تصميم: أحمد بلال - المنصة
الحب والتواصل في زمن الموبايلات

أزمنة الحب بين أجيال الهواتف

منشور السبت 27 أبريل 2024

يعرض عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925 - 2017) في كتابه الحب السائل حالة "السيولة" التي تسم علاقات الحب في عصرنا ما بعد الحداثي، مقارنة بالحب الصلب ابن مرحلة الحداثة الصلبة، التي كانت تعد المحبين بحبٍّ وفيٍّ طويل الأجل، لا ينهيه إلا الموت.

هذا الحب المؤقت، الذي يصفه باومان بالهشاشة، لا يعد بشيء، ولا يحمل أي أمل في مستقبل يمكن أن تنبني عليه أحلام المحبين، أو العلاقات بين البشر بشكل عام، لتكون حافزًا لهم على التشارك وتحمل آلام العلاقات الإنسانية، وحضور "الآخر" في حياتهم. كأنَّ هذه العلاقات أصبح لها مركز خارجها، يشكِّلها ويسيطر عليها، وليس أصحاب تجربة الحب نفسها.  

داخل ما نعيشه من تجارب ورموز الحب السائل، ينتقي باومان الموبايل كأحد شواهده في الحياة اليومية، عندما يستغني الفرد عن العلاقات الحميمة وصلات القرابة، أو تستغني هذه العلاقات عنه، بفعل التقدم التكنولوجي؛ ويستبدل بها حضوره الدائم على الشبكة الهشة للاتصالات، بقائمة أخرى للمشاركين الخفيين.

فما يحفظ له وجوده واتصاله بالعالم، وسط حركة السيولة أو التنقل الدائم لأصحابها، هو هذا الموبايل الصغير، وهذه الشبكة التي يسير خلالها.

"تبرق رسالة على شاشة الهاتف، وتتلهف بشدة على رسالة أخرى، أصابعك مشغولة دائمًا، تضغط المفاتيح، تتصل بأرقام جديدة، ترد على المكالمات أو تكتب رسائل بنفسك. تظل متصلًا حتى وإن كنت في تنقل دائم، وحتى إن كان جميع المرسلين والمستقبلين الخفيين في تنقل دائم، كل إلى حال سبيله، فالهواتف النقالة صُنعت من أجل من هم في تنقل دائم".

أصبح التنقل الدائم يصوغ حياتنا وأدواتنا واختراعاتنا، بل وأيضًا أشكال علاقاتنا، ففي النهاية هي علاقات مؤقتة، خاضعة للاستهلاك الكمي، تبعًا لبورصة الاستهلاك التجاري المسيطرة التي تقيس كل ما هو لا محسوس بما هو محسوس. يخاطب باومان هذا الفرد الغارق في أوهام الشبكة الهشة ويشرح له مدى سيطرة هذا الجهاز على حياته.

"إنك لن تدع هاتفك النقال يغيب عن عينيك فإذا ما خرجت لممارسة رياضة الجري، فإن ملابس الرياضة مجهزة بجيب خاص لهاتفك، وأنت لن تخرج بهذا الجيب فارغًا مثلما لا تخرج للجري من دون الحذاء الرياضي. فلا مكان تذهب إليه من دون هاتفك. اللا مكان في واقع الأمر هو المكان من دون الهاتف".

نفقد المكان لو نفد الرصيد

هذا الموبايل الذي اختُرع ليتماشى مع هذه السيولة والتنقل، بعكس هواتفنا القديمة التي كانت مزروعة كشجرة جميز داخل صالة البيت، أصبح يتنقل معنا في كل مكان، بل ويرسم لنا حدود الفضاء، أو المكان الواسع الذي نرى أنفسنا داخله، بعدد من في قوائم اتصالاتنا عبر هذه الشبكة الهشة التي تضمنا معًا. بل أصبح هو المحدد للمكان لو انفصلنا عنه، أو ضاع، أو نفد الشحن أو الرصيد. كلها أمور استهلاكية وليست قدَرية ولكنها اكتسبت قوة القدَر، أن تفقدنا بوصلتنا وتجعلنا تائهين، فاقدين علاقتنا بالمكان.

في الثمانينيات كان تليفون الجيران أو البقال هو الحل تكشف أمامهم خصوصيتك للفوز بهذه المكالمة المهمة

هذه الآلة الصغيرة كانت من شواهد هشاشة علاقتنا بالمكان ككل لا فقط علاقتنا الهشة بالآخر، فالهشاشة تنتشر وتتوزع وتغطي مساحة واسعة من الاختراعات والسلوكيات والمشاعر، ولكن يظل أيضًا السؤال، هل في يوم ما كانت هذه الهشاشة غائبة، حتى قبل عصور السيولة وقرون الحداثة الصلبة؟ هل كان هناك إنسان صلب يصنع علاقاته بعرق جبينه وبشكل يدوي؟

أعتقد أنَّ لكل عصر هشاشته، وعنصره الرقمي، وآلامه، وسعاداته المسروقة.

الوسيط القديم بين المحبين

حتى التسعينيات، كان التليفون الأرضي هو الوسيط بين المحبين، الأيقونة التى يعلقون عليها أنظارهم، يشغل مكانًا مركزيًا ثابتًا في كل بيت، يسهل على الجميع استعماله.

في فيلم الوسادة الخالية، كان التليفون من النوع الذى تمتد أسلاكه لتصل غرف النوم. تقضي البطلة شطرًا كبيرًا من ليلها تتحدث مع حبيبها. كان الأب في كلتا العائلتين متفهمًا، يسمح بالحرية لأولاده، ولحركة التليفون في البيت.

غير أنَّ التليفون في أفلام أخرى، كان يشغل مكان الرقابة في البيت، فعبره يتم انتقال الخارج إلى الداخل، وبالعكس، وهو ما يشكل تهديدًا للنظام. أحيانًا كان يوضع عليه قفل مثل تليفونات المقاهي، حتى لا يتمكن أحد من استخدامه في غياب الأب.

من هذا المكان المركزي، كانت أي مكالمة يجريها أحد أفراد العائلة تُبثُّ مباشرة على الهواء لتصل لأسماع الجميع في غرفهم، فالصوت العالي أحد دلائل البراءة، أما الصوت الخفيض فيثير الريبة.

كانت صالة البيت تشبه غرفة تحرير الأخبار كما في الجرائد، كل شيء على عينك يا تاجر. يديرها ديسك مركزي يحتكر هذا النوع من الحداثة، والأنباء المهمة التي تخرج من هذا المركز لتنتشر في أرجاء البيت، حاملة الأخبار الحزينة أو الفرِحة أو العادية.

كل شيء مؤقت

ولكن يظل السؤال أيضًا، من الذي منحنا هذا الإحساس بالأبدية، وجعلنا نعاين تقهقرنا في علاقتنا بالزمن، كما يفعل باومان في كتابه، حتى وصلت لهذا الحد من "التأقيت"، بالرغم من أنَّ الموت كان حاضرًا منذ البداية؟ كأننا كنا نقاوم بأثر رجعي هذا الإحساس المؤقت الذي سيعبر بحضارتنا الإنسانية.  لماذا لم نكتشف وجودنا الفاني والمؤقت وجعلناه عنوانًا لحداثتنا، وعلاقاتنا، ولحياتنا بشكل عام؟

ربما كانت هناك حكمة، أو اختيار حر، من ناحيتنا، في التغافل عن نسبية الزمن، وكونه عابرًا، والتغطية على لحظة الفناء، بهذا الخلود وهذه الأبدية التي جعلتنا نعاين ونرثي، كما يفعل باومان في كتابه، سقوطنا عصرًا بعد آخر، وسنة بعد أخرى، سواء كانت الأبدية في الحياة أو بعد الموت، فكلاهما يعوض هذا الفراغ الذي يحيط بنا، في الحياة وبعد الموت.

هل كثافة حضور الموت وإلغازه في الثقافة الإنسانية بشكل عام هو الذي جعلنا ننظر لعلاقاتنا ولحداثتنا بهذه النظرة الزمنية اللامحدودة؟ كأننا نواجه الحداثة نفسها، الصلبة أو السائلة، بالإيمان، أو بناتج لحظة الصدام/الرهان على لا محدودية الزمن أمام حقيقته المؤقتة. ربما كنا نواجه الحداثة، بوصفها مواجهة مع الغيب، بما يشكل نقيضًا لها.

كان الزمن يمر بطيئًا

في عقدي السبعينيات والثمانينيات كانت الأعطال التليفونية تمتد لشهور فتزيد المسافة بُعدَ المحبين. كان الزمن بينهم وقتها يمر بطيئًا، ربما بدون إدراك كلي له، كما يشعر الكلب في غياب أصحابه. ربما كانت هناك روابط أخرى تنسيك المفقود منها.

وقتها كان تليفون الجيران أو بقال الحي هو الحل، فيمكن أن تكشف أمامهم جزءًا من خصوصيتك في سبيل الفوز بهذه المكالمة المهمة. في كل الأحوال هناك خصوصية مفتقدة ومحاطة بالأسلاك الشائكة.

كانت المسافات بين المحبين بعيدة ومليئة بالعوائق والصدفة وسوء الفهم

كان الزمن متاحًا وفضفاضًا، لا يقاس بالدقائق والقوانين الكمية، وفيًا بالفرح واليأس معًا، لا يُشعِرك بالنهاية ولا بالبداية حسب قوانين هذا الزمان. ربما هو الزمن الأمومي الشامل الذي كان يرعانا من جهة واحدة، وننساه لأننا نتحرك ونحب في ظل هذه الحماية المخملية، قبل أن تتلاشى وتعرينا الحياة.

ربما الخيال، والتلاحم اليومي بين الناس، وصلات القربى الحميمة، جميعها غطت على تسرب الزمن واللا مبالاة به من ناحيتنا. كأننا لا بد أن ننكش أطراف الزمن الهلامية، كالحلزون داخل المحار، ليتحرك، ويوقظنا معه.

شارلي شابلن في مشهد من فيلم "الأزمنة الحديثة"

تلك العدة السوداء والقرص المعدني ذو الصوت المحشرج وهو يدور كآلة الزمن في فيلم شارلي شابلن، الأزمنة الحديثة. كان الزمن وقتها يُصنع يدويًا عبر دورات واضحة تفك شفرة الآخر.

لم تكن خصومتنا واضحة مع الزمن، بل مع انعكاسه على حياتنا وتوقفه على عتبات خيالنا كأنه لا يسير، فكل ساعات العالم كانت مضبوطة على يأسنا وعدميتنا المبكرة، وهشاشتنا الأقوى من هشاشة شبكة الاتصالات.

داخل مخزن محل البقالة

كان أحد أصدقائي الدونجوانات في السبعينيات يكلم حبيباته المتعددات من مخزن بقال الحي الصعيدي، الذي يشغل الجزء الخلفي من المحل، بعيدًا عن أعين وآذان الناس. يقف وسط رائحة الجاز السائب وصفائح العسل الأسود والسمن الصناعي وقوالب الزبدة، وربما تؤانسه بعض الفئران من مخابئها.

كان مُحرمًا على تليفونات البيوت هذا الفعل، خصوصًا في حضور الأب، لا يمارسه أحدنا إلا في بيوت أخرى، أو في الأماكن العامة التي يغيب عنها الأب. كأنَّ البيوت، والأماكن، تتقاسم فيما بينها هذه الفترات من الغياب، والحرية المسروقة.

في العطلات الصيفية لسنوات الجامعة عند عودتي ليلًا للبيت، كنت أفرح لو وجدت تلك الورقة البيضاء، بجانب العدة السوداء، التي كتبها أبي أو أمي تنبئني بأسماء المتصلين والمتصلات أثناء غيابي، ومعها وعد بلقاء قريب. كانت المسافات بين المحبين بعيدة ومليئة بالعوائق والصدفة وسوء الفهم.

كان لقاء الأصدقاء يتم عبر هذه التقاطعات اللا زمنية وبدون ترتيب مسبق، كأننا متفقون، دون قصد، على ضبط ساعات أجسادنا على التوقيتات التي اتخذناها، والمكان الذي نلتقي فيه. فقد كان للبيت والمقهى والساحة والميدان قداستهم وأهميتهم كمُجمِّعي الفرقاء وممثلي المكان بمعناه التقليدي، قبل أن يتكثف كالرماد ليغطي مساحة حداد لا محددة على الشبكة.

اختلف الوضع الآن، فعبر الموبايل لم يعد لتليفون البيت تلك الأهمية التي كانت من قبل. فقَدَ سلطته التي استمرت للتسعينيات. لم يعد مكانه نقطة مركزية في البيت تدور حوله الأنظار وترهف له الآذان. اختصرت المسافات، وانتقل البيت وأسراره للخارج. 

لم يعد هناك مكان واحد للإرسال والاستقبال، ولم يعد للحبيبة موقع محدد تتحدث منه، كالبيت أو غرفة النوم أو تليفون البقال أو صالة الجيران. فهي تشغل أحد ترددات تلك الشبكة العملاقة التى يشاركك فيها الملايين.

قرَّب الموبايل المسافات وغير من طبيعة المكان، ولكنَّ سوء الفهم بين الأحبة لا يزال موجودًا.

أمام نهر زمن بورخيس

الآن نقف في الشرفة العريضة أمام نهر الزمن، نراقب سيلانه المستمر، لحظة بلحظة، كما في إحدى قصائد الشاعر الأرجنتيني بورخيس، الذي يشبِّه فيها الزمن بمياه النهر الجارية، بدون أن تطرف أعيننا لحظة بعيدًا عنه، أو عما يحدث بعيدًا عنا، بلا سلطة إلا سلطة التكنولوجيا التي استُبدلت بها سلطة الأب، مثلما استُبدلت بصالة التحرير لبيوتنا هذا السمينار الكوني الذي نحن طرف فيه، حتى ولو لم نشارك سوى بالصمت، الذي يشكل نهرًا آخر موازيًا لنهر الزمن.

نقل لي أحد الأصدقاء هذه الطرفة عن زوجة أحد المخرجين الطليعيين عند بداية ظهور الموبايل، كانت تتصل بزوجها تسأله عن مكانه على هذه الشبكة العملاقة، فقال لها إنه في التاكسي، فردت عليه غير مطمئنة لكلامه "طيب سمَّعني صوت السواق".

أيضًا، كان أحدهم يسير في الشارع وهو يُحدِّث حبيبته بصوت مرتفع يصل لحد الصراخ، ثم انخرط في البكاء غير عابئ بمن ينظر له. بالموبايل نحن جزء من الفجيعة التي تُبث على الهواء مباشرة. ربما كان هذا الحبيب يرى نفسه سائرًا وسط متاهة تلك الشبكة، بحثًا عن حبيبته التي عاجلته بطعنة مباشرة في القلب.