تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أشباح الأبوة: خيبات الماضي في مواجهة المستقبل

منشور الأربعاء 30 يونيو 2021

 

جلست أمام الطبيبة في عيادتها. تحدثنا قليلًا وسألتني عن أحوالي فأخبرتها بما أشعر به. ثم ناقشتني قليلًا في تاريخي المرضي، قبل أن تنتقل إلى تاريخ عائلتي. أخبرتها أن أبي مصاب بجميع الأمراض المزمنة تقريبًا، يجمعها بمهارة ويحفظها آمنة كجامع تحف. 

بعد التشخيص ببعض اضطرابات المعدة التي أدت إلى الإصابة بإرتجاع في المريء، أخبرتني الطبيبة أن ذلك طبيعي بسبب وزني الزائد ونمط حياتي غير الصحي وجلوسي لوقتٍ طويل بسبب طبيعة عملي. اكفهر وجهي فطمأنتني أن الأمر ليس سيئًا إلى هذا الحد، ويمكن حلّه عن طريق تغيير نظام حياتي والانتظام في تناول الأدوية المثبطة للحامض المَعِدي. 

لكن قبل أن أخرج أحذرتني من ترك العنان لنفسي وتجاهل المسألة "علشان ما نبقاش زي بابا"، قالتها ضاحكة وضحكت أنا الآخر، لكنها لا تعلم أنني أفكر في هذه الجملة منذ شهور، وأنها محورية في حاضري، وأنني بالفعل مضطرب حيال اقترابي من أن أكون "شبه بابا"، وأن ذلك يُقلقني.

غريزة مجتمعية

منذ سنة تقريبًا، في أحد أيام شهر يونيو/ حزيران من عام 2020، أو عام الجائحة كما أحب أن أسميه وأميزه، استيقظت في المنزل الخالي ووجدت قطعة بلاستيكية مُستطيلة بيضاء اللون مستقرة على طاولة الصالة، في منتصفها خطّان يشيران إلى شيء خمَّنته بسهولة. تركت القطعة البلاستيكية في مكانها وعُدت إلى النوم.

بعد قليل استيقظت على صوت رسالة من زوجتي، مُرفق بها صورة نتيجة تحليل الحمل مصحوبة برسالة تقول إنها حامل. كنت أعلم ذلك منذ أن رأيت اختبار الحمل. لم أزد عن قول "هايل، ألف مبروك" وكأنني منفصل تمامًا عن الواقعة، على ما أتذكر كنت لا أزال في مرحلة الاستيعاب ولم أتيقَّن مما حدث بعد.

 

اختبار حمل إيجابي. صورة برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا

على مدى الأيام التالية عرف عدد من المقربين الخبر، الأهل تحديدًا كانوا الأكثر فرحًا بطبيعة الحال، كون الأمر يخصهم بشكلٍ أو بآخر، إذ ينقلهم من خانة الآباء إلى خانة الأجداد. لم أكن فرحًا في ذلك الوقت، كنت مهمومًا وقلقًا للغاية، كنت أفكر في مستقبل هذا الطفل في ظل كل ما يحدث حولنا، خاصةً مع وجود وباء جديد ينوي الإقامة الطويلة حسب معلوماتنا المتوفرة عنه حتى الآن.

في تلك المرحلة كنت بين شعورين، الأول أن تلك نعمة من الله فلا يجب أن أكون حزينًا تجاهها، بل ينبغي أن أكون شاكرًا مُهللًا، فغيرك لا يمن عليه الله بهذه النعمة. والثاني أن هذا أمرٌ جلل لن أقدر عليه، وأن المصاعب التي سيواجهها هذا الطفل لن أستطيع تخطيها معه، ولن أتمكن من حمايته من مصائب الزمن ونكباته.

شعرت بالضغط من شعوري بالقلق، فالتكاثر ، كما تربينا، فطرة وغريزة خُلقنا بها، فلماذا ترفض ما خُلقنا عليه لإعمار الأرض واستكمال مسيرة البشرية؟ ولم أكن أريد وقتها، ولا في أي وقت مضى، أن أعمِّر الأرض وأستكمل مسيرة البشرية، فلتكمل البشرية مسيرتها بعيدًا عني. 

حمل المسؤولية ليس هينًا، تأثيري على حياة هذا الطفل ليس بسيطًا، ولن يقل قلقي وتخفت قوة هواجسي عندما أُغلّف الضغط المجتمعي للتكاثر بكلمات مثل الغريزة والفطرة، فلا أنا شعرت بهذه الفطرة، ولا حركتني تلك الغريزة، بل كان قرارًا متهورًا في لحظة ما، ولم أتمكن من التراجع عنه، وقرَّرت تحمُّل مسؤولية هذا القرار والمشاعر المُركبة التي خلَّفها في نفسي.

وقتها سلمني القلق فريسة سهلة لأسئلة "ماذا لو؟" و"ماذا بعد؟"، وهي أسئلة تفتح عمل الشيطان ولا شك، لأن ذلك لو لم يكن عمل الشيطان فما الذي يستحق أن يُسمى بهذا الاسم؟ دارت الأسئلة في عقلي وكأنها حلقة ذِكر كما قال الأبنودي. هل سأكون أبًا صالحًا؟ هل كان أبي صالحًا؟ هل سأرث صفاته السيئة؟ هل ورثتها بالفعل؟ هل سأتمكن من تغييرها؟ ماذا لو لم أستطع؟ ماذا لو لم يحبني الطفل؟ ماذا لو لم أحبه؟ 

الحضور والغياب

أنتمي إلى إحدى أُسر الطبقة الوسطى. عمل أبي موظفًا في أحد الفنادق الواقعة على النيل، قبل أن يصل إلى سن المعاش في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أصيب بعدها بسكتة دماغية بسيطة لكنه لا يزال يتعافى منها حتى الآن، وكان هذا غريبًا بالنسبة لي، لأنني لم أعهد أبي ممن يتحدثون عن العمل والطموح والوصول إلى أعلى المناصب، بل فضَّل البقاء في مكانه بلا تطوُّر، فقط كي يحتفظ ببعض الامتيازات التي تكفل له حرية الحركة ومرونة ساعات العمل. 

رغم ذلك أصابه حزن شديد بعد وصوله سن المعاش، ولا أعلم حتى الآن إذا كان ذلك بسبب احتياجه للعمل أو سبب آخر، فأبي مثله مثل العديد من الآباء؛ يُفضلون الصمت على الحديث، يُفضلون الغضب من توافه الأمور على مناقشة المشاعر الحقيقية التي يمرون بها، وهي من أوائل الصفات التي سعيت إلى تغييرها قدر المستطاع حتى أتمكن من التواصل مع من حولي شعوريًا.

لا يحتفي أبي بالعمل، ويُفضّل عليه الكسل وجلسات المقاهي ومشاهدة مباريات كرة القدم، ورغم ذلك يستنكر على المصريين أن يكونوا أكثر شعوب العالم كسلًا وتفضيلًا لجلسات المقاهي. ورثت عنه، دون أن أدري، الكسل وعدم الاهتمام بالطموح والحياة العملية المُتدرجة.

قد يخيّل إليكم أن عدم حبه للعمل تُرجم في صورة قضائه وقتًا أطول مع أولاده في المنزل، لكن ذلك غير صحيح، فأبي قرر الغياب جزئيًا عن الصورة كما يفعل آباء الطبقة المتوسطة، حيث التربية و"وجع الدماغ" من اختصاص الأم، والأب دوره توفير المال اللازم لحياة كريمة والعقاب إذا استلزم الأمر، ويمكن أن يتوسع الدور في بعض الأحيان في الذهاب إلى الطبيب أو مذاكرة بعض المواد، لكن الحديث عن المشاعر والأصدقاء، خصوصًا في فترات المراهقة وما قبلها، فمن اختصاص الأم حصرًا.

لا أدري إن كان اختيار أبي للغياب جزئيًا مرهون بغياب الأب في حياته، فجدي لم يكن موجودًا طيلة حياة أبي تقريبًا، ولم يغيِّبه الموت، بل غاب لسببٍ لا أعلمه، ولا يتحدث عنه أحد، كأنه سرٌ حربي. لكن أمي أيضًا عاشت الجزء الأكبر من حياتها بلا أب، وغيابه كان بسبب إنفصاله عن جدتي، لكنها لم تختر الغياب الجزئي أو الكلي، بل اختارت المشاركة قدر المستطاع، وفعلت كل ما في وسعها لتكون حاضرة في حياة أبنائها.

أسسَّ أبي لغيابه الجزئي عندما بدأت أنزل إلى الشارع وأتعرف على عدد من جيراننا ممن تقترب أعمارهم من عمري، ومن هم أكبر مني سنًا. في ذلك الوقت طلب مني أبي أن أسأله عن معنى الكلمات التي يتفوه بها الأولاد في الشارع، خصوصًا هؤلاء الذين يكبروني سنًا. في أحد الأيام، وأثناء تناول الغداء، سألت أبي عن معنى كلمة "ليِّة" (دهون الذيل عند الغنم)، فتجهم وجهه وسألني عن كيفية سماعي بهذه الكلمة، فأخبرته أن أحد الصِبية نعت بها صاحبه، فأمرني ألا أكرر هذه الكلمة مرةً أخرى، وعندما سألته عن معناها، تجهم وجهه أكثر وأمرني بلهجة أكثر حزمًا ألا أكررها فقط. منذ ذلك الحين غابت عنه حياتي الاجتماعية تقريبًا.

إحقاقًا للحق، لا أعني بذلك أن أبي سيئ بالضرورة، وأدرك أنه حاول قدر استطاعته وفعل كل ما في وسعه لتنشأتنا بصورة رآها سليمة، لكن مثله مثل جميع الآباء، والبشر، له ما له وعليه ما عليه. مشكلتي الحالية أنني أحاول الهروب مما عليه، لا لكرهي له، لكن بسبب رفضي لتكرار أخطائه، حتى لا أشعر أنني جُبلت على هذه الأخطاء، وكأنني لم أخترها، وكأنها فُرضت عليَّ وعلى ذريتي، وكأننا لا نتحكَّم في أي جزء من حياتنا، والجينات التي ورثناها، والبيئة التي نشأنا فيها، هما اللذان يتحكمان بنا إلى أن تنقضي أعمارنا على الأرض. فكرة مرعبة أحاول التخلص منها قدر استطاعتي، أنجح أحيانًا، وأفشل كثيرًا.

لكن هل كان اختيار أبي واعيًا أم متأثرًا بغياب أبيه؟ أم أنه محاولةً منه لترك مساحة كبيرة من الحرية لنا كي لا نشعر بأن وجوده خانق؟ وهل هذا يعني أنني سأختار الاختيار ذاته، أم سأختار الحضور الخانق دون أن أدع مجالًا لطفلي ليختبر الحرية وينضج من خلال تجاربه الخاصة؟ كيف يمكنني أن أهرب من صورة الأب شبه الغائب المطبوعة في ذهني؟ وكيف لا أتحول إلى أبٍ حاضر بقوة غاشمة خانقة؟ 

أبو الرجل

قال الشاعر الإنجليزي ويليام ووردزوورث في قصيدته My heart leaps up كلماته الشهيرة "الطفل أبو الرجل"، وهو البيت الذي بنى عليه الطبيب النمساوي ذائع الصيت سيجموند فرويد فلسفته، حسب معرفتي، حول تأثير السنوات المبكرة في حياة الطفل (أول خمس سنوات) على حياته كُلها، حيث قال إن تلك السنوات تُحدد مسار حياته القادمة بصورة كبيرة.

هذه الكلمات مرعبة للغاية، فهي تؤسس أن حياتنا هي سلسلة متصلة من القرارات المُتخذة بناءً على سنوات تعلمنا؛ خلال المشي ودخول الحمام بمفردنا، ومحاولة الأكل دون أن نُسقط الطعام على ملابسنا.

تطاردني الجملة كشبح ثقيل الظل، وتضعني بين أمرين، أولهما يؤيده كسلي، وهو أن الخمس سنوات الأولى في حياتي هي ما صنعت كسلي ومزاجيتي وكُرهي للعمل وزيادة وزني، وهو أمر يرفع من على كاهلي الإحساس بالذنب تجاه ما لم أستطع تغييره من صفاتي السيئة.

الأمر الآخر يؤيده قلقي، وهو أن الخمس سنوات الأولى في حياة طفلي، التي ستكون سببًا في تدميره على الأرجح، سأكون سببًا مباشرًا فيها، مما يغذي إحساسي بالذنب تجاهه، وهو شعور يملأني لأنني سبب في مجيئه الدنيا أصلًا. فهل يمكنني محاولة حمايته في الخمس سنوات الأولى؟ وكيف ومما أريد أن أحميه تحديدًا؟

حاول أبي حمايتنا من تكرار ما تعرض له من صعوبات كونه طفل وحيد مسؤول عن والدته منذ المراهقة أو ما قبلها، فقرر أن يُدخلنا، عكس أغلب من نعرفهم، مدرسة لغات، حتى أن أصدقائي وجيراني سألوني إن كنا ندرس اللغة العربية بالإنجليزية. بهذه الخطوة حاول أبي خلق فقاعة وقائية حولنا تحمينا من المصاعب التي واجهها في حياته، وقرر أيضًا محاولة توفير كل ما نطلبه ماديًا قدر المستطاع.

يمكن أن يكون هذا القرار من أسوأ ما اتخذ أبي من قرارات، رغم نواياه الطيبة، لكن هذا القرار وجميع القرارات الخاصة بتوفير سُبل الراحة لنا أنتج فكرة سيئة في دماغي أنني لا يجب أن أتحمل مسؤولية شيء، فالمسؤولية من اختصاص والداي، مسؤولية المال من اختصاص أبي، ومسؤولية البيت من اختصاص أمي، وأنا ملكٌ متوج ليس عليه حتى أن ينظف الطبق الذي أكل فيه.


اقرأ أيضًا: عن معاداة الإنجاب: الأفضل للبشر ألا يولدوا أبدًا

 


لكن هذه الفقاعة لم تتحمل المصاعب الاقتصادية التي مر بها أبي، فاضطر إلى نقلنا إلى مدرسة تجريبية بمصاريف أقل من نصف ما يُدفع في المدرسة الأولى. وكانت تجربة مثيرة للاهتمام بالنسبة لي وأرى أنها من أفضل ما حدث في مراهقتي. ورغم هذا عندما علمت أنني سأصير أبًا، خفت من أن أكرر ما حدث مع طفلي، خفت أن أشجعه على الاشتباك مع المجتمع، وخفت أيضًا من خلق فقاعة وهمية حوله تحميه مما يحدث خارجها.

كيف يمكنني أن أخبره بأن مجتمعنا يعاني أغلب سكانه من الفقر؟ وأن أغلب نساؤه تتعرض للتحرش يوميًا، وأن شوارعه ليست آمنة أحيانًا، وأن إخوته في الوطن يهاجمون المختلف الذي لا يفهمونه، ولا يقبلونه بينهم، بل يلفظونه خارج دوائرهم، فيشعر بالاغتراب ويفقد القدرة على التواصل. ماذا لو شعر طفلي بالاغتراب وقرر السفر بعيدًا؟ وماذا لو اختار طريقًا يرفضه المجتمع وواجه النبذ والقهر؟ أو ما هو أخطر من ذلك، السجن أو الموت.

أرتجف من مجرد التفكير في هذه الأسئلة، تأكلني الهواجس، ولا مُنقذ منها إلا التسليم بأن ما سيحدث سيحدث، وأن كل ما عليَّ فعله هو محاولة تقبل الأمور كما هي قدر المستطاع. 

هدوء نسبي

يوم أصيب أبي بالسكتة الدماغية، لم أتحمل فكرة غيابه الكامل عن الدنيا، رغم أن ذلك سيحدث يومًا ما، أتمنى أن يكون بعيدًا، لكن الموقف أصابني بالروعِ. جلست بجانبه أبكي بكاءً حارًا، عاجزًا عن مساعدته، متمنيًا أن يعبر الوعكة بأقل خسائر ممكنة، مع إدراكي بأنه أحد أسباب هذه الوعكة بعدم اهتمامه بصحته، وهو ما أريد أن أفعل عكسه تمامًا تجاه نفسي، وأحاول فعله رغم فشلي المتكرر.

كلما تقدمت في العمر، تصالحت أكثر وأكثر مع تربية عائلتي لي، وأدركت أني أحبهم وأقدّر ما فعلوه حقًا، رغم إدراكي لبعض الأشياء الخاطئة التي فعلوها، لكني أدرك أن نواياهم كانت بالفعل طيبة تجاهنا، ومحاولاتهم كُلها كانت من أجل أن نعيش حياة أفضل من التي عاشوها. وهو ما طمأنني قليلًا، وهدّأ من روعي تجاه ما سأفعله مع طفلي، الذي أتمنى له أيضًا أن يعيش حياة أفضل من التي عشتها بالطبع.

كل ما أريده هو ألا أكرر أخطاء أبي، أريد ارتكاب أخطاء جديدة، أخطاء أصيلة خاصة بي، أخطاء أتحمل عواقبها بالكامل، بلا أي شعور بأنني جُبلت عليه، سواء عن طريق النشأة أو التربية التي تلقيتها، أو عن طريق جيناتي التي ورثتها، وقد أورثها طفلي دون قصد مني، لكنها طبائع الأمور، والأفضل له أن يتقبلها على هذا النحو كما هي، لأن رفضها لن يحل شيئًا للأسف.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.