تصميم: يوسف أيمن- المنصة

موت الأب في السينما العربية: إسقاط سياسي ورموز معنوية

منشور الأربعاء 22 ديسمبر 2021

في أحد المشاهد المحورية التي يقوم عليها فيلم كفر ناحوم، للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، سأل القاضي في المحكمة الطفل زين "ليه..؟ بدك تتشكى على أهلك"، فأجاب وصوته مختنق بالبكاء والأب ينظر إليه بحرقة " لأنهن خلفوني...".

هل وصل بنا الحال إلى رفض فكرة وجودنا في هذه الحياة؟ لقد كثفت نادين لبكي المعنى والدلالة المادية والرمزية لفكرة الأب بواقعية شرسة، في أعلى تجلياتها للسينما العربية باعتبار هذا الأب مسؤولًا عن وجودنا البيولوجي في حياة لا تستحق أن تعاش.

على غرار تجاب عربية أخرى أخذت من فكرة الأب وموته إسقاطًا سياسيًا ورموزًا معنوية للتعبير عن فترات تاريخية حرجة وهواجس سياسية واجتماعية للعالم العربي، عن هذه الهشاشة التي نعيشها، وهزائم متكررة، وفشل حضاري نبحث عن أسبابه، عن طريق الترميز للهروب من الرقابة السياسية والاجتماعية والدينية، يختبئ صناع السينما العربية وراء شخصية الأب في سردياتهم السينمائية من أجل التعبير عن أفكارهم بكل حرية أمام منظومة أبوية بطريركية في كل نواحي الحياة من الأسرة إلى الدولة.  

الأب في العمل الإبداعي من العناصر الفنية التي يوظفها المبدع، في السينما كل حسب رؤيته وأفكاره وهواجسه، تجاه العالم والحياة، وصورة الأب ليست قاصرة على السينما فحسب، وإنما نجدها في كل فنون السرد من الشعر [1] والمسرح والرواية والسينما [2] .

ورغم الاختلافات في طرق الصناعة والتلقي في هذه الفنون فإنها تشترك في توظيف صورة الأب على المستوى الدلالي، فنجد لها ثلاث أنماط من التوظيف:

- توظيف اجتماعي من خلال عرض أنماط القيم الاجتماعية السائدة في فترة ما.

- توظيف رمزي ميتافيزيقي دال على صورة الأب، وهي استعارة عن الله، فمثلًا البحث عن الأب هو البحث عن الله لمعالجة قضايا وجودية.

- توظيف سياسي من خلال صورة الأب، استعارة لواقع سياسي معين. 

من خلال شخصية الأب، نجد أن السينما العربية أخذت هذه الصور الثلاثة وقامت بتشكيلها في سرد سينمائي يعبر فيها الأب عن أحد التوظيفات الثلاثة. فكيف تم توظيف صورة الأب في السينما العربية؟

 صورة القيم الاجتماعية السائدة 

يحتل الرجل بصفته أبًا موقفًا ذا خصوصية في الأسرة العربية التقليدية، حيث يشغل موقع الصدارة إذا ما قورن بالمرأة في نفس الأسرة، فالأسرة العربية، بصفة عامة لا تقاوم الميول الاستقلالية لأفرادها فحسب، بل تقاوم الفردية وكل ميل إلى الفردانية والذاتية، ويفسَّر ذلك بصفته تهديد لتماسك الأسرة وخروج على سطوتها ويعد هذا تمرد لا يحمد عقباه.

 وفي ذلك بسط لنفوذ شخصية الأب على العقول والعواطف، وتحكم في العلاقات، وفي ذلك كله استلاب لباقي الشخصيات وصد لأصالتها، ما يراكم بدوره العدوانية المقموعة فيشتد التوق إلى الحرية المستلبة [3]. 

المخرج التونسي رضا الباهي، كسائر جيله، من خلال فيلم صندوق عجب جعل للأب حيزًا كبيرًا، فتناوله من خلال تلك العلاقة مع ابنه الصغير رؤوف في مجتمع الطبقة البرجوازية الذي انحدر منه المخرج، على اعتبار العمل سيرة ذاتية وهو تصور للواقع الذي كان منه، متمثلًا في الحياة التي عاشها في ظل أب متسلط، فلا علاقة إيجابية تجمع الأب بالطفل المحب للسينما في مجتمع تقليدي ذكوري، يهيمن فيه الرجل على المرأة قائم على مفهوم النظام الأبوي، حيث نجد أن مفهوم النظام الأبوي عند المؤرخة النمساوية الأمريكية جيردا ليرنر هو "تجلي ومأسسة للهيمنة الذكورية على النساء والأطفال في الأسرة، وتوسيع الهيمنة الذكورية على النساء في المجتمع عامة، حيث يتولى الرجال السلطة في جميع مؤسسات المجتمع المهمة، بينما النساء محرومات منها". [4]

الإعلان الترويجي لفيلم صندوق عجب


بالتالي تقوم صورة الأب على مفهوم النظام الأبوي أو البطريركية، على أساس وجود روابط تراتبية بين أفراد المجتمع، يخضع بموجبها البعض للبعض الآخر، يسميها المفكر الفلسطيني هشام شرابي "ذهنية أبوية تأخذ نزعة سلطوية شاملة ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبًا لفرض رأيها فرضًا".

ويفرِّق شرابي بين النظام الأبوي ونظام الأبوة المستحدث أو الجديد تعبيرًا عن التطورات والتحولات التي لحقت بهذا النظام، لاسيما في الحالة العربية [5] بالتالي هذه الثنائية المتضادة عند هشام شرابي في صورة المجتمع العربي التقليدي والحديث، طرحها لنا رضا الباهي في صندوق عجب من خلال علاقة الأب بالابن، وحالة القهر والتفسخ الذاتي التي تنتاب طفلًا يحاول أن يرى العالم من زاوية جديدة من خلال عشقه للسينما واكتشافه للعالم، وأب يمنعه من ذلك، معبرًا عن مجتمع يختنق بعادات وتقاليد، وهو يحاول التقدم في دولة تلتمس طريقها للحداثة.

إذا كان صاحب فيلم صندوق عجب فكك المنظومة الاجتماعية في تونس من خلال صورة الأب، نجد أن صورة الأب في السينما العربية تأخذ شكلًا آخر تعبر عن هواجس المخرج وانحيازه لمواقف سياسة معينة، تعبِّر عن هزائم وانكسارات كبرى غيرت مستقل الوطن العربي. فكيف صورت الأب كرمز لواقع سياسي؟

صورة الأب استعارة لمشهد سياسي

تعد السينما العربية في العديد من التجارب بمثابة وثيقة بصرية تعبر عن هواجس سياسية لصناعها، برصد التحولات السياسية والاقتصادية وانعكاسها على الناس، وهذا ما جعل السينما في صدارة الفنون، باعتبارها محاكاة للواقع الذي يؤثر في السينما على مستوى الطرح من خلال تيمة الفيلم وتركيبة الشخصيات ومكوناتها وهواجسها وطموحاتها في الزمن الفيلمي، وهنا نستطيع القول إن السينما تصوُّر لتجربة بشرية معينة، ولو قمنا بنظرة بانورامية لتاريخ المشهد السياسي العربي لوجدنا العديد من المحطات السياسية الكبرى: نكبة 48، ونكسة 67، وحرب 73، ومعاهدة كامب ديفيد، وزمن الانفتاح في مصر 1977، والحرب الأهلية اللبنانية، وحرب الخليج الأولى والثانية، وأحداث 11 سيبتمبر2001، وغزو العراق2003، وصولًا إلى الربيع العربي. كل هذه المحطات السياسية غيرت في صورة الشخصية العربية في السينما، بما فيها صورة الأب، سواء في فترة تاريخية معينة أو في عدة فترات متقاربة.

أحد الأفلام التي تناولت صورة الأب كاستعارة لانعكاس لأحداث سياسية في فترات متقاربة هو الفيلم الفلسطيني الليل 1992 لمحمد ملص، الذي تدور أحداثه في مدينة القنيطرة التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي، هناك قبر الأب حيث يحاول الابن أن يستعيد حيات أبيه وهي حياة بلد وأحداث سياسية حرجة في التاريخ المعاصر، اعتمادًا على ذاكرة الأم، فتوقظ روايتها حياة أب كان قد مر ذات يوم من عام 1936 من القنيطرة في طريقه الى فلسطين مقاومًا، ليلتحق بثورة القسام ضد الصهاينة والإنجليز.

https://www.youtube.com/embed/fCAmB4JooEo

فيلم الليل


ثم مر ثانية وهو عائد من فلسطين مهزومًا، وقرر أن يستقر ويتزوج هناك، ومن جديد ليذهب مع جيش الإنقاذ 1948، ثم يعود منها مع أول بوادر النكبة وضياع فلسطين، لكنه يبقى متمسكًا بالمثل والأحلام، مشحونًا بروح المقاومة. يحدث انقلاب عسكري 1949 ويستولي الجيش على السلطة، فيرفض الأب الانقلاب لكنه في رفضه يتلقى صفعة الإهانة والسجن على يد بني وطنه في سوريا، ويموت مثقلًا بالقهر، ويُدفن في مكان ما في القنيطرة. يعيش الابن موت والده هذا ويرث عنه مرارة الإهانة والانكسار.

جعل محمد ملص الأب في هذا الفيلم رمز لواقع سياسي في العديد من المحطات، كلها يعود فيها مكسور ومهزوم، الأب عند ملص نقطة تكثيف لذلك التاريخ فما ينتابه من أحاسيس وانكسارات نتيجة وقائع سياسية، هو رمز لأمة وبلد عاش ويلات الحرب والهزائم وفي كل مرة يحاول النهوض من جديد، حتى موته هو رمز لموت جيل كامل، موت أمة، موت فكرة المقاومة ودخول مراحل جديدة، وهي التكالب على السُلطة والانقلابات العسكرية.

بالتالي نكتشف من خلال الفيلم أن صورة الأب في السينما قد تتوسع أكثر في توظيفها من دلالة اجتماعية تعبِّر عن منظومة قيم تسود المجتمعات العربية، إلى توظيف سياسي يحاكي التغيرات السياسية في المجتمعات العربية، فالأب ليس سمة اجتماعية ومكون من مكونات الأسرة، بل أصبح المفهوم الذي يعبر عن هواجس سياسية ونقد لمنظومة قيم.

ولم تقف شخصية الأب عند هذا التوظيف، بل تطورت أكثر وسارت نحو منطق رمزي ميتافيزيقي على اعتبار الأب صورة الإله.

الأب صورة الإله

دائما ما كان هناك توجس عند تجسيد الشخصيات والرموز الدينية على شاشة السينما، وتحرر صناع السينما العربية من هذا الهاجس بصعوبة كبيرة تبعًا للظروف السياسية والاجتماعية [6] فاذا كان العامة لا يوافقون على تجسيد الأنبياء والرموز الدينية، فهل يمكن لأحد أن يفكر في تجسيد الله؟

تبدو فكرة تجسيد الله في السينما العربية مستبعدة، فالله ليس كمثله شيء، فالإيمان بالصمدية والوحدانية يجعل التفكير ينتقل إلى تجسيد الله وتشخيصه في صورة محددة الأبعاد، وهي محاولة للتفكير في طبيعة العلاقة بين الإنسان والله، والتفكير في القدر، وقضايا التسيير والتخيير، وفيها سؤال عن العدل الإلهي، والبحث عن الله.

على سبيل المثل، فكرة البحث عن الله لا تضرب بجذورها في الواقع العربي المعاصر، لكنها تنبع من أفكار فلسفية اقتبستها السينما من فن الرواية، مثل روايتي نجيب محفوظ "الطريق" و"أولاد حارتنا" [7] هذه الأخيرة التي تسرد قصة الخلق في السرديات الإسلامية، من خلق الله آدم وعقابه بنزوله إلى الأرض ومعاناته فيها، وتجسيد قصص الأنبياء، وصولًا إلى فكرة موت الله في العصر الحديث، في قالب سرد واقعي تدور أحداثه في حارة الجبلاوي. وهذا الأب في علاقته بأبنائه وهم يرمزون للأنبياء وللحارة التي ترمز للإنسان والعالم، وهو رمز لله، فالجبلاوي الأب في أولاد حارتنا هو ترميز لفكرة الله وعلاقة الإنسان به. وتحولت هذه التيمة إلى السينما العربية، ومن أول الأفلام التي تناولت فكرة البحث عن الله متجسدًا في شخصية الأب، كان الفيلم المصري الطريق 1962 إخراج حسام الدين مصطفى، وهو اقتباس لرواية نجيب محفوظ بنفس العنوان.

فيلم الطريق


طوال الزمن الفيلمي وصابر هدفه الأول والأخير هو العثور على هذا الأب الذي اختفى في ظروف غامضة، وترك ابنه الذي تنهشه تقلبات الأيام لينقذه من الضياع، ويهبه الحماية والأمان لكنه لا يظهر له.

لم تكن تيمة الله المتجسدة في شخصية الأب من منظور واحد كالبحث عن الأب في إسقاط للبحث عن الله، وإنما نجد أطروحات ومعالجات درامية أخرى خارجة من رحم السرديات الإسلامية باعتبارها المرجع لفكرة الله في الثقافة العربية، وفكرة الله متجسدة في شخصية الأب في الفيلم كذلك، بطرح سؤال ميتافيزيقي وجوهري في قضية الخلق من خلال إشكالية هبوط الإنسان من الجنة الى الأرض. وهل ما زال الإنسان يدفع ثمن تلك الخطيئة أم عُفي عنه وتاب آدم، كما هو الأمر في فيلم قلب الليل 1989، عن رواية لنجيب محفوظ وإخراج عاطف الطيب.

مناقشة عن فيلم "قلب الليل" على قناة ART


في ذلك الفيلم يخرج جعفر الشاب من العالم الآمن الهادئ ويتمرد على سلطة الأب فيخرج من رحابه، لتفسد حياته بالكامل. هذا التمرد أو الرفض لسلطة الأب يمكن أن يفسَّر على أنه تمرد أو رفض لأي سلطة سياسية أو دينية أو أي أمر يسجن الإنسان في تصور لا يقوم على الاختيار والحرية، ولكن باختيار عاطف الطيب لشخصية الأب بجسده الضخم ولحيته البيضاء الطويلة وأدائه الرصين، واستخدامه لإضاءة داخلية ضبابية رسمت جوًا أسطوريًا للجنّة التي يرمز لها البيت الكبير، حيث رغد العيش، جعلته ينجح في الإيحاء ليس بتجسيد الله على الشاشة ولكن بتجسيد صفات الله الكلية، واحتفظ الرمز أيضًا بقيمته في قراءة أخرى لكل ما هو سلطة مطلقة.

بالتالي، الإشارة إلى الله في السينما والأدب في صورة الأب، ليس في شخصيته وإنما في صفاته وقدرته على التغيير والجبر، وأي تمرد من الابن، أي الإنسان، يجعلنا نطرح مجموعة من الأسئلة الوجودية تجاه الأشياء كمحاولة للبحث عن الحقيقة والذات والعدالة الاجتماعية والحرية، فالعودة للمفهوم الأول والنبش في تاريخ الأفكار عامل مساهم لمعالجة قضايا الإنسان المعاصر.

الأب هو رب الأسرة، فهو رمز السلطة على اعتبار الأسرة نموذجًا مصغرًا من الدولة [8] والدولة نموذجًا مصغرًا من فكر الله، فالأب هو الزعيم السياسي، والزعيم هو صورة الله على الأرض في الثقافة الشرقية القديمة، وهو ما استمر إلى اليوم، بالتالي السؤال المطروح هنا إذا كان الأب له هذه الصور الثلاثة الواردة باعتباره السلطة الاجتماعية والسياسية والميتافيزيقية، فماذا عن مفهوم موته في السينما؟ إلام يرمز موت الأب؟ ولكن قبل هذا، ما رمزية الموت؟

 رمزية موت الأب  

على اعتبار أن الفيلم السينمائي هو إعادة تشكيل للعالم بالصورة أي أن المخرج يسعى من خلال العمل الفني إلى خلق عالم خاص به بواسطة كل مكونات الفيلم من السيناريو إلى المونتاج، وعالم الفيلم هو عالم السرد المتخيَّل، وتطورت النظريات حول السرد السينمائي مع تطور الحراك الفكري والثقافي والتقني كذلك من أفلاطون الذي يرى أن الفن محاكاة للواقع المحسوس، مرورًا بالرمزية والتجريبية والواقعية، بيد أن كل المدارس السينمائية جزءًا أساسيًا من حركة الحياة التي يعيشها الإنسان. والموت هنا جزء أساسي من الحياة، فالسينما هي تشكيل للحياة أو جزء منها، لذا فموت الأب حاضر في هذا التشكيل ويختلف تمظهره من فيلم إلى آخر.

فما هي أشكال موت الأب في السينما العربية؟ وما رمزيته؟ 

أشكال موت الأب في السينما العربية

إن فعل الموت في السينما هو أحد أهم الأفعال المادية والمعنوية التي يقوم عليها الصراع الدرامي مثل الحب والجنس والخيانة والسرقة والموت، وهو أول ذروة درامية عرفها تراث الإنسانية الضخم في قصة قتل قابيل لهابيل، ووقوفه عاجزًا أمام جثة أخيه.

ما نريد أن نخلص إليه هو أنه لا يوجد موت في السينما بالمفهوم المادي فقط لغياب شخص جسمانيًا عن قيد الحياة أي الموت البيولوجي لشخصية الأب، ليس لأن السينما واقع موازٍ متخيل وذهني، ولكن لأن السينما تعيش فعل الموت على مستويات عديدة بتعدد مستويات الصراع الدرامي وقرارات الشخصيات وانفعالها وطبيعة الذروة والتعقيدات النفسية والوجدانية داخل التجربة الفيلمية مهما كان نوعها (ميلودرامي، تراجيدي، فنتازيا أو كوميدي).

ومن خلال التجارب السينمائية العربية يمكننا أن نفهم أشكال موت الأب وأنواعه من خلال عدة تجارب تعبّر عن هواجس الصناع وأفكارهم، وكيف ينظر صناع السينما لموت الأب ويتعاملون معه داخل أفلامهم. لهذا نجد موت الأب في السينما العربية يأخذ ثلاثة أشكال؛ الموت المادي البيولوجي لشخصية الأب، والموت المعنوي للأب، والموت الإحيائي. أي الموت كفعل للذاكرة.

 الموت المادي 

ننطلق في هذا القسم من مقولة الفيلسوف الفرنسي جزائري المولد، جاك داريدا "نحن لا نموت كالأشياء، نحن نموت في شكل سردية".

وعلى اعتبار الفن محاكات للواقع فان الموت البيولوجي للأب في الزمن المحكي للفيلم يتحول من مجرد فعل مادي إلى سبب درامي إما مشحون برموز واتجاه معنوي أو أفق تأويلي، من خلال بناء درامي وسببية سردية، تكون إما قادح للصراع أو نتيجة له أو حدث مركزي قامت عليه حكاية الفيلم، ففي فيلم سواق الأتوبيس 1982 لعاطف الطيب، نجد نهايته كانت بموت الأب المعلم سلطان، حسرة على ضياع الورشة بعدما كان ابنه حسن طوال الفيلم مشغول بالمحافظة على ورشة أبيه ومنع الحجز عليها وبيعها في المزاد العلني، إلى أن جمع المال لكن بعد فوات الأوان، فقد مات الأب.

هذه القصة البسيطة للسيناريست بشير الديك هي قراءة سياسية للمجتمع المصري والتحولات التي حصلت زمن السبعينيات بتغيير منظومة القيم في الشعب من خلال الخيارات الاقتصادية التي نهجها رئيس الجمهورية أنور السادات، وما كان يطلق على تلك الفترة "عصر الانفتاح". [9]

هذا الموت البيولوجي للأب في فيلم سواق الأتوبيس لم يكن موتًا ماديًا فحسب، وإنما سبقه موت معنوي بعجزه تجاه إنقاذ تلك الورشة. الأب في هذا الفيلم يستخدمه الطيب ليرمز إلى منظومة قيم الشعب المصري، والورشة بمثابة البلد ومحاولة ابنه حسن إنقاذ الورشة من البيع هذا الأخير الذي من خلال الحوار نكتشف أنه شارك في أربعة حروب؛ اليمن 1962، ونكسة 1967، وحرب الاستنزاف 1968، وحرب أكتوبر1973، لذلك كان حسن يعرف قيمة الورشة وأنها تحيي كبرياء الأب/ ومن غيرها ينكسر ويموت.

في فيلم الطيب مات الأب موتًا ماديًا، وسبقه موت معنوي، وما هذا الموت المادي إلا موت لمجموعة من المفاهيم والرموز التي تحملها شخصية الأب، فكيف يكون الموت المعنوي إذا كان الأب يجسِّد مجموعة من المقولات والمفاهيم والرموز؟

 الموت المعنوي 

الموت ليس نهاية الحياة فقط، أي الموت البيولوجي وإنما اليأس وفقدان الأمل والسكون والعجز والحرمان وانعدام الفاعلية، وانعدام الضمير وفقدان الحرية وغياب العدالة. كل هذه الصفات تنسحب على معنى الموت وهو الموت المعنوي، والموت لغة كما ورد في لسان العرب "السكون، وكل ما سكن فقد مات، ويقال: مات الرجل وهمد. وماتت النار موتا، برد رمادها، وماتت الريح: ركدت وسكنت، ومات الماء بهذا المكان: إذا نشفتها الأرض".[10]

هذا الشكل من أشكال الموت استطاعت السينما العربية تجسيده بحرفية عالية من خلال تشكيل الشخصية وربما أغلب سينما الجنوب اشتغلت على تيمة الموت المعنوي، لما لها من دلالات وأبعاد فكرية عن قلق الإنسان وافتقاده للحد الأدنى من حاجاته كانسان.

وفي فيلم كفر ناحوم 2019 للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، الذي يتناول قصة زين، هذا الطفل الذي يسكن حيًا فقيرًا وقرر التمرد على عائلته من خلال رفع شكوى للقضاء ضدهم لأنهم أنجبوه إلى هذه الحياة البائسة، الطفل يحمل المسؤولية، وكل ما حدث له لا دخل للأب به، إذ هو ميت معنويًا، أي غير قادر على إعالة الطفل وأخته بل أراد تزويجها وهي قاصر، فالقهر الذي يعيشه زين من تشرد وفقر هو نتيجة الموت المعنوي الأب المسلوب الإرادة والحرية، على اعتباره لاجئ؛ هؤلاء اللاجئون في لبنان اللذين يولدون أمواتًا دون أي حق من الصحة والتعليم.

ندين لبكي في الفيلم رصدت هذا الموت المعنوي، الذي ربما يكون أصعب بكثير من الموت البيولوجي، لذلك كان السؤال الميتافيزيقي للطفل زين، لماذا أنجبتموني لهذه الدنيا؟ وهو محور قضية زين أمام المحكمة.

 إحياء الأب بموته

كما أسلفنا فالموت في السينما متعدد الأوجه، ويصل بنا إلى أنه موت من أجل الإحياء، أي إحياء الذاكرة، فتعاد تشكيل حياة الميت كي نراها من جديد، فحياة الشخصية الدرامية لا تنتهي بالموت بل تبدأ، ويتجلى فيها الموت كغرفة واسعة من الذكريات التي ترفض أن تزول بزوال صاحبها أو مغادرة الحياة، بل موته في الزمن المحكي في الفيلم يعيده للحياة من جديد، وربما هذا النوع من السرد، الذي يسمى السرد الاسترجاعي أي "الفلاش باك"، يتمحور كثيرًا حول شخصية الأب فيعاد إحيائه بموته، لما لتلك الشخصية من رموز وثقل سردي وفكري في الفيلم، وهو يمثل نقطة تكثيف لواقع أمة أو جيل.


اقرأ أيضًا: حفرة زبيدة: كيف يُقتل الأب في أدب الرجال  

لوحة إغريقية لولادة هرقليز- الصورة: فليكر برخصة المشاع الإبداعي

ربما نستطيع هنا ذكر فيلم الليل لمحمد ملص، أو فيلم باب الشمس- الرحيل والعودة 2003 ليسري نصر الله. فموت الأب في عملي ملص ونصر الله هو إحياء للأب وإعادة تشكيل سيرته الأولى حتى مماتها. وهي سيرة وطن، ففيلم باب الشمس يبدأ بالموت السريري ليونس الأسدي، بطل الفيلم، ويحاول ابنه بالتبني خليل أيوب أن يرعاه وهو في حالة موت سريري، فيريد خليل أن يسرد له سيرته الأولى ويعيد نسجها، بداية من مقاومته للإنجليز سنة 1936 وصولًا إلى التسعينيات، وبكل ما حدث للشعب الفلسطيني، مرورًا بقصة حبه لنهيلة وتسلله لفلسطين من أجل لقاءها، فخليل طاول ستة أشهر وهو ملازم ليونس الميت موتًا سريريًا، وهو يسرد سيرته، فالفيلم هو سرد استرجاعي، وهو إعادة تشكيل الحكاية. بالتالي الموت هنا بمثابة إحياء، وموت يونس الأسدي إنما هو سبب لاستعادة ذاكرة الشعب، وكان يونس الأسدي يمثل أعلى درجات التكثيف والترميز.

ما نفهمه من خلال البحث عن أشكال موت الأب في السينما هو أن الموت واحد في الحياة، وفي السينما الموت أشكال وألوان مثله مثل أسباب الموت، والسينما بتشكيلها للموت في قالب حكاية، إنما تدافع عن الحياة. فأين تكمن رمزية موت الأب في السينما العربية؟

دلالات موت الأب 

من خلال العناصر السابقة حول صورة الأب وأنواعها وأشكال الموت وأنواعه، نخلص إلى أن شخصية الأب لا تمثل الجانب الحياتي في الكلمة، وإنما هي استعارة لرأي وطرح فكري وسياسي واجتماعي للمخرج الذي يختبأ بأفكاره وراء فكرة الأب، وما موته إلا موت لما تحمله فكرة الأب من استعارات، سواء سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، كل حسب طرحه. ولكن ما يثير الانتباه أن فكرة الأب عند جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تختلف عن الجيل الجديد في مفهومه لموت الأب، فمن خلال فيلم عاطف الطيب سواق الأتوبيس، وفيلم الليل، لمحمد ملص، وفيلم باب الشمس ليسري نصر الله، نكتشف أن موت الأب موت لشيء منشود في المجتمع، وموت الأب هو موت لمشروع وطني، إما استرجاع لأرض محتلة أو استرجاع هوية وطنية، بالتالي كأن المخرجون يتنبؤون بمستقبل تعيس للوطن العربي مع موت هذه القيم، وصدقت النبوءة من خلال الموت المعنوي الذي تعيشه الشخصية العربية المعاصرة.

وربما ما قدمته نادين لبكي في فيلم كفر ناحوم من خلال ذلك الأب، الذي هو ميت معنويًا، دليل صحة للطرح السابق، والسؤال المطروح هنا: هل نحن محكومون بفكرة الأبوة؟ ألم تكن هي سبب هل الفشل الذريع وهذه المآسي التي تعيشها الشعوب العربية؟ وما قدم في السينما لا يدل إلا على هاجس جيل كامل تجرع مرارة الهزيمة التي كان سببها منطق الأبوة. أليس موت الأب هو ولادة وانبعاث وتمرد على السائد، من أجل الولوج إلى عالم أفضل؟


المراجع:

1- الدكتور عبد الرحيم حمدان حمدان: صورة الأب و الأم في شعر محمود درويش: مجلة جامعة الأزهر غزة، عدد خاص بأعمال مؤتمر "محمود درويش القضية والإنسان" أكتوبر 2009

2-ليندا عبيد: تمثيلات الأب في الرواية النسوية العربية المعاصرة، الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان2007 

3- مصطفى حجازي: التخلف العربي ص 118 

4- جيردا ليرنر : نشأة النظام الأبوي، ترجمة أسامة إسبر: المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2013

5- هشام شرابي: النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة هشام شريح، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1992

6- فريد سمير: تاريخ الرقابة على السينما في مصر، المكتبة المصرية للمطبوعات بالقاهرة سلسلة فنون 2016

7- نجيب محفوظ: أولاد حارتنا - ط 8 - دار الآداب بيروت 1997

8- وايلي إريك: هيجل والدولة، ترجمة نخلة فريفر: دار التنوير للطباعة والنشر سلسلة المكتبة الهيجلية 2007 

9- محمد حسنين هيكل : خريف الغضب، مركز الأهرام للترجمة والنشر مؤسسة الأهرام 

10- ابن منظور: لسان العرب، تحقيق عامر حيدر، بيروت: دار الكتب العلمية المجلد السادس (أ-ل) ط1، 2005، ص (817-821)