
من فيلم 2001: A Space Odyssey، إخراج ستانلي كوبريك (1968).
الإنسان والروبوت في السينما.. علاقة حب تُرعب الطرفين
قبل أيام، أثار مقطع فيديو يصور روبوتًا خرج عن السيطرة في أحد المصانع بالصين، وراح يحطم كل ما تطاله ذراعاه الحديديتان، رعبًا عميقًا وقلقًا وجوديًا لدى كل من شاهده أو قرأ عنه تقريبًا.
لم يكن لمثل هذا الفيديو أن يسبب كل هذه المخاوف لو أنه ظهر قبل ربع قرن أو حتى عشر سنوات، ذلك أن شبح خروج العقل الإلكتروني عن السيطرة وخروج العقل البشري عن الخدمة لم يكن حاضرًا مثلما هو اليوم!
الحقيقة أن "حجم" الحادث لم يكن بالقدر الذي صورته وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، فالروبوت لم يهاجم أحدًا، ولم يكن في حالة "عصبية" سيئة، بل كان فقط يُفعِّل إحدى خواصه. تركه المبرمجون معلقًا في الهواء للحظة، وعندما "شعر" بأنه سيسقط نجح في تفعيل خاصية مقاومة السقوط.
لا أقصد أن أبدد الخوف من المستقبل الذي تسيطر عليه الروبوتات، وما يمكن أن تفعله بالبشر، بقصد أو بدون. لكن نجاح الروبوت في الخروج عن السيطرة بفضل خاصية "مقاومة السقوط" التي "زُرعت" فيه، لا يختلف كثيرًا عن الأفعال العدوانية/الغبية الفطرية، الغير متناسبه مع الفعل والموقف، التي يتخذها البشر حين يشعرون بالخوف. ويمكن الاستدلال بردود فعل ضحايا مقالب الكاميرا الخفية، على أن هذا الروبوت في هذا السياق، لا يختلف كثيرًا عن البشر.
وحسب علماء الذكاء الاصطناعي ومصممي الروبوتات، فاحتمال خروج الأمور عن السيطرة واردٌ، أو كما يقول العالم جيفري هينتون، الأب الروحي للروبوتات والفائز بجائزة نوبل في الفيزياء عن أعماله في مجال التعلّم الآلي/machine learning، الأمر يشبه تربية شبل نمر لطيف، ما لم تكن متأكدًا 100% من أنه لن يرغب في قتلك عندما يكبر، فإن عليك أن تقلق!
فرانكنشتاين.. البداية
هذا التشبيه الدرامي موجود في روايات وأفلام الخيال العلمي منذ أكثر من مائتي عام، عندما أصدرت ماري شيللي روايتها فرانكنشتاين مع بداية عصر الثورة الصناعية التي مهَّدت لما صرنا عليه اليوم، وما قد نصبح عليه غدًا.
ولد أدب الرعب من رحم الخوف من التكنولوجيا التي بدأت مع الثورة الصناعية، بالتحديد مع اكتشاف المولدات البخارية ثم الكهرباء، وصولًا إلى القنبلة الذرية والكمبيوتر.
الروبوت هو الحفيد الشرعي لفرانكنشاتين، ذلك الجماد الميت، أيضًا، الذي بُثَّت فيه الحياة بالكهرباء. هو جسد وعقل إلكتروني خرج عن سيطرة صاحبه ومصممه، وبات يطالب بحقه في الاختيار.
الفكرة، نفسها، يناقشها الفيلم الهولندي القصير Ik ben Geen Robot/أنا لست روبوتًا من تأليف وإخراج فيكتوريا فارمردام (2023)، الذي حصل قبل أسابيع على أوسكار أفضل فيلم روائي قصير.
في الفيلم، تكتشف شابة تعمل في شركة لإنتاج الموسيقى أنها غير قادرة على إتمام اختبار "أنا لست روبوتًا" الذي تتطلبه بعض مواقع الإنترنت، وعندما تتصل بخدمة العملاء وتحتدُّ على الموظف، يطلب منها أن تتأكد أنها ليست روبوتًا.
وبعد السخرية والرفض تفكر في الأمر وتتصل بحبيبها لتخبره، فينزعج وينهي المكالمة. بعد قليل تكتشف الشابة أنها بالفعل روبوت يشبه حبيبة الشاب التي ماتت، صُمِّمت خصيصًا له، فتصاب بحالة ذهول تدفعها لاتخاذ قرار غريب ومدمر.
https://www.youtube.com/watch?v=hyuZ7gP4VIEالمرأة "روبوتة"
يحمل "أنا لست روبوتًا" طبقات وجودية ونسوية، في إشارات سريعة وموجزة تناسب زمنه القصير، وتذكِّرنا إلى حدٍّ ما بكلاسيكية هنريك إبسن بيت الدمية. ولكن الفكرة نفسها تطرح على نطاق أوسع وأكثر "شعبوية" في فيلم الرعب والأكشن الأمريكي Companion/رفيقة، تأليف وإخراج درو هانكوك (2025).
مثل "أنا لست روبوتًا"، تكتشف بطلة الفيلم الشابة أيريس أنها ليست إنسيةً، بل "روبوتة". أيريس في علاقة حب مع جوش، وأثناء رحلة خلوية يحاول أحد أصدقائه اغتصابها فتقتله وهي تدافع عن نفسها. عندما تعود إلى المنزل وتخبر جوش ورفاقه بما حدث، يأمرها: نامي! لتستيقظ وهي مقيدة، وتكتشف أنها روبوت مُستأجر من إحدى الشركات، وأنها ستعاد إلى الشركة لتفكيكها.
تكتشف أيريس أيضًا أن جوش يتحكم في مشاعرها ومستوى ذكائها من خلال تطبيق على موبايله... وتعرف أن حبيبها وأصدقاءه دبروا خطة ليجعلوها تقتل مضيفهم، طمعًا في 12 مليون دولار يخبئها في المنزل.
بعد الذهول، تستولي أيريس على موبايل جوش وتهرب وترفع درجة ذكائها وقدراتها العدوانية إلى الحد الأقصى. يتبين أيضًا أن أحد الأصدقاء روبوت أيضًا. تبدأ مطاردة أيريس وتتداعى سلسلة من المعارك العنيفة حتى تنجح أخيرًا في الاستيلاء على المال والهرب. وينتهي الفيلم بها وهي تلوح من سيارتها، بذراعها الحديدية بعدما سقط عنها الجلد أثناء العراك، إلى "روبوتة" مماثلة لها بالضبط في سيارة رجل آخر، تنظر لها بدهشة وفضول!
المرأة الروبوت المؤنسنة/humanoid robot كانت أيضًا محور فيلم Ex Machina. الترجمة الحرفية لهذا العنوان تعني "الإله على ماكينة"، وهو تعبير إغريقي كان يعني في المسرح اليوناني شخصيات الآلهة التي تظهر على المسرح فوق عجلة مرتفعة تميزهم عن الشخصيات البشرية.
الفيلم من تأليف وإخراج ألكس جارلاند، وعُرض عام 2014، ويتناول رحلة "عالم" تقنيات شبه مجنون، يُصنِّع روبوتات متطورة تحاكي الإنسان، تفكر وتشعر وتتخذ قراراتها الشخصية. ومثل Companion، والأفلام سابقة الذكر، ينتهي الفيلم بتخلص "الروبوتة" من قيود الرجال البشر، لتشق طريقها.
تحقِّق استعارة الروبوتة المرأة في مقابل البشري الرجل ليس فقط المعنى النسوي المباشر، لكنها أيضًا تمنح كائن الروبوت مزيجًا غامضًا من الغواية والرعب، وهي تثير التعاطف مع المرأة والخوف منها في الوقت نفسه، في استعارة عكسية للمشاعر المختلطة تجاه التكنولوجيا وفكرة الصديق والحبيب الآلي، الذي بات، شئنا أم أبينا، يرافقنا طوال اليوم عبر chatGPT وغيره.
https://www.youtube.com/watch?v=Qr_kX0D3DNAبين الرغبة والخوف
هذه العلاقة "الحميمة"، المخيفة، بين الإنسان والآلة، يستكشفها الفيلم الفرنسي Titane/تيتان تأليف وإخراج جوليا دوكورنو (2021)، وهنا نلحظ أن معظم الأفلام التي تتناول العلاقة بين الإنسان والآلة هي من تأليف مخرجيها، ما يشير إلى دافع شخصي في التعبير عن تلك العلاقة.
"تيتان" الذي حصلت مخرجته على سعفة كان الذهبية أثار الجدل والانقسام الشديدين بين المعجبين والكارهين، ذلك أنه يأخذ علاقة الإنسان والآلة إلى منطقة مظلمة من الرغبة والنفور، تتجنب الأفلام عادةً الاقتراب منها.
هنا تندمج المرأة البطلة مع الآلة في جسد واحد، إذ تُزرع شريحة بلاتينية في مخها بعد تعرضها لحادث سيارة. وعندما تغادر المستشفى، تبدأ في التعامل مع السيارات ككائنات حية! تعمل ألكسيا راقصة إغراء في ملهى وتقدم استعراضًا مع السيارات. تغوي الرجال وأثناء ممارسة الحب معهم، تقتلهم بجزء حديدي يبرز من رأسها المفتوح في موضع العملية الجراحية.
يعكس عدد الأفلام التي تتناول علاقة الإنسان بالآلة، ثم فوز هذا الفيلم بجائزة أكبر مهرجان سينمائي دولي، ازدياد الاهتمام بالموضوع. تستكشف العديد من الأفلام، من ناحية، الاحتمالات والسيناريوهات الممكنة للعلاقة بين الطرفين، ومن ناحية ثانية العواطف والانفعالات الإنسانية من خلال تجريدها أو نقلها إلى بيئة مختلفة.
وبعيدًا عن الروبوت الأنثى في مواجهة الإنسان الرجل، يدور الفيلم الألماني Ich bin dein Mensch/أنا رجلك، إخراج ماريا شريدر التي شاركت في كتابته أيضًا، حول امرأة تعرض عليها شركة التكنولوجيا التي تعمل بها أن "تجرب" إقامة علاقة مع روبوت رجل مُصنَّع من أجلها خصيصًا. ترفض في البداية، ثم تقبل مضطرة، ولكن سرعان ما تكتشف أن هناك مشاعرَ تنتابها بالفعل تجاه الروبوت، كما لو كان رجلًا حقيقيًا.
الطريف أن الفيلم يستكشف موضوع الروبوت "المرافق" من وجهة نظر مختلفة، إذ يتبين أن الإنسان غالبًا لا يحتاج إلى رفيق كامل الصفات بقدر ما يبحث عن نموذج بعينه قد لا يخلو من العيوب أو بعض المواصفات غير المستحبة، كما أنه غالبًا ما يرتبط عاطفيًا وفقًا لسيناريو معد سلفًا في ذهنه ونفسه. وهو ما نجحت الشركة المصممة للروبوت في تحقيقه من خلال معرفة كل شيء عن المرأة!
"أنا رجلك" يختلف عن الأعمال السابقة في كونه يُقدّم من وجهة نظر المرأة الإنسية لا الروبوتة، ويطرح نهاية متفائلة للعلاقة بين البشر والروبوت المؤنسن، حيث يجمع بينهما الحب!
https://www.youtube.com/watch?v=oR_e9y-bka0نبوءات ستانلي كوبريك
أول من عالج العلاقة المعقدة بين الإنسان والعقل الإلكتروني على شاشة السينما كان ستانلي كوبريك عام 1968 في رائعته 2001: Space Odyssey، الذي يتناول في جزءٍ مهمٍ منه العلاقة المضطربة بين الإنسان والروبوت في الفضاء البعيد، حين يكتشف رائد الفضاء بومان أن العقل الإلكتروني هال-9000 أخطأ التقدير، فيقرر مع زميله بوول إيقاف تشغيله.
لكن هال-9000 الذي يرفض الإقرار بخطئه والتوقف عن العمل، يقتل بوول ويحاول قتل بومان، لكن الأخير يفك أوصاله.
لم تنل أوديسا كوبريك التقدير المستحق في عصرها، رغم أن الفيلم حقق إيرادات هائلة عند عرضه بالتزامن مع "ثورة الشباب" العالمية التي انطلقت في ذلك العام الفاصل من تاريخ القرن العشرين، وأفرزت جيل "الهيبي" الذي أنتج عددًا من عباقرة الكمبيوتر مثل ستيف جوبز وبيل جيتس، وكلاهما من مواليد 1955.
لم يفز أوديسا الفضاء إلا بجائزة أوسكار واحدة لأفضل مؤثرات خاصة، وهي الأوسكار الوحيدة التي نالها كوبريك، أحد أفضل صناع الأفلام في التاريخ. لكنَّ الفيلم حلَّ عاشرًا بين النقاد والأول بين المخرجين، في آخر استطلاع أجرته مجلة Sight and Sound عام 2022 لأعظم عشرة أفلام في التاريخ.
كوبريك الذي توفي عام 1999 لم يشأ أن يرحل قبل الإدلاء بشهادة أخيرة عن مستقبل الإنسانية في عصر الروبوتات، فبدأ العمل على فيلم A.I. Artificial Intelligence/الذكاء الصناعي، ثم عهد بإخراجه إلى ستيفن سبيلبرج الذي نفَّذه بالفعل وعُرض عام 2001، العام نفسه الذي تجري فيه أحداث أوديسا كوبريك.
أما أحداث AI فتدور في القرن القادم، حيث الروبوتات جزء من الحياة اليومية، يصعب تمييزهم عن البشر، ويمكن زراعة مجسات للمشاعر بداخلهم تُمكِّنهم من الشعور بالحب والكره والخوف وغيرها.
يحكي الفيلم عن امرأة تتبنى روبوتًا طفلًا وتطلب من مصنعيه تزويده بالمشاعر، فيقع في حب "أمه" حبًا أبديًا، حتى بعد أن تتخلى عنه وتتخلص منه. ورغم أنه فيلم خيال علمي عن عالم غير واقعي بعد، فهو من أكثر الأفلام تأثيرًا وأكثرها سبرًا لعاطفة الحب وجذورها في الكائنات الحية بشكل عام.
يتعاطف فيلم AI أيضًا مع الروبوتات، راصدًا كيفية تحويلهم إلى عبيد وجواري المستقبل، ويتوقع أن تثور الروبوتات على استعبادها وإساءة معاملتها وتنقلب على الإنسان، ما يمكن أن يؤدي إلى فناء البشرية. السيناريو الذي يخشاه الإنسان منذ عصر فرانكنشتاين!