دخلت أسماء عبد السلام دوامة الاكتئاب والخجل من جسدها عندما بلغت الرابعة عشرة ووصل وزنها إلى 80 كيلوجرامًا. طالها التنمر الشديد من المحيطين بها ولكن الأكثر إيلامًا كان تنمر أبويها. بدأت تخشى الظهور أمام الناس وسيطرت عليها الرغبة في حبس نفسها بالمنزل، حتى شاهدت فيديو على الإنترنت لامرأة تتقيأ بعد الأكل؛ فقررت تقليدها.
كانت أسماء، التي بدأت عادة التقيؤ قبل ست سنوات، أجرت محاولتين للتخسيس ولم تتمكن في أي منهما من الاستمرار في تقليل كميات الطعام، فوجدت في التقيؤ وسيلة لإنقاص وزنها.
لم تلحظ أسرتها تغير وزنها رغم انخفاضه بدرجة كبيرة، فخلال شهر واحد فقط نقص وزنها إلى 69 كيلوجرامًا فقررت الاستمرار.
تعاني أسماء من مرض بوليميا نرفوزا/النهام العصبي، الذي ظن البعض لفترة طويلة أنه يصيب العارضات والممثلات والمشاهير فقط، ربما لأن انتشار اسمه ارتبط بمعاناة الأميرة ديانا منه، وكذلك الممثلة الأمريكية جين فوندا. وهو مرض نفسي يدفع المصاب لتناول كميات كبيرة من الطعام في فترة زمنية محددة، ثم يشعر بالذنب، فيلجأ إما للقيء أو استخدام اُلملينات ليتفادى زيادة الوزن.
من الذي يصاب بالبوليميا؟
البوليميا أحد أشكال اضطرابات الطعام وفقًا لتعريف الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، ويندرج أيضًا تحت هذه الاضطرابات أمراض فقدان الشهية العصبي، والأكل العاطفي.
توضح الجمعية الوطنية الأمريكية لاضطرابات الطعام أن نحو 70 مليون شخص حول العالم يعانون منها، وأن تلك الاضطرابات تحتل الترتيب الثاني في التسبب بأكبر معدل وفاة بين الأمراض العقلية الأخرى، فيما يسعى شخص واحد فقط من بين خمسة مصابين للحصول على العلاج من متخصص.
لا توجد فئة عمرية محددة لهذا المرض. توضح الدكتورة هبة عيسوي، رئيسة عيادات اضطرابات الأكل النفسية بكلية الطب جامعة عين شمس، أن هذه تلك الأمراض تنتشر في مصر بين فئات مختلفة؛ الشباب في سن العشرين والثلاثين، والمراهقين، وكذلك كبار السن والأطفال.
أشارت هبة خلال حديثها لـ المنصة إلى أن اضطرابات الطعام مرض قديم يعود ذكره في قواميس الطب النفسي إلى عام 1898، ويندرج تحتها فقدان الشهية العصبي، وهو الامتناع عن الأكل تمامًا بغرض فقدان الوزن المستمر.
ولاحقًا مع تطور الطب النفسي سُجلت الكثير من الأمراض تحت هذا النوع من الاضطرابات مثل النهام العصبي، وهو تناول الطعام دون الشعور بالجوع، والأكل الانتقائي الذي يدفع المريض لتناول أنواع محدودة من الطعام.
فيما توضح الدكتورة نرمين شاكر، نائبة رئيس وحدة الأبحاث بالأمانة العامة للصحة النفسية، حسب بحث غير منشور للأمانة، أن نسبة إصابات فقدان الشهية العصبي كانت 0.2% بين العينة البحثية، والشره العصبي 0.2%، بينما وصل اضطراب نهم الأكل إلى 0.3%، وهو الأكثر انتشارًا، ويعتاد فيه الشخص تناول الطعام بشراهة عند الشعور بالحزن أو التوتر.
كانت مستشفيات عين شمس أجرت دراسة على عينة من 120 شخصًا أظهرت أن نسبة انتشار البوليميا تصل بينهم إلى 8%، حسب هبة العيسوي أستاذة الطب النفسي، ويظهر المرض بشكل أكبر مع سن العشرين، خاصة بين الفتيات مع هوس النحافة والرغبة في الحصول على ما يتصوره المجتمع أنه "الجسد المثالي".
الضغط النفسي أهم أسباب الإصابة بالبوليميا
تعتبر دكتورة نرمين أن أهم أسباب الإصابة بالبوليميا هو التعرض للضغط النفسي، أو الانتقاد من الأبوين، وهو السبب الذي دفع أسماء لبدء التقيؤ، إلى أن لاحظ شقيقها تكرار سماع تقيؤها في الحمام، فأخبر والدهما الذي اصطحبها لطبيب باطنة.
"دكتور الباطنة قال لوالدي إنه مرض نفسي، لكن بابا ما اقتنعش وأمرني إني أتوقف عن التقيؤ ووعدته إني هحاول" تقول أسماء لـ المنصة، لكنها لم تتمكن من الوفاء بوعدها "ما قدرتش أوقف، وعرفت بعد كده من مُدرّستي إن ده مرض نفسي ومش هقدر أوقفه لوحدي".
لمراضاة والدها لجأت أسماء إلى التقيؤ سرًا في أكياس بحجرتها بعد الأكل، تقول"في البداية كانت المعدلات مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، لكن وصلت لمرحلة إني بعمل ده مرتين في اليوم".
شعرت أسماء باكتئاب بعد ثبات وزنها على 68 كيلوجرامًا، لدرجة أوصلتها لمحاولة انتحار "ساعتها قلت لماما وحست إني لازم أروح لدكتور نفسي، وأقنعت بابا".
تؤدي البوليميا إلى أمراض عضوية في المريء والمعدة والأسنان والقلب
"لكن مع الوقت بدأ بابا يتهمني بالدلع واختلاق المشكلات وزيادة المصاريف بدون سبب، فوقفت العلاج النفسي" تضيف أسماء التي خاضت تجربتها الأولى مع العلاج النفسي في عمر السادسة عشرة، بعد عامين من المعاناة مع المرض. وعندما توقفت عن الجلسات العلاجية أمام ضغوط الأب؛ عادت للتقيؤ مرة أخرى.
من مخاطر الاستمرار في التقيؤ لدى مصابي البوليميا أنه قد يؤدي إلى أضرار في المريء والأسنان والمعدة واضطرابات في القلب؛ وبالفعل بدأت أسماء تعاني حالة من الضعف العام وآلام المعدة.
مراحل العلاج
قد تكون هناك أسباب وراثية لمرض بوليميا نرفوزا، فالجينات تلعب دورًا كبيرًا في أمراض اضطرابات الطعام، وهذا ما حدث مع هبة عباس التي أصيبت بالبوليميا منذ عامين، بعد تعرضها للتنمر الشديد من والدها بسبب وزنها، رغم أنه عانى سابقًا من نفس المرض.
"بابا مريض بوليميا. كنت بشوفه باستمرار وهو بياكل كميات كبيرة جدًا ويرجع الأكل في الأسبوع مرتين وتلاتة. لكن بابا وزنه كان مثالي جدًا ومكنتش فاهمة بيعمل كده ليه"، تقول هبة لـ المنصة.
قررت الفتاة العشرينية التي كانت تعاني من الوزن الزائد، تقليد والدها لتجنب إهاناته. بدأت هبة تفقد الوزن مع الوقت، لكن بعد مرور 9 شهور لاحظت تساقط شعرها وتكسير أظافرها. استمر ذلك إلى أن ذهبت مع صديقتها لطبيب نفسي لتبدأ مرحلة علاج استمرت لعام ونصف العام.
دكتورة نهال زين، أخصائية الطب النفسي وعلاج الإدمان، قالت لـ المنصة إن السمة الأساسية لمرضى اضطرابات الطعام هي وجود مشكلة في صورة الجسد. ولفتت إلى أن العلاج يشمل عدة مراحل "عادة ما نبدأ بالجانب العضوي، فالمصاب يجب أن يذهب لطبيب باطني لعلاج الأنيميا وتعويض فقدان العناصر الغذائية المهمة"، وبعدها تبدأ مرحلة العلاج النفسي، التي تتضمن التعامل مع أعراض أخرى عادة ما تصاحب اضطرابات الطعام، ومنها السواس القهري، والقلق، والاكتئاب.
"نتبع مع المريض العلاج المعرفي والعلاج السلوكي"، تقول زين مشيرة إلى دور الجلسات العلاجية الجماعية مع المرضى، فضلًا عن العلاج الدوائي لو تزامن الاكتئاب مع اضطرابات الطعام. وتنوه إلى أن نجاح العلاج يحتاج التزامًا لفترة طويلة حتى لا يكون هناك تحسن مؤقت يعقبه انتكاس "يجب أن تستمر المتابعة لفترة من 9 شهور لعام، وقد تزيد".
وفاة والد أسماء قبل عامين دفعتها لاستئناف العلاج النفسي، لتستمر في رحلة التعافي من المرض. باتت تواظب على جلسات علاج نفسي سلوكي، وتحاول تجاوز تجربتها المؤلمة، وتتمنى التخلص من توابع المرض بشكل كامل، كما تتمنى أن يتوقف المجتمع عن التنمر بالشباب والمراهقين حتى لا يعانوا نفس تجربتها.