الحساب الرسمي للمستشارة الألمانية على إنستجرام
أنجيلا ميركل.

إرث ميركل الثقيل: صفر أسود ومناخ يحترق وبلد يشيخ

منشور الأحد 3 أكتوبر 2021

أربع حكومات متتالية، و16 سنة في الحكم، ثم انتهت حقبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بما لها وما عليها، محتفظة بشعبية واسعة داخليًا وخارجيًا، في ذات الوقت الذي حصل فيه المحافظون بقيادة خليفتها أرمين لاشِت حاكم ولاية نوردراين-ڤِسْتفالِن على أسوأ نتائجهم في تاريخ ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

تركة ميركل في العديد من الملفات تبدو إرثًا ثقيلًا أمام شولتس وحلفائه المرتقبين، وعلى رأسها قضايا البيئة وحقوق الإنسان والتعافي الاقتصادي، وكذلك ملف المهاجرين.

النتائج الأولية للانتخابات الفيدرالية الأخيرة في 26 سبتمبر/ أيلول لم تكن مفاجِئة؛ فهي تعكس بدقة ما أوضحته استطلاعات الرأي واحدًا تلو الآخر طوال فترة الصيف من تغير سريع في المشهد السياسي. وإن لم تستقر بعد معالم هذا التغيير بشكل تام لعدم حصول أي حزب على أغلبية مطلقة كما هي العادة في كل دورة نيابية، ما يعني حاجة الأحزاب للتفاوض وتقديم تنازلات حينا والتراجع عن وعود قطعت في البرامج الانتخابية أحيانًا أخرى لتكوين ائتلاف يحقق أغلبية في البوندستاج تضمن نجاح تشكيل الحكومة الجديدة والسيطرة على الأجندة التشريعية.

المؤكد ثلاثة أمور؛ أكبر مجلس نيابي منتخب بشكل ديمقراطي في العالم سيرتفع عدد نوابه من 709 إلى 735 نائبًا، والائتلاف الجديد سيزيد ثقل اليسار فيه عن سابقيه بشكل ملحوظ، وحزب اليمين المتطرف البديل من أجل ألمانيا سيظل منبوذًا من كل الأحزاب تحت قبة البوندستاج رغم قدومه أولًا في ولايتي ساكسونيا وتورينجِن.

الائتلافات المحتملة: جروكو، چامايكا، أو إشارة المرور

تصريحات نواب المحافظين في كل من الاتحاد الديمقراطي المسيحي وشقيقه الباڤاري الاتحاد الاجتماعي المسيحي، ويُرمز لهم مجتمعين باللون الأسود، والاشتراكيين الديمقراطيين (اللون الأحمر) عن استبعاد تكرار الائتلاف الكبير/جروكو ( Große Koalition، أو Groko اختصارًا) لا يعني بالضرورة استحالته؛ التصريحات هي ذاتها التي صدرت عن الكتلتين بعد الانتخابات الفيدرالية الماضية في 2017 قبل تشكيل حكومة ميركل الأخيرة، لينتهي بهما المطاف معًا في تكرار للائتلاف الذي نتج عنه حكومة ميركل الأولى والثانية.

الفارق هذه المرة إن تم تحالف ثنائي فحتمًا سيكون بقيادة أولاف شولتس مرشح الاشتراكيين الديمقراطيين، لحصولهم على أكبر عدد من مقاعد البوندستاج في دورته العشرين. ما يزيد الأمور تعقيدًا هو إعلان لاشِت عزمه دخول المحافظين في مباحثات مع الخُضر والديمقراطيين الأحرار  (اللون الأصفر) لتكوين ائتلاف حاكِم (أسود، أخضر، أصفر؛ ألوان العلم الچامايكي) يمكِّن ثلاثتهم من تحقيق أغلبية عددية على الرغم من قدوم كتلته ثانية في النتائج.

يعزز موقف المحافظين وجود سابقة تكوين ائتلاف يرأسه حزب لم يفز بأكثر الأصوات في حالة ائتلاف الاشتراكيين الديمقراطيين مع الليبراليين في الفترة من 1969 إلى 1982، وصمود الائتلاف الحاكم الحالي بين المحافظين والخضر في ولاية هِسِّن، ووجود ائتلاف چامايكا قائم بالفعل في شْلِسڤِج-هولشتَين، في محاولة أخيرة منه لحفظ ماء الوجه، ومنصبه على رأس كتلة المحافظين، بعد خسارتها لخمسين عضوًا، والتي من المرجح أن يجلس ما تبقى منها في مقاعد المعارضة، فائتلاف إشارة المرور (أحمر، أصفر، أخضر) بقيادة أولاف شولتس يظل صاحب الفرصة الأكبر في الخروج للنور، لتقارب الرؤى بين الخضر والاشتراكيين الديمقراطيين فيما يتعلق بالموازنة العامة وخطط التعافي من جائحة الكورونا بالإضافة لإصلاحات المنظومة الضريبية والمعاشات.

أولاف شولتس. برخصة المشاع الإبداعي: Dirk Vorderstraße- فليكر

 

سطوع شولتس وانحسار موجة الخُضر

تراكمات وسلسلة من الأخطاء ارتكبها المحافظون هي التي أدت إلى هذه النتائج، وتتحمل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل جانبًا كبيرًا من المسؤولية، فدفعها بقوة لاختيار الأكثر ولاءً لها لا الأكفأ أو الأكثر شعبية لمنصب رئاسة الحزب في 2018، تمهيدًا لخلافتها في منصب المستشار، ضَمَن تحييد أي محاولة جدية لإزاحة المستشارة من منصبها قبل انتهاء فترة ولايتها الرابعة، لكنه أضعف فرص حزبها نفسه في الاحتفاظ بالمنصب بعد الانتخابات.

وحقيقة أن أنيجريت كرامپ-كارينباور واجهت منافسة شرسة على رئاسة الحزب لا من مخضرم بل سياسي لا يؤخد على محمل الجد، ظل غائبا عن الساحة السياسية لست عشرة سنة انتهت بانتصار الجناح الموالي لميركل بفارق 35 صوتًا فقط على فريدريش ميرتس في جولة الإعادة بعد استبعاد ينْس شپان من الجولة الأولى، يبين مدى ضعف كرامپ-كارينباور سياسيًا من الأساس، وهو ما أيقنه الجميع، عندما انضم نواب الحزب الفرعي في تورينجن للتصويت مع نواب اليمين المتطرف البديل من أجل ألمانيا لتعيين توماس كِمِريش حاكمًا للولاية في تحدٍ واضح لقرار الحزب تحت رئاستها، لتضطر كرامپ-كارينباور بعدها للتنحي من منصب رئاسة الحزب وتعتذر عن الترشح لمنصب المستشار لتحجيم فضيحة أخرى بعد فضيحة إلقائها نكتة مقززة في كرنڤال ببادِن ڤورتمبرج، عن دورات المياه المحايدة في العاصمة برلين.

لم يتعلم المحافظون الدرس، ولم تكًّف ميركل عن توظيف نفوذها داخل الحزب لترجيح كفة موالٍ آخر لم يكن الأقدر على قيادة المحافظين في الانتخابات وإبقائهم في المقدمة، هذه المرة أرمين لاشِت، وفاز لاشِت برئاسة الحزب في جولة الإعادة أمام فريدريش ميرتس في يناير/ كانون الثاني 2021 بفارق 55 صوتًا، وعلى الرغم من التفوق الكاسح لماركوس سودِر من الاتحاد الاجتماعي المسيحي بباڤاريا على كليهما، كمرشح المحافظين لمنصب المستشار في استطلاعات الرأي، انصاع جناح المحافظين الموالي لميركل لرغبتها واستقرت الكتلة على لاشِت.

اختيار وضح مدى فشله للعيان في يوليو/ تموز الماضي عقب الفيضانات المدمرة لروافد نهر الراين التي أودت بحياة 184 مواطنًا على الأقل في ولايتي راينلاند-پفالتس ونوردراين-ڤِستفالِن في غرب البلاد والتي سببت أضرارًا اقتصادية بما لا يقل عن 4.65 مليار يورو. ففي زيارة تفقدية له كحاكم للولاية خلال الأزمة تم تصويره ضاحكًا كالأبله في أحد المناطق المتضررة، في وقت من المفترض فيه أن يعزي الضحايا ويعتذر عن سوء إدارة الكارثة، فالخسائر البشرية كان من الممكن تلافيها، عندما أوضحت التحقيقات أن نظام الإنذار المبكر للفيضانات بالفعل أصدر إنذارات واضحة بخطر الفيضانات قبيل وقوعها، إنذارات فشلت الإدارات المحلية في ترجمتها إلى قرارات بإجلاء المواطنين في الوقت المناسب.

استمرت الزلّات، وكذلك الاعتذارات عنها، وانهارت معها ثقة الناخبين في صلاحيته لمنصب المستشار، كان آخرها داخل اللجنة الانتخابية، عندما قام بطي ورقة الاقتراع بحيث تمكنت الكاميرات من التقاط من صوّت له، مخالفًا بذلك قواعد سرية الاقتراع.

مراسل دويتشه فيله بنجامين ألفاريز يشير إلى مخالفة لاشِت


 صحيح كل من هذه الأخطاء على حدة يبدو مضحكًا، أو مؤلمًا، لكن وضعها في سياقها الأكبر يبرز نمطًا مثيرًا للقلق للائتلاف الحاكم بقيادة المحافظين؛ نمط اعتياد السلطة مع بقاء نفس الوجوه في نفس المناصب لفترات طويلة وما يتبعه بالضرورة من فساد، والمحافظين كان لهم نصيب الأسد مؤخرًا فيما كشفته التحقيقات من ذلك، بداية من تهم رشوة، مرورا بتهم إتلاف أدلة عن عمد، في تحقيقات تتعلق بإهدار قرابة 155 مليون يورو من المال العام على مستشارين لوزارة الدفاع أثناء تولي أورسولا فون ديرلايِن للوزارة، وانتهاءً بقضايا الاحتيال في فضيحة وايركارد وترويج ميركل للشركة أثناء زيارتها للصين بصفة رسمية، وفشل هيئة الرقابة المالية الفيدرالية، بافين، في أداء أبسط وظائفها خلال الأزمة.

وفي أوائل سبتمبر اقتحمت الشرطة مقري وزارتي العدل والمالية وتم تفتيشهما بتهمة تستُّر وحدة المخابرات المالية التابعة للحكومة الفيدرالية على جرائم احتيال وغسيل أموال في القطاع العقاري. ما شفع لنائب المستشارة ووزير المالية في الحكومة الحالية، أولاف شولتس، لدى الناخبين الألمان هو حسن تعامل وزارته مع الأضرار الاقتصادية خلال جائحة كورونا، وعدم تورطه بصورة شخصية في الأزمة، مع تأكيده مرارًا في المناظرات الأخيرة على تعاونه الكامل مع سلطات التحقيق وتأييده لتفتيش مقر الوزارة.

اختيار الاشتراكيين الديمقراطيين لشولتس مرشحًا للحزب لمنصب المستشار اعتمد بالأساس على خبرته في حكومة ميركل، وشعبيته، وتوجهه الوسطي، فجناح اليسار على الرغم من قوته داخل الكتلة آثر مرشحًا يمكن رؤيته كامتداد لميركل أملًا في جذب أكبر عدد ممكن من الأصوات، وهو ماحدث بالضبط في الانتخابات. لكن العامل الأهم في قدوم شولتس أولا هو تلافيه السقطات المتكررة التي أحرجت كرامپ-كارينباور ومن بعدها لاشِت.

حتى مرشحة الخُضر لمنصب المستشار، أنالينا بيربوك، لم تسلم من سقطات كلّفت حزبها غاليًا بعد تصدره السباق في استطلاعات الرأي لفترة وجيزة من مايو/ أيار الماضي.

فبركتها لأجزاء صغيرة من سيرتها الذاتية المنشورة على موقع الحزب، واقتباسها لما لا يقل عن 29 فقرة في كتابها الآن: كيف نجدد دولتنا من كُتَّاب آخرين دون إشارة لهم، وتأخرها لسنوات عن دفع الضرائب على بعض مكافئات الكريسماس، واستخدامها للكلمة العنصرية المتعلقة بلون البشرة، N-Wort صراحة في أحد خطاباتها، صرف مجهود حملتها الانتخابية عن مناقشة برنامج الحزب إلى الدفاع عن نزاهة مرشحته والاعتذار شبه الدائم عن أخطائها.

وعلى الرغم من ذلك حقق الخضر أفضل نتائج لهم منذ تأسيس الحزب بقدومهم ثالثًا بعد الاشتراكيين الديمقراطيين والمحافظين، ما يؤهلهم للعب دور أساسي مع الديمقراطيين الأحرار في توفير الأصوات اللازمة لتكوين الأغلبية، وبالتالي التحكم في توجه الائتلاف الثلاثي الجديد، ولم يُضع الحزبان وقتًا، ودخلا بالفعل في مناقشات مصغرة لمحاولة تقريب الرؤى، قبل بدء مفاوضات ثلاثية، في ظل إصرار من كريستيان ليندنَر مرشح الليبراليين على حقيبة المالية كشرط انضمامهم لأي ائتلاف حاكم.

الاقتصاد بين رحى الصفر الأسود وسندان البيئة

بانعقاد أولى جلسات البوندستاج الجديد في السادس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول ستستمر حكومة ميركل بطلب من الرئيس فرانْك-ڤالتِر شتاينْمَيَر في تسيير الأعمال لحين تكوين الائتلاف الجديد وتشكيل الحكومة التالية، والتوجه العام هو الوصول لاتفاق بين الأحزاب قبل الكريسماس، وفي أسوأ الأحوال قبل انعقاد قمة مجموعة السبعة برئاسة ألمانيا في 2022، لكن يظل التخوف من أن يطول أمد هذه المفاوضات في تكرار لسيناريو 2017، عندما انهارت مفاوضات المحافظين مع الليبراليين واضطرت ميركل للعودة للجروكو.

وإن كان الصراع السياسي حُسِم بانتهاء الانتخابات، فالصراع على كيفية مكافحة التغير المناخي لم يُحسم بعد. فالحكم التاريخي للمحكمة الدستورية في أبريل/ نيسان الماضي بعدم دستورية قانون حماية البيئة جزئيًا يُجبر الحكومة الألمانية على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لتتماشى مع التزاماتها في اتفاق باريس للمناخ، الآن، لا مستقبلًا، وقطعًا ليس بعد 2030، إلا بخطة واضحة وقابلة للتطبيق. فإرجاء مشكلات الأجيال السابقة، والحالية، للأجيال القادمة من الألمان يمثل "انتهاكًا لحقوقهم الأساسية" كما نص الحكم الذي مثّل "صفعة على وجه حكومة ميركل" على حد قول فيلِكس إكاردْت، مدير مركز بحوث سياسات الاستدامة والمناخ في ليبزِج.

لكن خفض الانبعاثات يتطلب زيادة واضحة في الإنفاق على القطاعات المُلوِثة من الاقتصاد لتنظيفها، وضرورة تخلي الحكومة عن سياساتها التقشفية متمثلة في الصفر الأسود  للموازنة العامة، أي قيمة العجز فيها، صفر بالتمام والكمال، وما يصحبه من مظاهر احتفاء غريبة. الاستثناء الذي كسر القاعدة أخيرًا هو جائحة كورونا، فحقبة الفوائض أصبحت من الماضي لعامين على التوالي، ولن تعود في أي وقت قريب، حتى 2025 في أكثر التقديرات تفاؤلًا. وانخفاض إيرادات الضرائب للخزانة منذ بداية الأزمة يجعل أولى مهام الحكومة الجديدة هي الإصلاحات الضريبية وخطة التعافي الاقتصادي.

وبما أن سقف الدين معطل في الظروف الراهنة، فالحزمة الاقتصادية المرتقبة هي فرصة لن تتكرر لا للاكتفاء بإعادة الاقتصاد لما كان عليه من قبل، بل لإسراع وتيرة تغييره هيكليًا لتحقيق حيادية المناخ في أقصر وقت بالتوازي. وفيما يبدو من أول مؤتمر صحفي له بعد الهزيمة أنه استوعب الدرس؛ إذ ركز لاشِت على "الاستدامة، بكل ما تحمله من معنى" كأهم هدف للائتلاف الذي يسعى لتشكيله بقيادة المحافظين، وسط مطالبات من داخل الحزب بتقديم استقالته، أبرزها مطالبة مايكل كْرِتْشمر حاكم ولاية ساكسونيا، بعد خسارة المحافظين في كل الدوائر الإنتخابية بالولاية، باستثناء أربع دوائر.

ينتظر الحكومة القادمة معضلة قطاع الطاقة، أكثر القطاعات تلويثًا، بعد فشل حكومة ميركل العام الماضي في تحقيق التزامها المعلن بخفض الانبعاثات لـ 40% من معدلات 1990. القطاع بالفعل في خضم تحولات كبيرة لتنظيفه، نجاحها محل شك بعد التقرير الأخير لمكتب الرقابة المالية الفيدرالي الذي كشف أخطاء بالجملة، كل واحدة منها ترقى لوصفها بالجسيمة، في خطة الحكومة للتخلص التدريجي من محطات توليد الطاقة بالفحم الحجري و الليجنَيت بحلول 2038. وعملية التخلص من المفاعلات النووية لتوليد الطاقة قاربت على الانتهاء بخروج آخر ست مفاعلات من الخدمة بنهاية 2022 ؛ قرار اتخذته حكومة ميركل في أعقاب كارثة فوكوشيما داييتشي باليابان في 2011 لاعتبارات الأمان البيئي، بالرغم من كون الطاقة النووية نظيفة، زاد من الاعتماد على محطات التوليد بالفحم والغاز الطبيعي لسد الفجوة، وأدى للدخول في حلقة مفرغة من عدم القدرة على خفض الانبعاثات والارتفاع في أسعار الكهرباء لتصبح الأغلى في كل الاتحاد الأوروبي بفارق 43% عن المتوسط.

وبوادر نقص المخزون الاستراتيجي من الغاز الطبيعي في ألمانيا تنذر بتفاقم الوضع بحلول الشتاء، كما تفاقم بالفعل في المملكة المتحدة، فأسعار الكهرباء مرشحة لزيادات ضخمة في الشهور القادمة فوق ما هي عليه الآن، إذا استمرت شركة جاسپروم التابعة للحكومة الروسية في إبقاء تدفقات الغاز إلى أوروبا في حدود التزاماتها التعاقدية فقط، دون أي زيادة، رغم ارتفاع سعره إلى أرقام قياسية ومطالبة الحكومات الأوروبية المتكررة بزيادة التدفقات، في محاولة من موسكو لإبقاء الضغط على الاتحاد الأوروبي وضمان صدور الترخيص بتشغيل خط نورد ستريم 2؛ فالضغط في نهاية المطاف أثبت فعّاليته في استكمال الجزء الأخير من إنشائه بعد توقفه لشهور نتيجة العقوبات الأمريكية.

المصالح أولًا، حقوق الإنسان ثانيًا

وحِرص كل المرشحين تقريبًا على تأكيد مدى "براجماتيتهم" للناخبين الألمان وتأييدهم لتشغيل نورد ستريم 2 وتهميشهم للعواقب الچيوسياسية في أوكرانيا بالتحديد خلال الحملات الانتخابية يعني استمرارية السمة الغالبة للسياسة الخارجية في الحقبة الميركلية، إن جاز التعبير، حتى بعد خروج ميركل نفسها من السلطة؛ وهي إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية، على حساب حقوق الإنسان عندما تقف الأخيرة عقبة أمام تعظيم هذه المصالح، وبالطبع يبقى الاستثناء عندما يكون هذا الإنسان أوروبيا عموما أو ألمانيا خصوصًا.

وتعامُل ألمانيا مع الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والحكومة الصينية قبل انتهاء فترة رئاستها للمجلس الأوروبي في العام الماضي بأيام معدودة يؤكد المبدأ السابق. فضغط الحكومة الألمانية على بقية الأعضاء رغم تحفظاتهم نجح في إتمام توقيع الاتفاقية قبل قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن للسلطة بأسابيع، لتضمن بذلك حماية الصادرات الألمانية للصين بفرض أمر واقع، وتضع حدا لمطالبته بتنسيق المواقف أولًا بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

لكن نشوة النصر لم تدم طويلًا في برلين، فعندما قررت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان بالبرلمان الأوروبي في بروكسل فرض عقوبات على أربعة موظفين حكوميين صينيين متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان ضد الويجور بمقاطعة شينجيانج في شمال غرب الصين، ردت الحكومة الصينية بعقوبات مماثلة على أعضاء اللجنة الفرعية، ومنهم ألمان، فقرر نواب البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة تجميد التصديق على الاتفاقية لحين رفع الحكومة الصينية عقوباتها عن نوابهم الخمس، لتضطر ميركل بعدها اضطرارًا إلى الخروج عن صمتها وتنتقد أوضاع حقوق الإنسان في الصين وتطالبها بالقضاء على العمالة بالسخرة كشرط إحياء الاتفاقية، في تجسيد للبراجماتية الألمانية في أبهى صورها.


اقرأ أيضًا: ألمانيا: الاختناق في نفق العنصرية

أسرى ناميبيون سقطوا بيد القوات الألمانية عام 1904. الصورة من ويكيميديا برخصة المشاع الإبداعي

حكومة ميركل كانت العقبة الرئيسية لمبادرة بايدِن في مايو الماضي بزيادة قدرة التصنيع لللقاحات المستخدمة في مواجهة كوفيد-19 عالميًا، من خلال تعليق حقوق براءات الاختراع الخاصة بها مؤقتًا، لتوفير التطعيمات بجرعات أكبر وإسراع حملات تطعيم السكان في الدول الفقيرة والنامية، وتفادي متحورات فيروس الكورونا التي ستستمر في الظهور، والانتقال للغرب، وإضعاف كفاءة التطعيمات الحالية، ليأتي رفض الحكومة الألمانية حفاظًا على مصالح شركة الأدوية الألمانية بيونتك صاحبة حقوق براءة الاختراع لتطعيم بيونتك-فايزر.

والخطاب الذي وجهه نُخبة من المثقفين الألمان، من ضمنهم رؤساء ومستشارين حكومة سابقين وحائزي جائزة نوبل، للمرشحين الثلاثة، شولتس، ولاشِت، وبيربوك، لحثّهم على العدول عن قرار الحكومة الحالي برفض تعليق حقوق براءات الاختراع في حال توليهم رئاسة الحكومة بعد الانتخابات، قوبل بتصريحات مُعلّبة منهم عن حاجة ألمانيا والاتحاد الأوروبي لفعل المزيد، دون تحديد ماهيته. ما يعني استمرار الوضع على ما هو عليه؛ بالتبرع هنا وهناك بفوائض الجرعات داخل الاتحاد، قبل انتهاء صلاحيتها إلى كوفاكس.

الحاضر الغائب: الديموجرافيا والهجرة

ما غاب بصورة واضحة في هذه الانتخابات، هو قضية الهجرة. واستطلاعات الرأي أبرزت تراجع أهميتها لدى الناخبين الألمان بسبب جائحة كورونا وقفز قضايا البيئة لمقدمة أولوياتهم، بعد فيضانات الصيف في الغرب، والحرائق المروعة للغابات في اليونان، والتقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عن المخاطر المستقبلية التى ستواجهها أوروبا حال استمرار زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة دون تدخل فوري لخفضها بشكل جذري. وعزوف مرشحي المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين والخُضر عن مناقشة ملف الهجرة باستفاضة أتى كمحاولةٍ منهم لسحب البساط من أسفل اليمين المتطرف البديل من أجل ألمانيا الذي تتمحور أجندته بالأساس حول رفض الأجانب، وإن نجحت هذه الاستراتيجية في أغلب الولايات، فقد ارتدت بشكل بالغ السوء على المحافظين في ساكسونيا وتورينجِن وجنوب ساكسونيا-أنهالْت.

ورغم انخفاض أعداد المهاجرين سنويًا بعد ذروتها خلال أزمة اللاجئين في 2015، فإن نسبة الأجانب من إجمالي عدد السكان استمرت في الزيادة. فربع السكان في ألمانيا الآن هم من أصول مهاجرة، والديموجرافيا تلعب دورًا كبيرًا في ذلك. ألمانيا تشيخ، بسرعة، ونقص العمالة الماهرة يستمر في الزيادة منذ 2018، حتى مع دخول قانون الهجرة الجديد حيز التنفيذ في مارس/ آذار من العام الماضي. والناخبين الألمان، حوالي 60% منهم فوق سن الخمسين و15% فقط تحت الثلاثين، واعين تمامًا لمخاطر هذا النقص على منظومة المعاشات والتأمين الصحي التي ستمسّ الفئات العمرية الأكبر بشكل مباشر مستقبلًا إن لم تعالج الآن، وهو ما يفسر الاختلافات بين اختيارات الشباب للخُضر والليبراليين، وكبار السن للمحافظين، مع نقص واضح مقارنةً بـ2017، والاشتراكيين الديمقراطيين في هذه الانتخابات، فالاختيارات ليست متناقضة، وكلها تعبر عن رغبة واضحة من الشعب بالتغيير.