رحلة بحث طويلة قطعتها عائشة صلاح، والدة الطفل طارق شريف، 15 عامًا، في حي الشيخ زايد بمدينة السادس من أكتوبر بالجيزة، للعثور على مركز تأهيل مناسب تأمن فيه على طفلها المصاب باضطراب طيف التوحد.
تكللت الرحلة بالنجاح، أو هكذا كانت تعتقد الأم الأربعينية التي ألحقت ابنها بمركزٍ "فخم" به حديقة وألعاب وحمام سباحة، يجمع بين الأنشطة التعليمية والجلسات التأهيلية والرياضة والترفيه، نظير رسوم قدرها 10 آلاف جنيه شهريًا. لكنها لاحظت في منتصف يوليو/تموز 2023، وبعد نحو عام من التحاق ابنها بالمركز، خدوشًا عميقة في وجهه ورقبته عقب عودته من المركز في نهاية النهار.
لم تجد عائشة في المركز إجاباتٍ عن أسباب جروح ابنها، ولا مسؤولين، فتوجهت لقسم شرطة ثاني الشيخ زايد، وحررت المحضر رقم 2325 جنح لسنة 2023، ليحال طفلها إلى الطب الشرعي، الذي أكد في تقريره أنه بالكشف الظاهري وُجدت خدوشٌ وسحجاتٌ في وجه الطفل ورقبته، وأنه يحتاج إلى علاج أقل من 21 يومًا.
يواجه أهالي الأطفال ذوي الإعاقات تحديًا أساسيًا يتمثل في العثور على مراكز تأهيل معتمدة تضم متخصصين مؤهلين للتعامل مع مصابي طيف التوحد، إذ لا تتناسب أعداد مراكز التأهيل في مصر مع ذوي الإعاقة الذين يبلغ عددهم نحو 12 مليون مصري، أي قرابة 15% من إجمالي عدد السكان، منهم نحو مليوني طفل من مصابي اضطراب طيف التوحد حسب تصريح مها الهلالي المتحدثة باسم وزارة التضامن الاجتماعي.
تقول عائشة لـ المنصة "المحضر خلى صاحبة المركز تكلمني، وقالت إن الطفل فلان ضرب ابني في الباص، ومشرفة الباص هي المسؤولة. اكتشفت إن الطفل اللي بتتهمه أصغر بكتير من ابني وعنده مشكلة في إيديه ومستحيل يكون عمل كده، خصوصًا إن الدكتورة اللي فحصته قال إنه اتسحل على ضهره والخرابيش من ضوافر حد كبير، ولما واجهت المشرفة قالت ما أقدرش أقول مين اللي عمل كده عشان أنا وجوزي سواق الباص لينا رواتب 3 شهور متأخرة عند المركز".
بنشرِ عائشة، الأم لـ 3 أبناء، أكبرهم في الجامعة وأصغرهم لم يبلغ الرابعة بعد، ما تعرض له ابنها في جروبات لدعم أهالي أطفال التوحد على فيسبوك، شجعت أولياء أمور آخرين على فضح انتهاكات المركز، الذي اتضح أنه يعمل دون ترخيص وأن مالكته وزوجها لم يكونا طبيبين بالفعل، كما أخبراهم، وللمركز تاريخ من الانتهاكات والاعتداءات على الأطفال تسببت في إغلاق فرعه بالمعادي، قبل أن تفتتح المالكة فرع الشيخ زايد بالاسم نفسه هروبًا من السمعة السيئة التي اكتسبها مركزها، كما أن عمل المركز السابق في المعادي من دون ترخيص من وزارة التضامن جعله خارج دائرة الرقابة وسهل إعادة فتح الفرع الثاني في الشيخ زايد رغم المخالفات.
الفضيحة التي فجرتها عائشة جعلت مُلاك المركز يهربون "حصلت خناقة كبيرة بين الإدارة والأخصائيين والإشراف وكلهم هربوا وسابوا المكان بالأطفال اللي فيه اللي كانوا موجودين بنظام الإقامة الكاملة، وفضل أخصائي واحد رافض يسيب الأطفال واتصل بأهاليهم ياخدوهم، وكان فيهم ناس مسافرين بره مصر، فهو اتصل بمعارف في مركز تأهيل تاني في نفس الكمباوند لنقل الأطفال لغاية ما أهلهم يجوا يستلموهم، والأهالي اللي جت تستلم ولادها لقوهم متبهدلين إصابات وضرب وكانوا بيحرموهم من الأكل، والإهمال وصل لإن طفل مقيم بالمركز جالته غرغرينا في صباعه" تقول عائشة، التي تنتظر مع كثير من الأهالي، ممن لجأوا إلى القضاء لمحاسبة أصحاب المركز، وأن يُلقى القبض عليهم وتنتصر العدالة لأطفالهم.
انتهاكات متكررة
تختلف الإعاقات الذهنية لدى الأطفال في درجاتها ومدى شدتها، حسب الدكتورة إيمان كريم، المشرفة العامة على المجلس القومي للإعاقة، التي تقول لـ المنصة "هناك حالات لأطفال مصابين بالتوحد غير قادرين على التواصل الاجتماعي أو التعبير عن أنفسهم، وقد تكون لديهم إعاقة أخرى، وهذه الفئة تكون عرضة لانتهاكات أو اعتداءات داخل بعض مراكز الرعاية أو الإقامة، ويمكن اكتشاف آثار الاعتداءات برصد تغير سلوك الطفل، وقد تتضح من خلال ظهور كدمات على جسده".
رصدت المنصة قصص انتهاكات موثقة في جروب فيسبوك، تنوعت ما بين اعتداءات رصدتها الكاميرات وأخرى لم تتمكن الأم من تحديد الفاعل، لتلتصق التهمة بزملائه في المكان، تؤكدها شهادة ياسمين رضا، اختصاصية نفسية بمجال التربية الخاصة، خلال عملها متدربةً في أحد مراكز التخاطب، عن واقعة إيذاء وعنف بحق طفل مصاب بالتوحد على يدي مديرة المركز، لجعله يخافها ويطيعها.
تقول "مديرة المركز كانت حاصلة على الدكتوراه ومع ذلك الأطفال اللي كانت مش عارفة تتعامل معاهم بترعبهم، كان فيه طفل عنده توحد عصبي وبيعيط كتير ولما بيشوفها بيترعب، شوفتها بتشكه في إيديه بالدبابيس، وبلغت أهله اللي كانوا فاكرينه بيخربش نفسه، ونقلوه من المكان لمركز أفضل وأنا سبت الشغل معاهم".
الوعي مفتاح الحماية
بناءً على تجربتها تنصح الاختصاصية النفسية الأمهات بفحص أجساد أطفالهن باستمرار للتأكد من أنهم لم يتعرضوا لأي اعتداءات. تحرص الكثير من المراكز على تركيب كاميرات مراقبة في الفصول وغرف الجلسات، وبعضها يتيح البث المباشر لأولياء الأمور المقيمين خارج مصر.
تحدد ياسمين الحالات التي يمكن أن يلجأ فيها المعالج إلى الأدوية المهدئة أو التدخل الحاسم، تقول "في بعض حالات الإعاقات الذهنية، على رأسها التوحد، يكون الطفل عنيدًا للغاية وقد يقوم بسلوكيات عدوانية، مما يستلزم تدخلًا دون عنف؛ مثل اللجوء للثواب والعقاب، كالحرمان من لعبة أو نشاط يحبه".
تُشَبِّه العلاقة بين المعالج والطفل بـ"علاقة الأم بأطفالها، تجمع بين الحب والثقة والحزم ووضع حدود"، مشيرةً إلى أن بعض الأطفال من ذوي الإعاقات الذهنية لهم قوة جسدية تفوق أقرانهم الطبيعيين وقد يسببون الأذى البدني للأخصائي إن تعامل بتهاون.
غالبية المراكز تهدف إلى الربح لذا قد توظف أشخاصًا غير متخصصين توفيرًا للأجور
وينصح أحمد حنفي، مدير برنامج حماية الطفولة بالإدارة المركزية للرعاية في وزارة التضامن الاجتماعي، أولياء الأمور، بالتأكد من وجود كاميرات مراقبة في المكان وعدم وجود أماكن مخفية به، يقول لـ المنصة "يجب أن تفحص الأم جسم الطفل يوميًا للتأكد من عدم وجود إصابات أو كدمات، وتتفقد الأعضاء التناسلية دوريًا للاطمئنان".
ويعتقد أن "غالبية المراكز تهدف إلى الربح، لذا قد توظف أشخاصًا غير متخصصين توفيرًا للأجور، وقد تصدر عن هؤلاء الأشخاص تصرفات غير أخلاقية كالعنف اللفظي أو الجسدي ضد الطفل قد تصل إلى الاعتداء الجنسي، وبعض العاملين يضربون الأطفال أو يقدمون على وخزهم بالإبر في أماكن معينة بالجسم لتخديرهم والسيطرة على فرط الحركة لديهم".
يُفترض أن تتبع المراكز ما يعرف بسياسات حماية الطفل، يتدرب عليها المسؤولون والعاملون ويلتزمون بها، حسب ما توضح لـ المنصة مسؤولة في هيئة إنقاذ الطفولة بمصر، طلبت عدم نشر اسمها، مبينةً أن الهيئة تقدم هذا التدريب للكثير من هيئات ومؤسسات المجتمع المدني، ويتضمن جميع أنواع المخاطر التي قد يتعرض لها الأطفال وكيفية حمايتهم.
تفعيل القوانين هو الحل
وتعتقد المسؤولة في هيئة إنقاذ الطفولة أن مصر لديها إطار تشريعي جيد لحماية الأطفال من العنف، لكن ما يحول دون تطبيق التشريعات بشكل كافٍ هو نقص الموارد والأدوات وتدريب الكوادر البشرية، وهو ما يتفق معه المحامي أحمد مصيلحي، رئيس شبكة الدفاع عن أطفال مصر، "قانون الطفل وقانون الإعاقة أعطيا خصوصية لذوي الإعاقة وحمايتهم"، وتنص المادة (80) من الدستور على أنه "تكفل الدولة حقوق الأطفال ذوي الإعاقة وتأهيلهم واندماجهم في المجتمع".
ولتفعيل هذه المواد، تشدد إيمان كريم، المشرفة على المجلس القومي للإعاقة، على أهمية أن يحرر أولياء الأمور المتضررون محاضرَ في أقسام الشرطة أو أن يتقدموا ببلاغات إلى النيابة العامة في حال اكتشافهم وقوع انتهاكات "لازم يجيبوا صورة من البلاغ للمجلس القومي للإعاقة عشان يوكل لهم محامي لمقاضاة المركز أو الجهة المتسببة في الاعتداء ويدفع بتسريع الإجراءات لدى النائب العام".
وتنصح أولياء الأمور بالتأكد من أن مركز الرعاية أو الإقامة الذي يودعون فيه أبناءهم مرخص ومشهر لدى وزارة التضامن الاجتماعي التي تعد الجهة المنوط بها الإشراف والرقابة على تلك المراكز، "وفي حال اكتشاف أنه مركز غير مرخص لازم يقدموا بلاغ للنيابة العامة".
أولياء الأمور يكتفون بالشكوى لإدارات المراكز خوفًا من تكرار رحلة البحث عن أماكن جديدة
كما ينصح المحامي أحمد مصيلحي، رئيس شبكة الدفاع عن أطفال مصر أولياء الأمور المتضررين، باللجوء إلى خط نجدة الطفل عبر الرقم 16000، وإلى المجلس القومي للأمومة والطفولة لتسجيل أي شكاوى تتعلق بإساءة معاملة أطفالهم، إضافة إلى التواصل مع قسم الشكاوى بوزارة التضامن.
وينبه إلى وجود لجان لحماية الطفل في كل محافظة تضم مسؤولين من عدة وزارات، من بينها العدل والداخلية والتضامن ومؤسسات المجتمع المدني، ويشرف عليها مسؤول محلي، كما يوجد في مكتب النائب العام مكتبٌ لحماية الطفل، ومنذ عام 2024 أضيف مكتب للمجلس القومي للإعاقة أيضًا، وأصبحت هناك أولوية خاصة للبلاغات المتعلقة بالانتهاكات بحق الأطفال ذوي الإعاقة، نظرًا لكثرة حوادث الاعتداءات ضدهم.
يُحَمِّل حنفي الأهالي مسؤولية استمرار الانتهاكات "بيكتفوا بإنهم يشتكوا لإدارة المكان عشان شايلين هم البحث عن مكان تاني"، ويؤكد أن وزارة التضامن الاجتماعي لديها فريق للتدخل السريع والضبطية القضائية، وأن المحضر يمكن تحريره خلال دقائق "الفريق بيروح يقفل المكان خلال 24 ساعة من البلاغ وبيشرف على توزيع الأطفال إلى أماكن بديلة"، مشددًا على أهمية تقديم البلاغات بعد وقت قصير من اكتشاف الاعتداء كي لا تشيع المسؤولية ويصعب ضبط الجاني.
تبذل الدولة جهودًا لمكافحة العنف والتنمر ضد الأطفال بشكل عام وذوي الإعاقات بشكل خاص، وتعمل على تغليظ عقوبة المتورطين في مخالفات، إلاّ أن الاعتداءات بحقهم مستمرة دون محاسبة معظم الجناة؛ إذ يندر أن يتمتع أولياء الأمور بالشجاعة نفسها التي أظهرتها عائشة في رحلة دفاعها عن حق ابنها وإصرارها على اتخاذ الإجراءات القانونية لمحاسبة المتورطين في إيذائه، إذ تُطوى صفحات كثيرة من الانتهاكات والاعتداءات بحق أطفال التوحد بسبب صعوبة إثبات الوقائع وخوف أولياء الأمور من تحمل مسؤولية أطفالهم الثقيلة وحدهم دون معين.