تيران وصنافير.. الفخ الذي صنعه "السيسي" فوقع فيه

منشور الاثنين 16 يناير 2017

قبل القراءة يستوجب تنويهك أن هذا المقال يغرد خارج السرب، ولا يدعو لإيقاف حملات الدفاع عن مصرية الجزيرتين، التي حققت انتصارًا قضائيًا جديدًا صباح اليوم، برفض مجلس الدولة طعن الحكومة على قرار إبطال توقيع رئيس الوزراء على اتفاقية تسليم الجزيرتين (اتفاقية ترسيم الحدود البحرية).

ما نعرفه، وتوارثته أجيال؛ هو أن كل الساسة كاذبون. حتى مناهج تحليل العلوم السياسية، تقول إن الساسة دائما يحاولون إخفاء الحقيقة خلف تصريحاتهم ومواقفهم العلنية، وأن هناك دائمًا ثمة هدف معلن وآخر مستتر، وعلى الباحث اليقظ استنتاج الأخير، أما الأول عادة ما يكون واضحًا دون بحث أو عناء.

فخ لمن؟

في 9 أبريل/ نيسان 2016، ودونما أي تمهيد، أعلنت الحكومة على لسان مسؤول مجهول، أن جزيرتي تيران وصنافير تقعا داخل المياه الإقليمية السعودية، بموجب اتفاقية جرى توقيعها على المستوى الوزاري لترسيم الحدود البحرية بين البلدين.

وكما هو متوقع أثارت هذه الخطوة موجات متتابعة من الغضب الشعبي، ما إن تنتهي إحداها حتى يدفع قرار قضائي أو تنفيذي لميلاد أخرى. وهكذا لم تهدأ موجات "#تيران_وصنافير_مصرية" حتى الآن. بل على العكس؛ فتحت هذه القضية بابا واسعا "لتلميع" بعض الوجوه السياسية المعارضة، مثل المحاميان خالد علي ومالك عدلي.

هنا يجدر بنا السؤال، هل لم تتوقع الحكومة المصرية عند توقيعها هذه الاتفاقية، كل هذا الغضب؟ في رأيي، هي بالقطع كانت تتوقعه، إذن لماذا لم تُمهد لهذا القرار؟

تظهر أهمية هذا السؤال بقراءة ما تمر به السلطات التنفيذية المصرية الآن في هذا الظرف. فآخر ما تحتاجه الحكومة المصرية الآن، هو إثارة غضب شعبي تجاهها لسبب آخر غير الأزمة الاقتصادية المستفحلة. فما طبيعة الدوافع التي جعلت الحكومة تُقدم على هذه الخطوة؟ ربما تكون الإجابة هي ضغوط من المملكة العربية السعودية على صانع القرار المصري، إلا أن بعض الملاحظة يكشف أن المملكة لم تستبق الزيارة بأي حديث عن هاتين الجزيرتين. على العكس، جاء أول رد فعل سعودي في تصريح منسوب للسفير السعودي بالقاهرة (نفاه لاحقًا)، زعمت فيه صحف مصرية أنه قال: إن الحكومة المصرية هي من قدمت للسعودية وثائقًا تشهد بملكية المملكة للجزيرتين، وان المملكة لم تكن بحوزتها مثل تلك الوثائق.  

اقرا أيضًا: طعن ورد واستشكالات.. دليلك لفهم "قضايا" تيران وصنافير

واللافت أن القضية لا تشهد حضورا كثيفًا في الإعلام السعودي، على العكس من الاهتمام الإعلامي المصري الواسع بها. كما لم تخرج تصريحات علنية لمسؤولين سعوديين تنوه لأحقية السعودية في الجزيرتين، خلال الفترة السابقة على الزيارة التي قام بها الملك سلمان للقاهرة في إبريل/ نيسان الماضي.

الآن نحن بصدد مقولة من فرط شيوعها صار الكثيرون يتعاملون باعتبارها حقيقة: تنازلت الحكومة المصرية بينما لم تطالبها المملكة بالتنازل. إذا كنت متابعًا لتطور العلاقات بين الدولتين في عهدي السيسي وسلمان، ستعرف بسهولة أن ما يفرقهما أكثر مما يجمعهما، يختلفان حول قيادة القوة العربية المشتركة فيفشل المشروع، يختلفان حول مصير الأسد، يختلفان حول أردوغان، يختلفان حول روسيا، يختلفان حول إيران.. إلخ.

السيسي ليس حليفا لسلمان على أي حال إذن. ويبقى السؤال بلا إجابة واضحة، لكنه صار أكثر إلحاحًا، لماذا تنازلت الحكومة المصرية عن جزيرتين لم تطلبهما السعودية، في ظل علاقات متوترة تجمعهما؟

أرجع وزير الخارجية المصري توقيت التنازل إلى أن "النظام الحالي لا يقبل التسويف". إذن؛ لم تطلب السعودية، لكننا في مصر لا نقبل التسويف في تسليم الجزر لها، ما هذا المنطق؟ وأي نوع من السياسة ما نراه؟

الأكثر غرابة هو أن النظام المصري الذي لا يقبل التسويف، تلكأ في إحالة الاتفاقية للبرلمان المصري للتصديق عليها لمدة 9 أشهر من تاريخ توقيعها، وبعد إحالتها للبرلمان أخيرًا في يناير/ كاون ثان الجاري، صرّح عدد من النواب، وعلى رأسهم رئيس المجلس؛ أن البرلمان سيأخذ الوقت الكافي حتى يقوم بالتصديق من عدمه، بينما صادق عليها مجلس الشورى السعودي عقب أيام قليلة من توقيعها.

اقرأ أيضًا: 25 إبريل في لقطات.. الدهس للمعارضين والكلاب البوليسية في خدمة المؤيدين

حتى تاريخ توقيع الاتفاقية، كان الطرفان حريصان على إبقاء الخلافات بينهما بعيدا عن الاعلام، ومهدت أخبار الاتفاقية لحالة من السجال الإعلامي المصري بين مؤيد ومعارض، شمل بعضها هجوما على السعودية. وللمرة الأولى منذ فترة طويلة تسمح الأجهزة الأمنية بظهور وجوه المعارضة تليفزيونيا، حتى أن التليفزيون الرسمي أفرد تغطية خاصة لتظاهرات جمعة الأرض الرافضة للاتفاقية، والتي رفرفت فيها الأعلام السعودية في أيدي مواطنين مصريين من مؤيدي الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مواجهة أعلام مصر التي رفعها رافضو الاتفاقية، في استفزاز واضح لمشاعر كل من راقب هذا المشهد الذي بدا كمقدمة تقارب غير مسبوق بين السيسي والسعودية.

الأكثر أن هذه الحملة بدت كحملة مُنظمة، شارك فيها بعض القيادات السابقة للقوات المسلحة، وبدا أن وصول خالد علي ومجموعته للوثائق الرسمية لم يكن أمرا عسيرا، وفي حكم المؤكد –بالنسبة لي- أنه تعاون مع أطراف من داخل مؤسسات الدولة المصرية، فهل كل هذا تم بمعزل عن السيسي؟ الذي أعلن بعد صدور حكم أول درجة، أنه يحترم حكم القضاء الإداري بتبعية الجزيرتين لمصر! أتشكك كثيرا في هذا الأمر، خاصة أن العلاقات المصرية السعودية بدأت تأخذ منحًا سلبيًا بعدها.

خطة السيسي؟

نعم، ما تستنتجه الآن هو ما أعنيه، وضعت الحكومة المصرية –عن عمد- حجر عثرة منيع أمام التقارب مع السعودية، عززت تيران وصنافير مساحة الخلاف المصري السعودي عوضًا عن تحقيق التقارُب، وساهمت في خلق رأي عام ضد السعودية، بعد تزايد شعبية الأخيرة بين المصريين، بسبب دعمها الاقتصادي لمصر بعد 30 يونيو.

هنا تتبدل الأوراق، سيظهر السيسي مضطرا للتوافق مع الرأي العام. وسيتحجج كثيرا بغضب المصريين، بينما يصبح هو وسيط التهدئة بين مصر والسعودية، مقدمًا نفسه لحكام المملكة باعتباره الأقرب إليهم في مصر، ما سيساعده في توسيع هامش المناورة مع السعوديين، وعدم الوفاء بكافة المطالب السعودية من إدارته، خصوصا إذا وقعت السعودية في فخ الدفاع عن "حقها في الجزيرتين" .

ولكي تقنع الأخرين بكذبة ما، فعليك إتقان صناعة الحبكة الدرامية، دافِع باستماته عن أحقية السعودية في الجزيرتين، روّج لفكرتك واستخدم الوثائق القانونية أيضا، افعل وكأنك تنوي تسليم الجزيرتين بالفعل.

 

هل وقع السيسي في الفخ؟

 

لأنك لا تحيا في العالم بمفردك، وهناك دائما من يتصيد أخطاءك، يبدو أن هناك ثمة توظيف ممنهج لتوظيف القضية داخليا في معارضة السيسي، وحشد المواطنين ضده، بل واصطفاف مؤسسات الدولة لإيقاف هذا العبث، فكان اللجوء للتقاضي لحسم مصرية الجزيرتين متغيرًا جديدًا. كان خيط الرجوع الرئيسي للنظام في رفض تصديق البرلمان على الاتفاقية، بينما الآن دخلت السلطة القضائية في مضمار النزاع الداخلي، فعارضت نوادي القضاة مشروع قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية، متعللة بإن هذا هجوما عليها من النظام بسبب دفاع القضاء عن مصرية الجزيرتين.

هناك شيئا أخطر على نظام السيسي من إقرار القضاء اليوم بمصرية الجزيرتين، الأكثر خطورة هو تبعات القرار، فالآن وقد أقرت مؤسسات القضاء بعدم الاعتداد بالاتفاقية، ربما يتعرض السيسي والبرلمان لخطر الاتهام بانتهاك أحكام الدستور، كونهما سلكا مسلكا غير دستوريًا بتوقيع الاتفاقية والتصديق عليها، وإعادة ترسيم حدود الإقليم المصري دون اللجوء لاستفتاء شعبي كما ينص الدستور.

اقرأ أيضًا: دمٌ.. ورشوة وجزيرتان.. حدوتة مصرية

ما سبق بالتحديد هو ما دفع النظام إلى التعجل بإصدار قانون الهيئات القضائية، وإثارة قضية فساد داخل مجلس الدولة. وربما ستشهد الأيام المقبلة تزايد وتيرة الخلاف بين السلطة التنفيذية والقضاء، ربما تعيد لنا مشهد مظاهرات استقلال القضاة في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، وهذه المرة بغطاء شعبي، فسيروج القضاة لمقولة أن السيسي يعتدي على استقلال القضاة بسبب رأيهم في مسألة الجزيرتين، ما سيُكسب حراكهم زخما أكبر، يتخطى المسألة الفئوية، لتصبح قضية وطنية كبرى.

اقرأ أيضًا: نص كلمة السيسي أمام ممثلي المجتمع (محدش يتكلم في الموضوع دا تاني)

الخيارات ضاقت على السيسي أيضا، وربما سيصبح المنفذ الوحيد للهروب هو محاولة تعديل الاتفاقية، أو اللجوء للبرلمان لرفض التصديق على الاتفاقية، أو الدعوة لاستفتاء شعبي. وهو خيارٌ قد يطيح أيضا بالبرلمان على أدنى تقدير، أما في حالة إقرار البرلمان لسعودية الجزيرتين فهذا يُعرض مصر برمتها لتنازع السلطات الثلاث، وهو وضع خطير خاصة بتزامنه مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وربما يلجأ السيسي إلى تعديل الدستور نفسه للإفلات من هذا الفخ.

يبدو هذا العام مصيريا في مستقبل الحُكم في مصر، وستحضر قضية تيران وصنافير فيه بشكل مكثف، بالشكل الذي يجعل تأثيرها على مستقبل النظام السياسي المصري، أهم كثيرا من أثرها على تطور العلاقات المصرية السعودية.