فليكر - برخصة المشاع الإبداعي
شاب سكندري في السبعينيات.

وجه قديم

منشور السبت 30 يناير 2021

 

(1)

كان أحد شباب الحي المدللين، بشعره الطويل المفرود بالمجفف الكهربائي حديث الصنع آنذاك، في منتصف السبعينيات، والذي تخطى ياقة القميص المقواة مدببة الأطراف، واقترب من ملامسة الكتف، مع تخفيفه من الأمام، ووجود "قُصَّة" صغيرة بعرض الجبهة. كانت هذه الموضة تسمى "قُصِّة الأسد" المستوحاة خطوطها العريضة من وجه الأسد. كان يحمل وجهًا له تضاريس مميزة، كالوجنتين البارزتين، والجبهة العريضة، والذقن المشقوقة. كانت قمصانه، وبنطلوناته بالطبع، مثل موضة هذه الأيام؛ شديدة الضيق، يرتديها على اللحم مباشرة، كأنه عُريٌ مقنع، لتبرز بوضوح تفاصيل جسمه الممشوق والمتجانس وانحناءاته، وثنياته. كان هناك برود ما يغلفه، ويغلف حركاته وسكناته، كأنه تمثال نصفي نُفخت فيه الروح.

لا يمر بمفرده، ولكن داخل عربة صديقه "السنِّيد"، الإسبور الحمراء، التي لا تتسع إلا لاثنين. بدون صديقه ربما يبدو حضوره عاديًا، لا قيمة له، فالأداء الاستعراضي الذي يقوم به يحتاج لمن يسنده، لأنه منهمك تمامًا في إتقان دوره، وفي عد حركاته وسكناته، والاستماع لرجع صداها في بئر نفسه، فلا يلحظ مجال تأثيره على من حوله.

مشاوير ماراثونية يقطعانها بالعربة على البحر، لايفعل شيئًا سوى أن يتطاير هذا الشعر، مع ابتسامة صغيرة متحفظة على وجهه. كان يودع النصف الثاني من عشرينياته، ويستقبل ثلاثينياته وفمها المفتوح على الهاوية. كان يتردد على أحد الجيتوهات القليلة، في المعمورة، التي تثمن هذا النوع من الجمال الأنثوي: الشعر الطويل المفروق من المنتصف، السلاسل الذهبية حول الرقبة، والمعصم، والعيون الخضراء، النادرة في الرجال.

(2)

كان يكلم الفتيات كأنه يتفضل عليهن بجماله، كأن إحساسه بجماله الأنثوي، يفوق إحساسه بانجذابه إليهن. ربما هذا الترفُّع جزء من الاستعراض، ليغيظ به بني جنسه من الرجال، أكثر من اهتمامه بالنساء. ربما الفتيات اللاتي التففن حوله، كنَّ تبحثن داخله أيضًا عن الشبيه. بالرغم من وقوف المرأة بعيدًا عن الصفوف الأولى من الحياة العامة، كانت مقاييس الجمال الأنثوي ورموزه هي المسيطرة على المخيلة الجمعية، وغلفت ذكورة وذكور هذا الجيل بتفاصيلها. ربما خسارة المرأة في "الخارج"، كان يقابله انتصار وشغل مساحات في "الداخل"، والمجال الخاص، بوجودها ورموزها وأفكارها. في تلك الفترة من السبعينيات، بوصلة الموضة والخيال، كانت تتحرك باتجاه المرأة، مع اقتراب حثيث لموضة المرأة من عالم الرجال، كأن هناك إعادة مزج جنسي، وإعادة تصنيف، داخليًا وخارجيًا للجنسين، لم يقم به المجتمع، ولكن فرضته الموضة وجماعات التمرد.

(3)

الشَعْر مكان إعلان ونزاع هوية، كونه إحدى علاماتها، وأحيانًا يعكس قلقًا روحيًا ما يمر به صاحبه. ربما لأنه ليس هناك دورات متتالية تُظهِر معجزة النمو على أجسادنا، وبهذه السرعة، مثل الشعر والأظافر. هما علامتا الطبيعة المرئيتين على سطح أجسامنا، لذا لهما هذا الحس الطبيعي، والتمييزي في آن، لذا يمكن أن يتلبسا بأي فكرة دينية، أو هوياتية.

قابلت فتاة، قامت بحلاقة شعرها تمامًا على "الزيرو"، وبدون أسباب مرضية. ليس تمردًا على الأنثى التي بداخلها، أو خارجها، ولكن قصاصًا منها، وانتقامًا من "التاج" المميز والأقوى تاريخيًا. ربما في الأزمات الروحية الحادة، للمرأة والرجل، معًا، تكون هناك رغبة في تحييد الجنس، ونزوع للعودة لمشتركٍ ما إنسانيّ بين المرأة والرجل، كأن النوع هو سبب الأزمة. فحلاقة هذه الفتاة لشعرها، ربما ليس للتشبه بالرجال، بل تعبير عن رغبتها في فقد إحدى علامات الهوية من أجل العودة لمكان متساو، قبل تصنيف الأنواع.

(4)

مع مرور الزمن، وخروجنا من أزمنة القداسة والتمرد وعلاماته، والتداخل الشديد بين رموز الرجال والنساء، كأحد الاستقطابات التي تصنعها الموضة من ناحية، وحيرة ولا مركزية العصر وسيطرة الحس العملي على الجنسين من ناحية أخرى؛ أصبح شعر الرجال الطويل بلا معنى ومنزوع الدلالة. ربما تصنَّف هذه العلامة الآن داخل هذه الدائرة المتداخلة بين رموز عالم الرجال والنساء معًا. لو سار هذا "الفالنتينو" الآن، بهذا الشعر المفرود بالمجفف الكهربائي، ربما سيكون مدعاة للسخرية، كأنه يسير في متحف مكشوف للنماذج والموضات القديمة.

(5)

الطلبة زمان، عندما كانوا يريدون أن يُجبِروا أنفسهم على المذاكرة، وعدم الخروج من البيت تحت أي ظرف؛ يقومون بحلاقة شعورهم على الزيرو، كنوع من العقاب الذاتي المفيد. ارتبطت حلاقة الشعر " زيرو"، بالحبس، أو الانفصال عن المجتمع الخارجي. كان العقاب المشترك بين المؤسسات الثلاث؛ الجيش، المدرسة، السجن، هو حلاقة الشعر "زيرو". إهانة ما بعدها إهانة، لفقد إحدى علامات الهوية، وتجريد الإنسان من هذا العضو الطبيعي، والتزييني، في آن. نوع من الإيذاء المتعمد تقوم به هذه المؤسسات، بالإضافة لبعض العقائد الدينية، لتعتاد نسيان وجهك الذي ألفته من قبل. لتنزع جزءًا من هويتك، وتستقبل هوية جديدة، متقشفة، كما يحدث مع الرهبان البوذيين، فجزء من هذه العقيدة قائم على التقشف والعنف تجاه الذات لتستقبل ذاتًا جديدة بلا زينة أو أُطر أو رتوش. حتى تصبح هذه الذات الجديدة والمتجردة، إحدى علامات الهوية الجديدة المتحولة.

(6)

الشَعْر يمكن أن يكون أيضًا أحد رموز التضحية. عندما أجريت حوارًا مع مغني الأوبرا صبحي بدير منذ سنوات، وهو أحد أعضاء فرقة "البتي شاه" الشهيرة في السبعينيات، سألته عن زواجه كيف تم؟ أخبرني بأن زوجته كانت إحدى المعجبات بالفرقة، التي تحضر لها موسمها الصيفي في قصر المنتزة بالإسكندرية. كانت شعور الشباب وقلوبهم، في ذلك الوقت، تحتلها موضة "البيتلز"، المميزة بالشَعْر الطويل. عندما تقدم للزواج من هذه "المعجبة"، كان طلب والدها، أن يقص شعره. لم يعترض، وقدم شعره "قربانا" لهذا الزواج، ولم يجد غضاضة في فعله أو أي استسلام لسلطة أبوية. ربما الحب كان أقوى من التمرد، عكس ماكان عند "البيتلز" و"الهيبيين" بشكل عام.

في الأفلام المصرية القديمة، كانت السيدة تضحي بضفائرها، لصالح استمرار حياة الأسرة. مهر جسدي يتم التضحية به من أجل غاية أكبر. بينما البطلة تسلم الضفائر للحلاق وينقذها المال، تتبادر إلى ذهني العلاقة المجازية بين الشَعْر والعذرية، أو الشرف بشكل عام. ولكن الشرف هنا له مفهوم آخر تمامًا، كونه متماسًا مع التضحية.

(7)

في هذه الفترة من السبعينيات بدأت في التعرف، مثل باقي جيلي، على حلاق جديد يستخدم المجفف الكهربائي ومثبتات الشعر. أخرج من عنده بشعور مختلف بالنفس، وبأناقتها، حتى ولو كانت الملابس أقل في الأناقة من الشَعْر، فالشعر المفرود والمهفهف، سيغفر ويغطي على كل شيء. أسير وكأني ملك زماني، طافيًا فوق شَعْري، أو شَعْري طافيًا فوقي، كمنطاد. أنام نصف نوم، كالثعلب، وعلى جانب واحد من المخدة، حتى لا أفسد هذ التاج الطائر.

(8)

في أزمنة أخرى، وأنا اقترب من فوهة الثلاثين، كنت أخشى من الصلع، من هذه الحفرة الجينية التي لو سقطت فيها لن أخرج منها كما دخلت. ربما يحدث لي تغيير للهوية النفسية، يحتاج الكثير من الشجاعة والجلد، حتى تصل لمرحلة نسيان الوجه حتى وأنت تراه، والتعامل معه مباشرة من الخيال. يجردنا "الصلع" من هذه العلامة الطبيعية التي تنمو فوق رؤوسنا، ويعيدنا لصورة قديمة ولدنا بها. ربما يصنع المفارقة، ويمنح صاحبه عمرًا أصغر من حقيقته مكافأة على تعايشه معه. كان الشعر ، والتجاعيد، وخفوت لمعان العيون، من علامات التقدم في العمر.

ربما في هذه الفترة، كان أغلب الآباء صلعاء، لذا كان الصلع مهددًا لجيل الأبناء، وربما جاء اهتمام الجيل الجديد بتزيين الشعر، والانحراف به بعيدًا عن رموز الذكوربة؛ خوفًا من هذا الصلع المبكر، وأيضًا ضد سلطة الآباء الصلعاء، وقداسة الروتين، التي كانت "الصلعة" إحدى علامات تجسيدها على الشاشة، مثل بطيخة محمد خان، التي كانت ترمز لعائلة موظفي الطبقة المتوسطة، الذي يسير "كبيرها" بالبطيخة في الشارع، وينام فترة الظهيرة، ثم يجلس، بالفانلة الحمالات، وسط أبنائه لتناول شقوق البطيخة المثلجة في حر الصيف.

                                                 البطيخة (1972) - فيلم قصير من إخراج محمد خان 

(9)

رأيت هذا "الوجه القديم" أخيرًا، منذ شهور، بعد عدة دورات من الزمن، وقد ذاب مع غيره من النماذج والموديلات التي كانت تشغل فضاء الحي والإسكندرية، في السبعينيات، إيذانًا بمرحلة جديدة تتلاشى فيها علامات الماضي بهدوء، كأنها قطعان من طائر البطريق تنتحر بإرادتها. 

شعرت بانجذاب للنظر ناحية أحد الرجال المسنين، ولا أعرف السبب في هذا. لم أعبر نفق الزمن مباشرة،  لأحدد ملامحه، وهذه العين الخضراء، التي لا زالت خضراء، ولكن كنجيل دهسته الشمس عبر أعوام وأعوام، وشتاءات وشتاءات. كان على وشك النزول من الترام، ممسكًا بالقضيب المعدني أمام الباب بيد، بينما قدماه تهتزان بصورة أشد من اهتزاز عربات الترام. لحظتُ رعشةً ملحوظةً، في كل جسده، أخذت تتجمع عبر هذه النفق الزمني، حيث يبدل فيها الماضي صورته أمام البحر. لمحت في البداية وجهه الجانبي، المميز له، ولتمثاله الشمعي المنحوت في ذاكرتي. تبقى هذا الوجه المستطيل ذو التضاريس الحادة، ولكن بعد أن ذابت حوافه وأصبح دائريًا، وانفلش الأنف المدور، وزاد تكوره، واحمراره، كأنف الأسد. على حواف صلعة كبيرة، لم تتبقَّ سوى بعض خصلات قليلة من الشعر الرمادي المصبوغ والمخلوط بالشعر الفضي، منسدلةً على أذنيه، كأنه يحافظ على طقس قديم، على هذه الأذن المغطاة بالشَعْر، حتى  ولو ترك بحر رأسه عاريًا تمامًا. لم أجد معه أي أثر من عائلة، أو ذرية، أو بيت ينتظره فيه أحد.

رفعت له كأسًا، نخبًا للأيام التي لن تعود، لمحني بطرف عينه، ونظر لي وابتسم ابتسامةً باهتة، ورفع كأسه أيضًا، ثم أعطاني ظهره وغادر الترام، قبل أن أسترد ذاكرتي للحاضر. صوت ارتطام الكأسين أصدر رنينًا لم يسمعه، في هذه الترام الليلية، أحد سواي.