوه من المرض بناخده الدار، بنعمله تعقيم كامل، وبنعلمه طرق النظافة الشخصية بشكل مبسط، قبل دمجه مع زملائه". تستقبل دار الرعاية عددًا كبيرًا من المتطوعين والزائرين وكمًا من التبرعات. وتؤكد منال على حماية النزلاء ووقف اختلاطهم بأي أفراد من الخارج، فتقول "أخدنا قرار من بدري، منذ بداية انتشار المرض، بوقف أي تبرعات، ومنع استقبال أي زائرين، لأننا مش ضامنين إن الزائر مش مصاب، التبرع الوحيد اللي بنقبله هو المعقمات وأدوات التطهير والنظافة، وبيطلع مختص بزي التعقيم يستلم التبرع، ويتعقم قبل دخوله الدار". أكدت منال في حديثها أكثر من مرة على خلو دور الرعاية من أي حالة كورونا حتى الآن، وختمت حديثها عن مشروع أطلقته الوزارة مؤخرًا، باسم "بينا" وتقول "المشروع قائم على المتطوعين، مهمته ينزل بحملات توعية للشارع، بالنظافة الشخصية وسُبل الوقاية والخطوات الواجبة في حالة الإصابة، للحد من انتشار المرض بينهم". على الرغم من تلك الجهود، مازلنا نرى الكثير بطول طريقنا أفراد بلا مأوى، لا يعرفون من الحياة سوى اللحظة التي يتنفسون فيها، كأنهم ألفوا المجهول، اعتادوا المخاطر، وكأن الرصيف جزءًا من روحهم، الذي لا يفارقه.