أطفال يتعلمون صناعة الفخار في قرية تونس بالفيوم - بإذن خاص للمنصة

قرية تونس.. الفن يتجاوز الطبقية

منشور السبت 5 يوليو 2025

كان للحرف اليدوية رصيد كبير في الثقافة المصرية، من العصور القديمة حتى الحديث منها، كما يظهر في المتاحف والكتب التي تؤرخ لها: ملابس، أواني فخارية، زجاج، خزف، حلي، مشربيات، قطع أثاث، إيوانات، أبواب منقوشة، أدوات معدنية، وغيرها وغيرها.

جميعها تمس شتى ممارسات الحياة اليومية، بدون استثناء، وتصل جودتها، حتى الآن، إلى مرتبة الفن الرفيع الذي يمنح صاحبه اسمًا محددًا، وفردانية تخص موهبته. جميعها تنتمي لفنان رمزي ينوب عن كل هؤلاء، نظرًا لطبيعة العصر الذي لم يكن يعترف بهذه الفردانية، ليس إنكارًا لها، ولكن كانت النظرة الجمعية للأشياء، ولأمور الحياة وممارساتها، هي السائدة. 

انسحاب بطيء

مع سيطرة الحياة الحديثة، ووسائل التصنيع والإنتاج الكثيف، تحولت هذه الحرف والمنتجات اليدوية إلى أعمال منبوذة رغمًا عنها، نادرة، لا يقبل عليها أحد لارتفاع ثمنها قياسًا بالمنتجات الأخرى، واختلافها في الذوق عن الذوق الاستهلاكي السائد الذي فرض نفسه على البيوت والملابس، أيًا كان مصدره، وأيضًا لندرة وجود هذا الفنان الموهوب الذي يُصنِّعها.

كانت هذه المشغولات تشكِّل جزءًا أساسيًا من بيوتنا في الستينيات والسبعينيات: مطحنة البن النحاسية، الكليم الأسيوطي، الشيلان التُلِّي المصنوعة من سيور الفضة، المناديل الصغيرة مطرزة الحواف، الحصير المصنوع من نبات السمار، المشغولات الفضية، القلل الفخارية، وشبابيكها الهندسية، وغيرها.

تسربت واحدة بعد الأخرى وزالت ألفتها المعهودة لغيابها الطويل. وقتها لم نكن نشعر بأهميتها، لأنها حاضرة وتملأ عيوننا بدون منافس، إلى أن جاء المنافس الحديث مع تغير العصر، وسيطر، لتنسحب هي في هدوء وبدون جلبة، لأنها رأت نفسها غريبة عن العصر، حتى استيقظنا ذات يوم وبيوتنا خالية منها.

من مدرسة الفيوم للفخار

يقظة موازية

ولكن حدث نوع من اليقظة/الاستنارة الموازية، بأثر رجعي، لنستعيد ما فقدناه، ونستعيد معه روح الصانع الفنان. ولكن العودة هذه المرة كانت مكلفة، لأن الحصار الذي فُرض على هذه المشغولات والحرف اضطرها لتعيش أن تدور في مجتمع مغلق، كسلعة ثمينة، نادرة، لا يُقبل عليها إلا القلة.

وربما كان هذا الإقبال لأغراض جديدة كاستخدام الجلابيب الريفية، التي أصبحت موضة في الستينيات، زيًا احتفاليًا. وأيضًا كتعبير عن الأصالة والانتماء القومي، بجانب تقدير الحس الرفيع الذي تحمله. فارتفعت أثمانها، أو أصبح هامش الربح فيها كبيرًا نظرًا للمسافة الطبقية بين مكان إنتاجها؛ الريف الذي حافظ على استمرارها، ومُستهلكها؛ الطبقة الجديدة الأرستقراطية التي ظهرت بقوة في ستينيات القرن العشرين مع صعود الأرستقراطية المصرية وحواشيها يسارية الهوى.

هنا أصبحت عودة هذه الحرف لبيوت الطبقة المتوسطة مستحيلة، بسبب السعر، ولاختلاف ذوقها عن باقي كيان البيت، أو أهله.

خرجت هذه المشغولات من البيوت، ومن الاستعمال اليومي، إلى جيتوهات مغلقة: بازارات السياح، ومحال الأنتيكات، الجاليريهات الخاصة، وبيوت وأجساد نساء الطبقات الأرستقراطية. الأماكن الجديدة التي تثمن الندرة والتميز، والتي لم تسهو عن قيمة هذه المشغولات، بجانب طبقة الأجانب التي تعيش في مصر وكانت تتعامل معها كما تتعامل مع الآثار، وتعتبرها سلالة قديمة وممتدة.

الأب بطرس

في الفترات الانتقالية كان لا بد من وجود عين خبيرة يقظة تعيد بعث هذه الكنوز، وتمنحها التقدير كما فعلت مثلًا هدى شعراوي مع النحاتين محمود موسى وعبد البديع عبد الحي، اللذين كانا نحاتين بالفطرة، فارسلتهما على نفقتها في بعثة خارج مصر لدراسة النحت. فإن لم تتوفر هذه العين في البيئة المحيطة، فلا بد أن تأتي من خارجها.

بداية من الخمسينيات ظهرت مشاريع لتوسيع الدائرة من حول هذه الحرف وبعثها من جديد، وربط هذا الريف الفقير الذي يحتفظ بأسرار صناعتها، برأس المال، وفك دائرة الحصار من حولها. فظهر مركز ويصا واصف للفنون في قرية الحرانية لإنتاج الخزف والسجاد، وأيضًا ظهر بعض الآباء الكاثوليك الذين جاءوا للعمل في صعيد مصر ومن خلالهم طوروا بعض الحرف اليدوية.

منهم الأب بطرس أيون، الذي عاش في قرية حجازة قبلي بمركز قوص في قنا، قادمًا من الجزائر عام 1970. كانت النجارة مهنة أهل القرية، فأسس مدرسة النحت والحفر على خشب السرو والسرسوع والجميز المنتشر في الصعيد، وعلَّم مجموعة من الأطفال. كبرت المدرسة، واتسعت أبواب الرزق، وأصبح يقام للمشغولات معارض عالمية. المفارقة أنه طلب أن يُدفن في القرية ضد رغبة أقربائه.

بذور وأشجار

إيفيلين بوريه وميشيل باستوري يصنعان الفخار في منزلهما بقرية تونس في الفيوم، 1975.

في قرية جراجوس المجاورة لحجازة في أربعينيات القرن الماضي، أنشأ الأب استيفان ديمون مصنعًا للخزف واستعان بتصميم من المعماري حسن فتحي، الذي استخدم القباب الطينية، لتتناسب مع حرارة الجو هناك.

وأسس مدرسة لتعليم الخزف ومحو الأمية، وجلب التلاميذ الصغار لتعلُّم المهنة، التي صارت من أهم المهن هناك. توسعت المهنة وأنشات حولها ما يشبه الصناعة للخزف وأدوات الطعام، والسجاد.

وبالطبع ما بذلته السويسرية إيفلين بوريه من جهود في قرية تونس في الفيوم، حيث عاشت منذ قدومها من سويسرا في منتصف الستينيات وعمرها 26 عامًا، حتى وفاتها عام 2021 عن عمر ناهز 82 عامًا، وأسست أيضًا مدرسة لتعليم الخزف عام 1989، وبدأت تكبر شجرة الفنانين من الأطفال حولها وأصبحوا أصحاب ورش خاصة وانفصلوا عنها.

الفن يتجاوز الطبقية

عندما افتتحنا، زوجتي سلوى وأنا، الجاليري الذي يبيع هذه المشغولات اليدوية في الإسكندرية سنة 1996، واقتربنا من كل المجتمعات المحيطة به، ظهرت كل الآراء المسبقة التي تبنيت بعضها، بشأن الاستغلال وفروق القوى بين ثقافتي الصانع والمستهلك، مما يؤدي إلى نوع من الاستغلال الشفاف من المستهلك سواء كان التاجر أو الأجنبي أو الطبقة الأرستقراطية. وبالتالي، هناك ظلم واقع على الطرف الضعيف، أي العامل، الذي لا يحصل على فائض القيمة من فنه الفطري الموروث الذي يسبغه على القطعة الفنية التي يُشكّلها.

فهناك عالمان يتنازعان هذه السلعة، قديمًا المستعمِر والمستعمَر، وحديثًا الأرستقراطي والفقير، أو المديني والريفي. بجانب أن دخول الطرف الأجنبي لتطوير هذه السلعة، حدا بالتفسير أن هناك نوعًا من استعمار للخيال، ضد الخيال الفطري للحرفي البسيط، ليصبح صورة منه!

ربما أي احتكاك بين أجنبي ومصري خاصة في هذه الأماكن البسيطة، كالقرى، كان يُنظر له على أن هناك علاقات قوى غير متوازنة، لذا هناك شبهة استغلال وفرض صورة من الطرف الأقوى. وكل من يقترب من هذا الطرف الأقوى من أهل البلد، سينال شهرته وحظوته بقدر ما يبتعد عن أهل وناسه.

تأسيس بيت إيفيلين بوريه وميشيل باستوري، الذي ألحق به مدرسة الفخار. قرية تونس، الفيوم، أوائل السبعينيات من القرن العشرين

كنت وقتها أحمل توجسًا تجاه إيفلين بوصفها الطرف الأقوى في العلاقة. صحبني هذا التصور عندما رأيت راوية في مدرسة الخزف وكانت شهرتها تنتشر وسط المجتمعات الأجنبية، والمثقفة في القاهرة بعد أن خرجت من بيت العائلة وتفوقت في صناعة الخزف على يد إيفلين. كانت راوية توقع أطباقها باسمها، ووثقت المخرجة التسجيلية عطيات الأبنودي تجربة حياتها في فيلم.

ربما تسرب لي هذا الرأي المسبق من الثقافة السياسية المحيطة، وربما لأني كنت أبحث عن مساواة وندية، بين أي طرفين.

ولكن كانت نظرة سلوى مختلفة تمامًا. كانت القطعة الفنية، بالنسبة لها، المركب الثالث الناتج عن هذه العلاقة بين الثقافتين. فهذه القطعة تجاوزت تاريخ الصراع القديم بين المصري والأجنبي، أو بين الطبقة الأرستقراطية والصانع البسيط، والفن هو السبب وله خلوده الذي يتجاوز الطبقية، وعلاقات القوى. تتغير رويدا رويدا.

تونس قرية قاومت الصدمات

كنت أنظر لهذا المستعمِر التقني الحديث من بعيد نظرة استعلائية بها اتهام مسبق، قبل أن أقترب من هذه التجارب الحياتية في الأماكن والقرى البعيدة التي سنجلب مشغولاتها للجاليري، وقد قاربت بين المستعمِر والمستعمَر القديمين ولكن في صورة جديدة. ليست علاقات الحب ولا علاقات الاستعباد، أو التبعية، وإنما الإنتاج مشترك. قد تكون هناك غلبة لطرف ولكنها ليست نهائية.

خلال عملنا في الجاليري طوال ثلاثين عامًا، بدأنا ننقب عن هذه المشغولات في كل مكان ونأتي بها. وتكشفت خريطة جديدة، غير مسيسة، لهذه الفنون والمجتمعات التي نشأت حولها، ولم تتأثر بكل الصراعات الثنائية القديمة، وتجاوزتها. ربما الفن أحد محطات التجاوز للصراع، بوصفه ناتجًا أخيرًا عنها، وله ما يفوق مفهوم السلعة من مادية، بل يشع من حوله ما يتخطى حاجز الزمن وحاجز الاستعباد أو الفوقية، أو الاستغلال.

المهم في هذه التجارب أنها أثمرت عائلات ومهنة لها اعتزازها بنفسها، وحققت أرباحًا وشهرة وثقة بالنفس لأصحابها أغنتهم عن السفر للخليج أو العمل في الأرض، ورسمت طريقًا جديدة ليست فردية خالصة، ولكن لها حس جمعي.

شاهدت ذلك في قرية تونس، تلك القرية ذات الطبيعة الخاصة التي عاش بها العديد من الشعراء الفنانين في الستينيات أبرزهم الأبنودي. وفيها أنشأ فيها الكاتب عبده جبير مشروعًا ضخمًا يفوق طاقته على الصبر وسماه زاد المسافر، ومات في منتصف الطريق. ربما غالبيتهم ينتمون لليسار، وربما السكن داخل هذه القرية كان امتدادًا لمبادئهم النظرية للتقريب بين التفكير النظري والممارسة.

وهو المكان الذي راق لإيفيلين تلك الفتاة التي أتت عام 1965 لزيارة أبيها القس، فتتزوج من شاعر شاب هو سيد حجاب ثم تنفصل عنه بعد خمس سنوات، وتختار الفيوم للإقامة ربما لأن لها علاقة بالريف السويسري. وهناك تؤسس مدرسة للفخار يدخلها العشرات من أبناء الفلاحين، يتعلمون الخزف الذي تعلمته وتخصصت فيه في جامعة جنيف، بالطبع كانت هناك صدامات جمة بين الثقافتين ولكن لا توجد نشأة لمجتمعات تتجاوز مآزقها التاريخية إلا بصدمات يسقط فيها الكثيرون ولكن أيضًا يقاوم فيها الكثيرون.

قرية مثالية

محمود الشريف رئيس جمعية الخزافين بالفيوم في مهرجان تونس - بإذن خاص للمنصة

خلال العيد الماضي زرت الفيوم التي تعرفت فيها مطلع الألفية على الفنان محمود الشريف، أحد تلاميذ إيفلين من الدفعة الأولى في مدرسة الخزف، قبل أن ينشئ ورشة خاصة به عام 2004.

هذا الفنان الأنيق في نفسه، الذي كلما تحدثت معه ونطقت لفظ حرفة على الخزف، يصحح لي بلباقة "ده فن"، لأنه فنان، والفنان درجة أبعد في درجات ترقي الوجود الإنساني، لها ضريبتها التي يمكن أن يدفعها، وينضم لهذه الأجيال التي تدافع عن القيمة والمعنى.

لا ضير أن تباع أعماله بأثمان مرتفعة في معهد العالم العربي بباريس، أو أن يقتني أحد متاحف إنجلترا أو ألمانيا عملًا له، فهناك تحول سيجد ضالته في أبنائه آمنة وآدم وإلياس، الذين يكبرون على حب الخزف، وربما آمنة أكثرهم التصاقا بالمهنة، كما أخبرني.

كنا معجبين برسوماته التي تجسد حكايات حياته ومخاوفه التي يحولها إلى أطباق، ومنها الرسمة الشهيرة التي تُمثل رجلًا وامرأة ملتصقين ببعضهما البعض، وتعتبر بمثابة توقيع له. رسمها قبل الزواج، كأمنية، وبعد زواجه ظلت كعهد بينه وبين زوجته، تلك الرفقة الممتدة، كما أخبرني في حديثي معه. من صغره كان يلعب في الطين، ويبني بيوتًا واسعة ذات أدوار ربما تشبه البيوت التي بناها القادمون من خارج القرية. يجلس لساعات في الغيط يتأمل كيف يلتقي الجبل بالسماء عند نقطة في الأفق.

يرى محمود أن تونس قرية مثالية، والفن هو سبب نجاحها وسبب عدم وجود حساسيات بين الثقافات المختلفة، فقد حدث اندماج بين الثقافات والطبقات. ويشبّه علاقته بمعلمته إيفلين أنها كانت مستودع أسراره وأيضًا مستودع الحكمة، وكان يتعامل معها عند الخلاف كأم له، ستظل تجمعه بها علاقة مهما حدث.

الفن حرر محمود الشريف وراوية وعبد الستار، ونرمين وغيرهم/هن الكثير من هذه النظرة الطبقية. كنت أحتفظ بأطباقهم في الجاليري كلوحات لفنانين كبار. ومن بعيد كنت أتابع تقدم محمود في حياته وإنشائه مع زملائه لجمعية لتطوير القرية وسمبوزيم للخزف. أجد أن الفن أحد الطرق لتجاوز أوضاعنا الصعبة، المهم أن نثق في موهبتنا، ولا نتعالى بها على بني جلدتنا.