صلاح الدين

عبد الناصر فى قاعة السينما

منشور الأحد 21 مايو 2017

 

أثار حوار الكاتب يوسف زيدان التلفزيوني الأخير لغطًا وجدلًا كبيرين حول شخصية صلاح الدين الأيوبى وفيلم "الناصر صلاح الدين"، كان زيدان كتب مقالًا بالمعنى نفسه منذ سنوات بعنوان "الناصر أحمد مظهر" مُتَهِمًا الفيلم باختلاق شخصية وهمية لصلاح الدين بغرض خدمة المشروع القومى الناصري، وعاد هذه المرة ليضيف أن الفيلم قد صُنع بتعليمات وتسهيلات من عبد الناصر نفسه، فقام يوسف السباعى بكتابة قصة الفيلم، وأعد نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوى السيناريو والحوار، كما شاركت مجموعات من القوات المسلحة المصرية فى مشاهد المعارك، وهو ما دَفَع خالد يوسف لكتابة مقال للرد على زيدان نافيًا أن يكون يوسف شاهين قد تلقى أمرًا بصناعة الفيلم.

ربما لم يأمر عبد الناصر شاهين أو آسيا بإنتاج الفيلم الشهير، إلا أن علاقة عبد الناصر بالسينما ممتدة وقوية، ورغم انشغاله بالسياسة والحروب والسوفيت والأمريكان، فقائمة الأفلام التي عُرضت عليه قبل عرضها سينمائيًا تبدو طويلة. دفعه حبه للسينما إلى اقتناء أجهزة لعرض الأفلام فى منزله وتخصيص حجرة مستقلة للسينما، حيث تقول زوجته الراحلة تحية عبد الناصر أنه كان يعتبر مشاهدة السينما هو وقت راحته، وأثناء المشاهدة كانت تُرسل له التقارير، فيستعمل الولاعة في قراءتها، وإن كان الأمر بسيطًا، يكتب رده أثناء مشاهدته للفيلم، أما فى الأمور الأكثر تعقيدًا، يضطر إلى العودة إلى مكتبه. دفعه شغفه بالسينما أيضًا للقيام بدور الرقيب أحيانًا، وبدا فى أغلب الأوقات رقيبًا متفتحًا ومستنيرًا. بالطبع كان ذلك الدور متاحًا لعبد الناصر في ظل نظام حكم الفرد الذى ساد حينها –وهو ليس بعيدًا عنا الآن- أو حكم الفردين (ناصر وعامر) إن شئنا الدقة.

 بعد انتهاء العدوان الثلاثى على مصر، وتحديدًا فى ديسمبر/كانون الأول عام 1956، اجتمع جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ومعهما أنور السادات بوحش الشاشة فريد شوقى، وطلبوا منه أن يصنع فيلمًا يُخلِّد فيه معركة العدوان الثلاثى، فطار فريد إلى عز الدين ذو الفقار الذي كتب سيناريو فيلم "بورسعيد.. المدينة الباسلة" وأنتجه فريد شوقى عبر شركته التى أسماها "أفلام العهد الجديد". تصاحب مقدمة الفيلم أغنية "الله أكبر فوق كيد المعتدي"، وتبدأ أحداثه بخطاب عبد الناصر لتأميم القناة. قبيل عرض الفيلم, بعث فريد بنسخة منه إلى مكتب الرئيس مصحوبة بخطاب يهديه فيه الفيلم قائلًا: "أرجو أن أكون قد أديت بهذا الفيلم بعضًا مما ينبغي أن أقوم به كمواطن مصري يؤمن بالحرية وحق الشعوب في أن تعيش حرة كريمة آمنة".

 ربما فى الوقت ذاته أدرك عبد الناصر ورفاقه أهمية السينما كوسيلة للتواصل مع الشعب، ونَتَج عن ذلك قرارات مهمة، أولها إنشاء مؤسسة دعم السينما التابعة لوزارة الإرشاد القومى في عام 1957، لدعم إنتاج الأفلام وتوزيعها داخليًا وخارجيًا، تبعها تأسيس معهد السينما في 1959، وتم تعيين محمد كريم كأول عميد له، ثم تأميم عدد من شركات الإنتاج السينمائي، أشهرها شركة مصر للتمثيل والسينما. أنتجت مؤسسة السينما خلال فترة نشاطها التى استمرت حتى عام 1973 حوالى 150 فيلمًا من أبرز أفلام السينما المصرية، قبل أن يتم إنهاء نشاط المؤسسة، إذ سادت بعدها فترة طويلة من تخبط صناعة السينما.

 

فيلم

لم يكن هذا أول احتكاك لرجال يوليو بالسينما، ففى عام 1952، بدأ الإعداد لفيلم "الله معنا"، كتب قصته إحسان عبد القدوس الذي كان ما زال مقربًا من الثورة حينها، وقام أحمد بدرخان بإعداده للسينما بشكل أبرز دور محمد نجيب كقائد للثورة، وتم اختيار الممثل المسرحى البارز زكى طليمات لأداء دوره. تأخر عرض الفيلم بأوامر الرقابة لثلاثة أعوام، البعض يدّعي أنه مُنع بسبب الخوف من التعاطف مع الملك فاروق، والبعض أرجع منعه إلى غضب الضباط الشباب من تصدير نجيب كقائد حقيقى للحركة، كان الفيلم من بطولة فاتن حمامة وعماد حمدى وماجدة ومحمود المليجي وشكري سرحان، ولكن بدون زكى طليمات الذى حُذف دوره تمامًا، سمحت الرقابة بعرض الفيلم فى 1955، وحضر عبد الناصر عرضه الأول بسينما ريفولى فى وسط البلد.

 بالطبع جميعنا يذكر أفلام "رد قلبى"، "غروب وشروق"، "المماليك"، وأيضًا "الناصر صلاح الدين"، إضافة إلى الأفلام التى روّجت لبعض الأفكار التى تبنتها الثورة مثل "الأيدي الناعمة"، و"مراتي مدير عام"، "جميلة بوحريد"، "للرجال فقط"، إلخ... وكما هو واضح قام أحمد مظهر ببطولة عدد كبير مما قد نطلق عليها "أفلام الثورة". كان مظهر من ضباط سلاح الفرسان, زميلًا لعبد الناصر فى الدفعة نفسها وقريبا من تنظيم الضباط الأحرار, وقد قام قبيل الثورة بدور فى فيلم "ظهور الإسلام" إذ أدى شخصية "أبي جهل" بعد أن استصدر تصريحًا من قياداته فى الجيش للتمثيل فى السينما. بعد فيلمه الأول بسبعة أعوام عُرض عليه المشاركة فى بطولة فيلم "رد قلبي" فأبدى ترحيبه بالعودة إلى الكاميرات مرة أخرى. كان التصوير قد بدأ فعلًا قبل أن يحصل على موافقة قيادته, فشرع فى تأدية مشاهده واثقًا من الحصول على التصريح فى ظل حُكم أصدقائه. فوجيء مظهر برفض طلبه، فلجأ إلى زميله الرئيس الذى شجعه على التفرغ للسينما مؤكدًا أن دوره فى التمثيل لا يقل عن دوره فى الجيش.

 

جمال عبد الناصر وأحمد مظهر في الكلية الحربية

شيء من الخوف

من ضمن مشاكل الحاكم الفرد العديدة هى الحاشية التى تنافقه وتحذر من غضبه فتصبح مَلَكية أكثر من الملك وناصرية أكثر من ناصر, إذ تدخل الأخير فى مرات عديدة لتمرير أفلام قامت الرقابة أو الاتحاد الاشتراكى أو أحد المتنفذين فى الدولة بمنعها. أشهر تلك الحوادث كانت مع فيلم "شيء من الخوف" لحسين كمال، وهو الفيلم الذى منعته الرقابة بحجة أن المقصود بعتريس هو عبد الناصر، فتدخل ناصر وطلب مشاهدة الفيلم فى عرض خاص، ثم علّق بعد انتهاء العرض قائلًا إنه ليس عتريس، والبلد لا تحكمها عصابة، أجاز عبد الناصر الفيلم وأضاف "أنا لو زى عتريس، أستاهل الحرق".

اعترضت الرقابة أيضًا على ثانى أفلام توفيق صالح "صراع الأبطال" والذى قام ببطولته شكرى سرحان، ورغم أنه لا يتناول أية أفكار سياسية ولا ينتقد النظام أو أيًا من مؤسسات الدولة، إلا أن الرقابة رأت أنه يشوه صورة الفقراء فى القرى ويصمهم بالجهل والتخلف، مسيئًا إلى سمعة مصر، تلك التهمة المطاطة التى ستطول أفلامًا مثل "أحلام هند وكاميليا" فى الثمانينيات، و"حين ميسرة" فى الألفينات، والعشرات من الأفلام فى كل حقبة وزمن. عُرض "صراع الأبطال" على عبد الناصر فأبدى إعجابًا كبيرًا بالفيلم وقال "لو كل الأفلام اللى هتنتجها مؤسسة السينما بالشكل دا، يبقى مش خسارة الفلوس اللى بندفعها". إلا أن هذه الرسالة لم تبلغ توفيق صالح حتى موت عبد الناصر وظلت أفلامه تعاني رقابيًا على مر السنين. ففي عام 1968 أخرج فيلمه الأجرأ "المتمردون"، وهو فيلم يلقي رسالة صريحة لا مواربة فيها عن أهمية الديموقراطية وضرورتها برمزية لا تخفى على ذي عقل، بالطبع منعته الرقابة، دافع توفيق عن فيلمه بأن أحداثه تدور قبيل الثورة، فتدخل الرئيس مرة أخرى لإجازته، وكان الفيلم هذا أيضًا من بطولة شكرى سرحان.

 

فيلم

فى العام التالى طلبت اللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكي، وفى رواية أخرى وزير الداخلية شعراوى جمعة، حذف وتغيير ستة عشر مشهدًا من فيلم توفيق صالح الخامس "يوميات نائب في الأرياف" عن رواية توفيق الحكيم وسيناريو ألفريد فرج وتوفيق صالح، وذلك بحجة الإساءة لجهاز الشرطة وأفراده، رغم أن الأحداث تدور فى الثلاثينيات. كان ناصر يكن تقديرًا خاصًا وحبًا جمًا لتوفيق الحكيم, ويرجع ذلك إلى تأثره الكبير بروايته "عودة الروح" وشعارها "الكل فى واحد"، ولذلك أمر عبد الناصر بإجازة الفيلم دون التدخل فيه. فى الوقت ذاته، قامت الشرطة بمحاصرة القاعة التى شهدت العرض الأول لفيلم "القضية 68" وتعرضت لمخرجه صلاح أبو سيف حيث كان الفيلم ينتقد الاتحاد الاشتراكي والنظام السياسي وقتها بوضوح وصراحة، ولكن كالعادة تدخل عبد الناصر، وأمر بالسماح بعرض الفيلم دون مضايقات.

فى نهاية الستينيات منعت الرقابة فيلم "ميرامار" لكمال الشيخ وعن رواية نجيب محفوظ, كان أبرز اعتراضات الرقابة بسبب جملة "طظ فى الاتحاد الاشتراكي" التى جاءت على لسان يوسف وهبي فى دور الإقطاعى السابق طلبه مرزوق. لجأ صناع الفيلم إلى وكيل الوزارة والوزير ولكن الجميع أبلغوهم أن الحل الوحيد عند الرئيس، وعبر السيد سامي شرف سكرتير الرئيس, أرسل القائمون على الفيلم نسخة إلى بيت عبد الناصر فى منشية البكري، وظلوا على اتصال بمحمود الجيار وسامي شرف يوميًا للاطمئنان على مصير فيلمهم، وبكل يوم يخبرهم أحدهما أن الرئيس شاهد فصلًا اليوم ثم انشغل، أو شاهد جزءًا ثم أصابته آلام المرض، أو أنه سيوفد السادات لمشاهدة الفيلم، حتى أجاز الفيلم أخيرًا.

 رغم ما واجهته هذه الأفلام من عقبات إلا أن أغلبها كان من إنتاج المؤسسة العامة للسينما التابعة للحكومة, تحديدًا "شيء من الخوف"، و"يوميات نائب في الأرياف"، و"القضية 68" و"ميرامار". ويقول الناقد الراحل سمير فريد إنه منذ وافق جمال عبد الناصر على عرض "الله معنا" وحتى نهاية السبعينيات لم يُمنع أى فيلم مصرى فعليًا من العرض رغم تلك التدخلات والأزمات.

***

 

فيلم

منذ شهور قليلة أصدرت الرقابة قرارا بمنع عرض فيلم "18 يوم"، المهتم بالتأريخ لثورة يناير، نهائيًا بحجة احتوائه على ألفاظ بذيئة خادشة للحياء. تم إنتاج الفيلم الذى شارك في صناعته مجموعة من أبرز السينمائيين المصريين منذ حوالي سبعة أعوام، إلا أنه لم يعرض في مصر إلا بمهرجان الإسماعيلية السينمائي، بالإضافة لعدد من المحافل العالمية أبرزها مهرجان كان. قبلها قام رئيس الوزراء السابق بالتدخل شخصيًا لإيقاف عرض فيلم هيفاء وهبي، وكذلك تم منع مسلسل "أهل إسكندرية" من تأليف بلال فضل وإخراج خيرى بشارة منذ ثلاثة أعوام وحتى يومنا هذا.

في 2015، طالب الرئيس السيسي يسرا وأحمد السقا بإنتاج أفلام ومسلسلات تفيد الناس وتتصدى لتوعيتهم. وفي الأسبوع الماضي نشرت بعض المواقع الإخبارية خبرًا مفاده أن وحيد حامد انتهى من كتابة فيلم عن ثورة يناير وصولًا إلى 30 يونيو. يقول الخبر إن عددًا من كبار النجوم سيشاركون بالفيلم، نبيل الحلفاوي في دور المشير طنطاوي، وأحمد رزق في دور محمد مرسي، وأحمد السقا في دور عبد الفتاح السيسي.

لن نعلم الآن وربما لسنين طويلة حقيقة ما جرى في كواليس التحضير للفيلم – إن صح الخبر -، ولن نعلم كيف تم اختيار الأبطال وهل كان للرئيس دخلًا في تفضيل بعض الأسماء أو رفض أخرى، فنحن لا نعرف تحديدًا علاقته بالسينما أو الأدب أو أي من الفنون، هل يعرف توفيق صالح أو صلاح أبو سيف؟ هل قرأ "عودة الروح" أو "ميرامار"؟ هل سمع مثلًا بمسرحية "الفرافير"؟  

***

ربما تأثر شاهين بشخصية عبد الناصر وأسقط انطباعاته عنه في صورة صلاح الدين, وربما تأثر إحسان عبد القدوس وبدرخان بشخصيات الضباط الأحرار دون تصريح فى فيلمهما "الله معنا"، إلا أن تجسيد شخصية الرئيس بوضوح فى فيلم يتم إنتاجه أثناء فترة حكمه ستكون السابقة الأولى من نوعها فى مصر، ولا تذكرنى إلا بالفيلم العراقي "الأيام الطويلة" الذي أخرجه توفيق صالح عن حياة صدام حسين في ظل حكم الأخير وتحت إشرافه، ومشروع فيلم القذافي الذي لم يكتمل حتى مقتله.