نيكولاس كايج ينظف الزجاج بشكل وسواسي قهري في فيلم Matchstick Men إنتاج عام 2003

الوسواس القهري.. يا عزيزي "كلنا مجانين"

منشور الخميس 23 فبراير 2017

نشر المقال في صحيفة جارديان البريطانية بتاريخ 19 فبراير 2017. لـشارون بيجلي

للسلوك البشري دوافع لا نهائية، تبدأ عند الغرائز الأساسية للطعام والجنس، وتصل إلى تلك الأكثر تعقيدًا مثل التعاطف والحسد والغضب. لكن؛ لا شيء من هذه الدوافع يشرح تلك السلوكيات التي نندفع للانخراط فيها بشكل لا يمكن مقاومته وتفسيره: "التصرفات القهرية".

تأتي هذه التصرفات القهرية نتاج حاجة ملحة ومؤلمة. ومع أنها قد تجلب لصاحبها ارتياحا؛ لكنها لا تستدعي سوى القليل من المتعة. وبينما يظل جزء من عقلنا يتمنى بشكل يائس أن تتوقف هذه التصرفات، يخاف جزء آخر من توقفها فعلا.

إننا نصف شخصا ما بأنه "مصاب بتصرف قهري" عندما يقوم بفعل ما، كالقراءة أو السرقة أو التنظيف، مشاهدة الطيور أو الكذب، التسوق أو تصفح الفيسبوك أو حتى الأكل، بشكل متكرر وملح، ينم عن كون الشخص لا يتمتع بالسيطرة الكاملة على تصرفاته.

تتنامى الأدلة العلمة التي تؤكد كون التصرفات القهرية استجابة للقلق. فنحن نتمسك بأي سلوك قد يريحنا بمجرد منحنا وهم السيطرة. وتحت وطأة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة التي تشعرنا بعدم إمكانية السيطرة عليها، كأنها موجات بحر عاصفة.. نحاول أن نتشبث بأي شيء يمكن أن يعيد لنا إحساس المَنْعَة والسيطرة.

 

كنت دائما ما أنظر إلى التصرفات القهرية الشديدة التي تصل لدرجة التأثير على طبيعة حياة المصاب، باعتبارها شيء غريب.. بل ومخيف تقريبا. ولكن خلال إجرائي لهذا البحث، حدث لي شيئان: أولهما؛ أنني عندما تسنى لي القرب من الأشخاص المصابين، لم يبدُ لي سلوكهم غير منطقي على الإطلاق، بل بدا الأمر وكأنه استجابة مفهومة لإحساسهم بالقلق، الذي قد يلتهمهم أحياء إن لم يستجيبوا له بهذه التصرفات.

وثانيا؛ أدركت أنه على الرغم من أن الأشخاص ذوي التصرفات القهرية شديدة الحدة يبدون غريبي الأطوار؛ إلا أن هذا القلق الذي يدفعهم لهذه الدرجة من الحدة مألوف ومعتاد لدينا كلنا، ويولِّد لدينا أيضًا أنواعًا أقل وطأة من التصرفات القهرية. فمحاولة التغلب على القلق من خلال أنشطة محددة، هو نزعة قديمة وعميقة لدى أبناء الجنس البشري.

خلال أي سنة، يعاني 1% من البشر من اضطراب الوسواس القهري OCD. بل إن نسبة أكبر من البشر يجدون أنفسهم في قبضة تصرف قهري شديد التأثير، ينقصه القليل كي يتحول إلى اضطراب عقلي. في الحقيقة؛ بعض السلوكيات القهرية يسهل تبنيها وتساعدنا على الاستمرار في الحياة أو أداء وظائفنا بشكل أكثر فعالية.

مثل العديد من البشر، من الممكن أن تشعر بدافع قهري لفتح هاتفك الذكي بمجرد الاستيقاظ من النوم صباحًا. ومن حسن الحظ أن عددا متزايدا من الخبراء، صاروا قادرين على التمييز بنجاح بين حالات ثلاث متشابهة: الإدمان، وضعف التحكم في الاندفاعات اللحظية، والتصرفات القهرية.

الإدمان يبدأ بسعادة خاطفة ممتزجة بشهوة المخاطرة. كالمقامرة أو شرب الخمر. هي أشياء ممتعة، لكنها تعرضك لقدر من الخطورة. بينما الاندفاعات اللحظية تتضمن القيام بفعل ما بدون تخطيط أو حتى تفكير مسبق، مدفوعة بحاجة ملحة للحصول على ابتهاج فوري.

أما على النقيض.. فالتصرفات القهرية ما هي إلا محاولات لتفادي النتائج غير السارة. إنها سلوكيات تكرارية ننخرط فيها بهدف التخفيف من القلق الناجم عن احتمالية وقوع الآثار السلبية. لكن التصرف نفسه غالبا ما يكون مزعجا، أو على الأقل ليس محببا، خاصة بعد مرات عديدة من تكراره.

 أبسط أشكال القلق، هو إلحاح فكرة: "إذا لم أفعل أفعل كذا؛ شيء فظيع سيحدث": مثلا إذا لم أفحص تاريخ تصفح الإنترنت عند خطيبي فلن أعرف إذا ما كان يخونني أم لا، أو إذا لم أضع نظاما مقدسا لترتيب دولابي؛ فستبتلع الفوضى منزلي.

خلف كل تصرف قهري؛ رغبة في تفادي ما يسبب لك ألما أو قلقا. وهي ليست بالضرورة اضطرابا عقليا. من الممكن أن تصنف بعض تلك التصرفات كذلك، وأولئك الواقعون في براثن تلك الأنواع يستحقون أن يتم تشخيصهم ومساعدتهم. لكن العديد منها ما هي إلا تعبير عن احتياجات نفسية نشعر بها كلنا، وهي أن نكون في سلام نفسي وتحكم ذاتي، وأن نشعر بالارتباط والأهمية. وإذا كانت هذه الأشياء أمراضا عقلية.. فكلنا إذن مجانين.


محررة علمية، تكتب في العديد من المجلات والمنصات الصحفية والمتخصصة. وباحثة مهتمة بالعلوم العصبية والنفسية، ولها العديد من الكتب في هذا المجال.

برجاء ملاحظة أن المؤلفة ليست طبيبة وغير متخصصة في المعالجة النفسية، وهذا المقال مجرد رؤية اجتهادية الهدف منها هو تسليط الضوء على مسألة التصرفات القهرية (compulsions) من زاوية مختلفة، وليس سردًا علميًا متخصصًا عن مرض اضطراب الوسواس القهري OCD.