مدرسة الأزهر عام 1906 - صورة من ويكيميديا برخصة المشاع الإبداعي

رحلة التعليم المصري من المجانية إلى الوسية في أقبح صورها

منشور الاثنين 7 يوليو 2025

لم أنسَ وعدي بالحديث عن التعليم في مصر، وقد تجدد الوعد مع الحادث الأليم الذي راح ضحيته 18 عروسًا من أجمل جميلات مصر. زاهيات كنور الصباح خضراوات كبرعم الزهر.

من بينهن طالبة في كلية الهندسة، وأخرى في كلية الآداب، وثالثة في معهد التمريض العالي، وكلهن في مراحل التعليم. جاءت رحلتهن المميتة سعيًا للإنفاق على تعليمهن بالأساس، ثم "شوارهن"، أو تجهيز متطلبات زواجهن.

وجوه صابحة مشرقة كقرص الشمس أطلَّت علينا بالشارات السوداء. رافقهن في رحلتهن الأخيرة سائق كان يجهِّز نفسه للزواج من إحداهن قبل أن يموتا معًا. كان أدهم محمد أنس شابًا غضًا هو الآخر، لم يتجاوز عمره 22 عامًا. 

قبلها ببضعة أسابيع، استشهد سائق شاحنة مُحمَّلة بالوقود أثناء محاولته إبعادها عن محطة بنزين فور اكتشافه تسرّب الوقود منها، لينقذ أرواح المئات. وما بين هذا الحادث وذاك، نُقِل سائق شاحنة أخرى مُحمَّلة بالجاز إلى المستشفى أثناء قيامه بمحاولة الابتعاد بالشاحنة عن التجمعات البشرية بينما الجاز يتسرّب من شاحنته.

هكذا يموت الناس سعيًا خلف أرزاقهم، خلف الطعام، والعلاج، والتعليم، أو كما قال الشاعر محمد السيد "علق سنين عمره في هوا/ علشان رغيف علشان دوا". بينما يحيا آخرون في كيلوات الذهب، والمليارات التي أصبحت أرقامًا متداولة، يقضون الصيف في الساحل الشرير، ويحضرون حفلات لمشاهير المطربين بتذكرة قد تساوي مجموع ما قد تُحصِّله واحدة من هؤلاء الفتيات الشهيدات طوال عمرها.

هذه الفئة هي التي يمتلك بعضها مزارع تستجلب الفتيات اللاتي قضين نحبهن وهن في طريقهن لتسمين ثروات الآخرين. فتيات نابهات التحقن بالتعليم الحكومي وأثبتن جدارة، لكنهن رغم ذلك وجدن أنفسهن في حاجة إلى العمل ثم العمل لاستيفاء مصروفات التعليم "الحكومي" الذي يفترض أن يكون "مجانيًا".

ثم ماذا؟

صحفيات أثناء تقديم واجب العزاء لأسر ضحايا كفر السنابسة، 1 يوليو 2025

ماذا لو أن الفتاة الجميلة طالبة الهندسة التي قال أهلها إنها خرجت للعمل من أجل تحصيل مصروفات الدراسة، لم تمت، بل عاشت لتتخرج من كليتها التي التحقت بها لتفوقها، ثم تخرج أحد طلبة الهندسة من سكان الساحل الشرير، الذين أنفقوا أموالًا باهظة في الجامعات الخاصة بعد أن فشل في تحصيل درجات التعليم الحكومي، ليشتري له أبوه الشهادة من الثروة التي راكمها من عمل الفقراء والفقيرات.

لو أنها لم تمت لكانت الفتاة ستعاني لتجد عملًا، في سوق يصعب عليها فيها أن تنافس المهندس ابن الساحل الشرير في الشركة متعددة الجنسيات ليجني المزيد من الأموال. وهكذا، ينتج الفقر فقرًا ويلد المال مالًا، واللص باشا يحظى بالاحترام والتقدير، ويصبح رجل البر والتقوى المحسن العطوف المتبرع.

أما الفقير فملام: لماذا ينجب؟ ولماذا يرسل بناته للعمل الشاق؟ ولماذا نتكفّل بتعليم أبنائه وبناته؟ لماذا يعيشون أصلًا ويلوثون أعيننا بمظهرهم الرث، ويزعجوننا بأخبار موتهم؟ ولماذا يحقدون على المليارديرات المساكين، الميامين، الذين جمعوا ملياراتهم الحلال بالجهد والعرق؟

أين كنَّا وكيف أصبحنا

نجد اليوم فتيات فقيرات يلجأن للعمل في أحلك وأصعب الظروف من أجل استكمال مصروفات تعليمهن الجامعي "الحكومي" الذي يفترض أن يكون مجانيًا لا يثقل كاهل عائلاتهن لكنه في واقع الأمر يفرض تكاليف ليست بسيطةً بالنسبة للطبقات الأكثر فقرًا تحت مسميات الكتب والملازم وغيرها. لكنْ في أزمنة سابقة يفترض أن التمييز الطبقي بها أكثر حدّة كان التعليم مجانيًا لا تزيد تكاليفُه الفقراء فقرًا. 

لا أعتقد في أكذوبة الزمن الجميل، ولست في محل فخر حين أقول إن مصر أول دولة في العالم تؤسس مدرسة ومكتبة "بر عنخ"، ولا بصدد رواية قصة التعليم على طريقة فيلم "الناظر". فالدنيا كما وصفها المتنبي

صَحِبَ النّاسُ قَبلَنا ذا الزّمَانَا

وَعَنَاهُمْ مِن شأنِهِ مَا عَنَانَا

وَتَوَلّوْا بِغُصّةٍ كُلّهُمْ مِنْهُ

وَإنْ سَرّ بَعْضَهُمْ أحْيَانَا

غير أنني أومن بالتطور الذي هو طبيعة الأشياء. وإذا بدأنا منذ قدوم محمد علي إلى مصر، واحتياجه إلى مواطنين يتعلمون على النهج الغربي الحديث ليستخدمهم في مشاريعه، سنجد أنه أولًا لم يأتِ إلى بلد يفتقد التعليم والثقافة كليًا؛ فقد كان المئات منخرطين في الأزهر الذي لم يكن مجانيًا فحسب بل يصرف لطلبته الجراية اليومية ويتولى تسكينهم، بعد أن يأتوا إليه من الكتاتيب التي لم تكن تكلف المصريين أكثر من رغيف وبيضة.

إذًا، حين خطَّط محمد علي لتطوير التعليم، لم يكن يستزرع في أرض بور. ومع إنشاء المدارس العليا التي اعتمدت على الأزهر في إمدادها بالطلبة، وقدمت لطلبتها ما كان يقدمه الأزهر من وجبات وأماكن للسكن، مع تسفير المتفوقين في بعثات للخارج بل وإعطائهم رواتب شهرية، وذلك كله على حساب الدولة.

محمد علي باشا

أسس الوالي أول ما أسس مدرسة الهندسة عام 1816، تلك التي التحقت بها بعد أكثر من مائتي عام إحدى شهيدات حادث المنوفية. وكان الملهم في تأسيس هذه المدرسة، وفق ما أتى به الجبرتي، هو المصري حسين شلبي عجوة الذي اخترع آلة لضرب الأرز وتبييضه وعرضها على محمد علي الذي أنعم عليه، واستلهم فكرة تأسيس مدرسة الهندسة لتخرج لدولته عددًا كبيرًا من أمثال "الباشمهندس" حسين.

أي أن محمد علي لم يجد في مصر شعبًا يتوق إلى التعليم فحسب، بل أيضًا صادف من بين هذا الشعب الكثير من النوابغ الذين شجعوه على المضي قدمًا في خطته. فلم نكن أبدًا شعبًا يتسم بالكسل أو يتصف بالغباء على طول تاريخنا، وإن كنا دومًا نوصم بالفقر الذي لا حيلة لنا فيه مهما بلغت ثروات البلاد. 

أما أول من أسس مدرسة أهلية لتعليم الفتيات، فكان البابا كيرلس الرابع المتوفي عام 1861. وكانت المدرسة تستقبل بنات المسلمين كما المسيحيين على حد سواء. عُيِّن في المدرسة مجموعة من المعلمين المصريين واللبنانيين والسوريين والإنجليز والإيطاليين.

كانت المدرسة ضمن أعمال الكنيسة الخيرية، فلم تتقاضَ من أولياء الأمور أجرًا، بل قدمت الخدمات والوجبات بلا مقابل. ثم تأسست أول مدرسة حكومية للبنات عام 1873، وهي المدرسة السيوفية، أو مدرسة السنية، وخرجت أول دفعة لها عام 1900 وكان من بين الفتيات اللاتي تخرجن في هذه الدفعة الكاتبة والأديبة والباحثة ملك حفني ناصف.

أما تعليم بنات القرى والنجوع فقد أخذته نبوية موسى على عاتقها، وهي أول فتاة مصرية تحصل على البكالوريا، وأول ناظرة مدرسة ابتدائية مصرية، حيث كانت نظارة المدارس حصرية الإنجليز قبل ذلك.

وهكذا نما التعليم المصري وأخذ في تطوره حتى وصل إلى أعلى الدرجات العلمية. ولم يذكر في مراحل تطور التعليم المصري أن يتكبد أولياء الأمور نفقات معضلة تصل حد موت أبنائهم في الطرقات وهم يسعون لتوفير نفقات التعليم.

ثم جاء الاحتلال، ومعه بذور فكرة مصروفات التعليم، كونه أراد تخريج أعداد أكبر من المتعلمين ليكونوا موظفين يخدمون أهدافه. وهذا ما جعل دستور 1923 يكفل مجانية التعليم في مراحل التعليم الأولي (الابتدائي)، بينما ظل التعليم الثانوي والعالي بمصروفات حصرته في طبقة أبناء الأعيان وكباري موظفي الحكومة، إلى أن أطلق طه حسين وهو وزير للتربية والتعليم صيحته التي نتشبث بها إلى اليوم، بأن التعليم كالماء والهواء، ودفع الحكومة إلى إقرار مجانية التعليم الثانوي. ثم قامت ثورة يوليو 1952 لتعمم المجانية على التعليم العالي أيضًا.

إلى جانب مجانية التعليم، التي أخذت في تطورها متحديةً أهداف الاستعمار في تجهيل لضحاياه، فقد كان التعليم يتمتع بجودة عالية، من حيث المناهج، وتأهيل المعلمين المختصين، وتقديم الوجبات، وخلق الولاء والانتماء للوطن والاعتزاز بالثقافة الوطنية مع التعرف على الثقافات الأخرى. فكان يتخرج الطالب في مدرسة حكومية، يتقن الإنجليزية والفرنسية، وذلك لا يمنع من كونه نابهًا في لغته العربية.

كان ذلك قبل أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم؛ حيث أصحاب المدارس الخاصة يراكمون المليارات وكيلوات الذهب تحت البلاطة خوفًا من عيون الفقراء، واستكمال التعليم يتطلب كل هذا الشقاء من أولياء الأمور والطلبة حتى بات لدينا شهداء وشهيدات السعي خلف التعليم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.