المعتكف في دهشور - تصوير: نهاد ذكي

صحراء دهشور: أو كيف تطلق سراح جانبك المظلم

منشور الأربعاء 18 نوفمبر 2020

 

أتذكر صديقًا أخبرني منذ بضع سنوات أن العالم الذي نعرفه على وشك تغيّر كبير. كان يتحدث عن عالمٍ يفنى وآخر ينبت فوق أنقاضه. صديقي لم يكن يقصد فناءً فعليًا، هو المهتم بالفلكِ والنجوم، لكنه كان يعني من خلف كلماته أن عوالمنا الخاصة والفردية هي التي على وشك أن تتغير؛ وأننا قريبًا لن نعرف تلك النسخة الحاضرة منا. قال لي "العالم ينتهي ويبدأ في دورات لا نهائية، لا نلحظها، لأنها لا تحدث من خارجنا".

على الرغم من أن حديثه هذا كان في عام 2012، وقتما أثيرت أسطورة نهاية العالم وفقًا لتقويم حضارة المايا، إلا أنني تذكرته بالأمسِ. ربما لأنني لا أعرف شخصًا واحدًا لم تتغير حياته خلال هذا العام بفعلِ الجائحة والحجر الصحي الذي ترتب عليها. ليس هناك من لم يتأثر، لا على مستوى العمل ولا المنزل. ما إذا كانت العزلة إجبارية أم اختيارية. كلٌ عانى على طريقته والجميع أصبحوا نسخًا أخرى عن ذواتهم.

اليوم، أفكر فيما قاله لي، وأشك في ذاكرتي. هل دار هذا الحوار في الحلم أم الواقع؟ في الحقيقة، لست متأكدة تمامًا، وعادةً لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال أبدًا؛ فأنا لا أتذكر أحلامي، وفي بعض الأوقات أشعر أنني عشت مواقف وذهبتُ إلى أماكن تفاصيلها حاضرة جيدًا في الذاكرة، إلا أنني عندما أبحث عنها في الواقع، اكتشف أنها بلا وجود وأن قدمي لم تطأها من قبل. لم أعرف حينها لما يخلط عقلي بين الأحلام وأحداث الحياة اليومية، لكنني ظننتُ أني لو تذكرت أحلامي، لربما ساعدني هذا في اكتشاف الحد الفاصل ما بين الوعي واللاوعي.

 

دهشور - تصوير: نهاد ذكي

في يناير/ كانون الثاني 2020، ذهبتُ للمرة الأولى في حياتي إلى ما يشبه "المعتكف الكتابي"، هي ورشة كتابة إبداعية في مكانٍ هادئ ومعزول، مكان جميل وشديد الطبيعية، قادر على أن يعيدك إلى نفسك الأولى. هناك في دهشور بين أنصاف الأهرامات وسلاسل النخيل؛ وحيث يلتقي الأخضر بالصحراء، جلستُ وحضرت جلسات التأمل والكتابة. نستيقظ في السابعة صباحًا، ونتناول وجبة إفطار شديدة المحلية، فطير مشلتت وعسل، أو فول وطعمية وبيض وبطاطس. نلتف حول الطاولات في الحديقة، ونتناول إفطارنا بين الأشجار ونسائم يناير تداعبنا. لنبدأ فيما بعد يومنا وتدريبات الإبداع.

لم أشعر في حياتي بمثل هذا السلام، كنا نكتب لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يوميًا، نعصف أذهاننا ونلقي القطع التي ارتجلناها من أدب وشعر على بعضنا البعض بحماسة أطفال، وفي المساء، كنا نشاهد فيلمًا على شاشة العرض بين التاسعة والحادية عشرة، ومن ثم نلتف لنصف ساعة حول نار المدفأة. بعدها، نودع بعضنا كأصدقاءٍ قدامي، ونذهب إلى غرفنا، لننال قسطًا من النوم. وهناك في غرفة المنزل العتيق وعلى سريرٍ صغير لم يعتده جسدي بعد، تذكرت حلمًا للمرةِ الأولى.

 

البيت - تصوير: نهاد ذكي

في اليوم الثاني من ورشة الكتابة الإبداعية، طلب منا المخرج والمدرب الفرنسي- المصري نمير عبد المسيح، أن نكتب عما حلمنا به بالأمس؛ كان هذا تدريبًا من ضمن تدريبات إبداعية كثيرة تعلمناها للحث على الإبداع، أو لالتقاط "الأحجار عن الطريق" كما كان يقول نمير، والأحجار هنا هي المادة التي نكتبها والكلمات التي نستخدمها أثناء الكتابة. خلال هذا التدريب الأول، لم أجد ما أكتبه. فأنا لا أدري حتى إن كان هناك حلم أثناء نومي من عدمه. لذا قمتُ بإشعال خيالي لابتكار حلم.

كان هذا جزءًا من تدريبي، ولأنه حُلم زائف، لم أرفع يدي لألقيه على الحاضرين كما فعل البقية، بل فضلتُ الاحتفاظ به لنفسي. وبعدما انتهت المحاضرة الصباحية، أخبرت نمير أثناء فسحة الغداء أنني لا أتذكر أحلامي. حينها قال لي إن هناك بعض التدريبات التي يمكنني ممارستها لتحفيز الذاكرة على تذكر الحُلم. وعلى الرغم من أنني لم أحظ معه بالوقتِ الكافي ليخبرني عن الطريقة؛ إلا أننا بعد يومين اثنين، تذكرت حلمًا حلمته هناك.

 

هنا كنا نجلس ونكتب - سيلفي للكتابة

كانت التدريبات قائمة على ألعابٍ عقلية، بعضها كان أشبه بـ "الغميضة" من أجل تحفيز الحواس؛ نغمض أعيننا وندور في حلقات، في محاولة لالتقاط الأحجار أثناء عمانا. ما الذي ستفعله إذا فقدت بصرك بإرادتك؟ حينها سترى بيديك خشية التعثر، لكن هل ستتمكن من تشغيل حواسك للعبورِ إلى الجانب الآخر؟ أعتقد الآن أن هذا التدريب بالتحديد، هو الذي ساعدني.

في يومي الأخير بالورشة، استيقظت في مزاجٍ غير رائق؛ لأنني عرفتُ للمرةِ الأولى لما لا أتذكر عادةً أحلامي. فقد عطلت ذاكرتي منذ زمن، وأعتقد أنني فعلت ذلك عن عمد؛ إذ أن دماغي لا ينتج سوى المسوخ والصور المشوهة. تلك الكوابيس التي من أجلها ذهبت لأدق وشم "مصيدة الأحلام" على ظهري، لعلي أبطل تلك اللعنة. وقد كان تدريب اليوم مناسبًا لخيالي القاتم؛ إذ قمنا بالكتابة بكلتا يدينا، فأنتجت يدي اليسرى نصوصًا أشبه بالطلاسم والتعاويذ.

 

التدريبات - تصوير: نهاد ذكي

كان هذا هو حلم اليوم السابق، ألقيه اليوم لأول مرة "بالأمسِ حلمت أن قططي الإناث أنجبن الكثير من الهررة الصغيرة، رأيتهم يلتففن جميعًا حول الجسد الميت لجدي الراحل، ومن ثم بدأن في نهش لحم وجهه تاركات عظام الفك ظاهرة للعيان. ما أقلقني كان أنني كنتُ هناك أراقب جدي يؤكل قبل أن أخبئ جسده من أمي في الخزانة، خشية أن تعنفني".

تلك الشجاعة التي أحظى بها اليوم للحديث بأريحية عن "جانبي المظلم"، ربما لم أكن سأتحلى بها لو لم أحضر تلك المحاضرات من ورشة دهشور، ولو لم أخض تلك التجربة الثرية التي لا أستطيع أن أفشي كل جوانب سحرها، حفاظًا على الحقوق الأدبية لتلك التدريبات والتي تعود للمحاضر. إلا أنني أستطيع اليوم أن ألمس أثر تلك التجارب الجديدة على نفسي؛ فقد دخلتُ هذا العام وأنا في شرنقة من العزلة، أخشى من أن ينفذ الآخرون إليَّ، ويرون هواجسي التي أخجل منها، وها أنا ذا اليوم، والعام يوشك أن ينتهي، أكشفها بإرادتي، لأنها كما قال نمير عبد المسيح "منها قد يتولد الإبداع".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.