ملصق الفيلمين

جريمة في جزيرة الماعز.. أصل وصورتان

منشور الخميس 19 أكتوبر 2017

في مطلع التسعينيات، وبعد أعوام معدودة من عرض فيلمه "الجوع" وما أثاره من ضجة وأسئلة حول كونه مقتبسًا من "الحرافيش" أم لا، قرر المخرج علي بدرخان أن يكون فيلمه الجديد مأخوذًا عن مسرحية "جريمة فى جزيرة الماعز" للمؤلف الإيطالي أوجو بيتي. لجأ بدرخان إلى السيناريست الشهير وحيد حامد وعرض عليه تحويل النص الإيطالى إلى سيناريو سينمائى، إلا أن الأمر انتهى بمعركة كلامية حامية على صفحات الجرائد. فبعدما قام وحيد حامد بكتابة معالجة للمسرحية إياها، لم يرض بدرخان عن رؤيته، وسعى كل منهما إلى إثبات صحة موقفه.

في ذلك الوقت عاد بدرخان ليكتب السيناريو بنفسه كما فعل من قبل في "الجوع"، بالتعاون مع مساعده عصام علي بالإضافة إلى محمد شرشر، بينما دفع وحيد بسيناريو فيلمه إلى المخرج الذي دلل على حجم موهبته الكبيرة في أفلامه القليلة الأولى، خيري بشارة.

ضم بدرخان كعادته سعاد حسنى إلى طاقم فيلمه، بينما لجأ الفريق المنافس إلى نادية الجندي التي احتفظت لنفسها بلقب نجمة الجماهير بعد صراع طويل مع نبيلة عبيد رغم افتقاد الأولى إلى أية موهبة تُذكر. حشد كل مخرج ممثليه وشرعا فى السباق، حاول كل منهما أن ينهي فيلمه قبل الآخر، حتى كادا يُعرضا في وقت واحد، إلا أن "رغبة متوحشة"، نسخة خيري بشارة ووحيد حامد، سبق "الراعي والنساء" بأشهر قليلة، حيث عُرض الأول فى صيف 1991، بالتزامن مع عرض فيلم آخر لوحيد حامد وهو "اللعب مع الكبار"، بينما عُرض "الراعى والنساء" في الخريف.

***

على خلاف علي بدرخان الذي أخرج ستة أفلام –من أصل عشرة– عن أصول روائية: "أهل القمة"، "الكرنك"، "الجوع" عن روايات نجيب محفوظ، إضافة إلى "شفيقة ومتولي" المأخوذ عن مسرحية لشوقي عبد الحكيم مستلهمة من القصة الشعبية، و"الرغبة" المأخوذ عن مسرحية لتينيسي ويليامز، وكذلك "الراعى والنساء". وبذلك يصبح علي بدرخان هو أكثر مخرجي السبعينيات وما تلاها اهتمامًا بتحويل النصوص الأدبية إلى شاشة السينما. ولذا ليس من المستغرب أن نجد بدرخان أكثر حرصًا على الحفاظ على النص الأدبي لأوجو بيتي، من نظيره خيري بشارة والكاتب وحيد حامد.

يعتبر "بيتي" واحدًا من أهم كتاب المسرح الإيطاليين، ويلقبه البعض –في شيء من المبالغة– بكافكا الإيطالي. ورغم الاختلافات العديدة بين الأصل والصورتين إلا أن نسخة "الراعي والنساء" دون شك هي الأقرب إلى المسرحية الإيطالية التي نُشرت للمرة الأولى في منتصف الأربعينيات، وترجمها إلى العربية سعد أردش في الثمانينيات، حتى أن بعض مشاهد فيلم بدرخان تكاد تكون متطابقة مع الفصلين الأولين، مقتبسة العديد من الجمل الحوارية بشكل حرفي، قبل أن يُعيد بدرخان تشكيل النهاية.

أما وحيد حامد فقد قام بكتابة عدد من الأفلام عن أصول روائية: "فتوات بولاق" و"نور العيون" عن قصص نجيب محفوظ، و"الراقصة والسياسي" عن رواية إحسان عبد القدوس، ولاحقًا سيُتهم باقتباس فيلمه "النوم فى العسل" من رواية جمال الغيطانى "وقائع حارة الزعفراني"، وأخيرًا "عمارة يعقوبيان" عن رواية علاء الأسواني. أما "جزيرة الماعز" فقد اقتبسها وحيد مرتين، الأولى في "رغبة متوحشة"، والثانية بعد ما يقارب العشرين عامًا في قصة فرعية بفيلم "احكي يا شهرزاد".

في "رغبة متوحشة" يتدخل وحيد في أحداث النص الأصلي بوضوح مضيفًًا بصمته المميزة، وكان أبرز ما أضافه هو رحلة البحث عن الكنز الذي لا يعرف مكانه إلا الوافد الجديد. يستغل الغريب تلك المعرفة ليفرض وجوده بين النساء الثلاث، لتصبح قصة البحث عن الكنز هي محور فيلم وحيد حامد رغم غيابها عن النص الأصلي، وهو ما أضاف إلى الأحداث المزيد من الإثارة والتشويق، مستعرضًا شخصيات أبطاله الأربعة وما يعتمل داخلهم من مشاعر على خلفية الرحلة، بدلًا من أن يكون البحث فى نفوسهم، ودوافعهم، وشخوصهم هو وحده قلب العمل كما هو الحال في المسرحية وكذلك في "الراعي والنساء"، اللذين اهتما بإبراز مشاعر الشخصيات وصراعاتها النفسية دون اللجوء إلى قصة مثيرة ذات إيقاع لاهث مشوق، أو بلغة أخرى، قد نقول إن فيلم "رغبة متوحشة" هو ابن السينما الهوليودية، أما "الراعي والنساء" فهو أوروبى الطباع.

أعاد كل من وحيد حامد وعلي بدرخان تشكيل الشخصيات، تحديدًا شخصية الأم التي أدتها نادية الجندى في "رغبة متوحشة" في مقابل سعاد حسني في "الراعي والنساء" الذي كان آخر أفلامها، حيث بدت فيه هزيلة ومنكسرة، مكتئبة أو منطفئة، مما ناسب طبيعة الشخصية التى رسمها بدرخان على خلاف النص الأصلي، فذابت سعاد فى شخصية الأم وباتا شخصًا واحدًا. أما نادية الجندي فكانت في أقوى حالاتها رغم ضعف موهبتها، وربما نُرجع هذا التطور النسبي العابر في أدائها إلى إدارة خيري بشارة الذي حجّم من ردود أفعالها المبالغ فيها وصرخاتها ولزماتها التي ملأت بها الأفلام. ورغم التفاوت بين حالة البطلتين إلا أن المقارنة بينهما تظل دون معنى أو جدوى، فحتى هذا الوهن الظاهر على سعاد أضفى لها بُعدًا إنسانيًا وأضاف للشخصية خصوصية تمس القلوب.

ورغم فوز سعاد بجائزة التمثيل من مهرجان الإسكندرية السينمائي عن هذا الدور، لكنها ظلت تحلم ببطولة فيلم آخر أخير حتى لا تظل تلك الصورة المنكسرة المنطفئة عالقة بالأذهان. إلا أن يسرا تحكي أن السندريلا كانت تسترد عافيتها وقوتها عندما تندمج فى أداء دورها، حتى أن صفعتها لأحمد زكي في الفيلم لم تكن تناسب هيئتها الضعيف، وهو ما كررته فى اليوم ذاته بمشهد آخر مع ميرنا حتى ذهبت الأخيرة لتشتكي إلى يسرا من (طنط سعاد).

كذلك طالت التعديلات شخصية العمة التى أدتها يسرا في "الراعي والنساء"، وسهير المرشدي في "رغبة متوحشة"، وقد اتفق الفيلمان أن ينتهيا بمشهد يوحي بجنون العمة، ففي "الراعي والنساء" تجثو العمة إلى جوار جثة الوافد القتيل، مناجية إياها ومحاولة استنهاضه مجددًا، وهو ما فعلته الأم وليست العمة في المسرحية الأصلية، أما في "رغبة متوحشة"، فتنزل العمة إلى قاع البئر بجوار الغريب بعد أن قتلته الأم وتحتضن جثته بينما تسحب الأم السلم بعيدًا عنهما.

لم يكن هذا هو موضع الاتفاق الوحيد بين الفيلمين اللذين لجآ أيضًا لحذف تفاصيل حادثة القتل الواردة بالمسرحية، التي ما كانت ستبدو واقعية ولن تكون مقنعة لو تم تصويرها كما كتبها أوجو بيتي، حيث تقوم الأم في النص الأصلي بترك الرجل في قاع البئر بعد أن تسحب الحبل المُدلى إليه، تفعل ذلك بالتواطؤ مع العمة والابنة، يتركنه لمواجهة مصيره وحيدًا في القاع، وبعد يومين، عندما يعتقدن أنه مات، تدعوهما الأم للهرب قبل أن تنكشف الجريمة، ثم بعد رحيلهما تعود وحدها إلى البئر وتحاول إنقاذه وإيقاظه من سباته الأبدي وتسر له –بعد أن بات جثة هامدة- أنها استطاعت إبعاد العمة والابنة عنهما ليبقيا وحدهما ويكملا قصتهما.

أما دور الوافد الجديد فقد قام به أحمد زكي مع بدرخان، ومحمود حميدة مع خيري بشارة، ورغم فارق السن الذي لا يتعدى الأربعة أعوام بين النجمين إلا أن ظهور حميدة على الشاشات تأخر عن ظهور زكي بمدة تزيد عن الخمسة عشر عامًا، حيث كان أول ظهور سينمائي لافت لحميدة في فيلم "الإمبراطور" من بطولة أحمد زكي الذي كان بالفعل رسّخ أقدامه كواحد من أهم اللاعبين بالسينما المصرية.

في العام التالي اختار محمد خان الوجه الجديد محمود حميدة ليحل محل النجم أحمد زكي في فيلم "فارس المدينة"، وذلك بعدما تهرب الأخير من خان، فكانت أول بطولة لحميدة وكُتب على الأفيش"محمود حميدة هو فارس المدينة"، وفي أول لقاء لاحق بين خان وزكي في مكتب حسين القلا، صاح الأول "بقى هو فارس المدينة يا خان؟" وجاء هذا العام في مطلع التسعينيات ليتنافسا في أداء الشخصية ذاتها، الوافد إلى جزيرة الماعز، كل في فيلمه، هذا التنافس الذي امتد بينهما وجهًا لوجه في فيلم "الباشا" حيث فاجأ حميدة الجميع بمناطحته لأحمد زكي وربما خطف الكاميرا منه أحيانًا، وذلك قبل أن تدب بينهما الخلافات أثناء تصويرهما فيلم "الرجل الثالث" لعلي بدرخان.

رسم كلا من الفيلمين شخصية البطل بنمط مختلف عن الآخر، فرسم وحيد حامد بطله كـ (صايع) حقًا، خريج سجون ونصاب محترف، فج وواضح، دون مواربة، يصف نفسه بالنصاب دون أية مراوغة أو خجل، فظ وربما مقزز، حتى خفة ظله لا تخلو من التلميحات الجنسية. أمسك حميدة بتفاصيل الشخصية وأداها بإتقان وإقناع. أما الشخصية التي أداها أحمد زكي فكانت شخصية صايع راقي، ظريف وابن ناس، ليس غليظًا مثل حميدة الذى قد يذكرك بدور مارلون براندو في "عربة اسمها الرغبة" عن نص تنيسى ويليامز والذي سيحوله بدرخان لاحقًا لفيلم باسم "الرغبة".

***

حتى موسيقى "رغبة متوحشة" التي وضعها أحمد الصعيدى كانت موترة، عنيفة وقاسية، على عكس موسيقى راجح داوود في "الراعي والنساء" المؤثرة الرقيقة.

بشكل عام نجد أن نسخة خيرى بشارة/وحيد حامد كانت أكثر وحشية وغرائزية وقسوة وحيوانية بداية من اختيار عنوان الفيلم. ففي تلك النسخة، كان الزوج المتوفي مسجونًا لأنه جاسوس، والوافد الجديد فجًا وسليط اللسان وغليظ المشاعر، وكذلك كانت الأم قاسية وحادة، والعمة لا تسيطر عليها إلا مشاعرها الشهوانية تجاه الرجل، الثلاثة لا تجمعهم إلا عاطفتي الرغبة والطمع، الطمع الذي زاده السيناريو وضوحًا بإضافة رحلة البحث عن الكنز، وما الفرق بين الطمع والرغبة على أية حال؟ والعاطفتان اللتان تسيطران على الشخصيات الثلاث يؤججهما الحرمان ويحجمهما الخوف، وجميعها مشاعر غريزية لا تخضع إلى أية معايير أو مبادئ أخلاقية.

في تيترات "رغبة متوحشة" تقف نادية الجندى في وضع ثابت، فى صورة اقتُطعت من منتصف شريط الفيلم، تبدو وكأنها ثعلب أو فهد في وضع الاستعداد بملابس تشبه فى ألوانها جلد النمر. ثم مع بداية الفيلم، نرى ذلك الغريب وهو يشرب اللبن من ضرع المعزة مباشرة، ونشاهده وهو يأكل اللحم بنهم وبيدين عاريتين، كما يخشى أن يلتبس الأمر على الشيخ الذي أتى لإخصاء الجديان ويتخوف من أن يخصيه ضمنهم، في إشارات عديدة للتداخل بين عالم البشر وعالم الحيوانات، إلى أن نصل لمشهد النهاية حيث تقتل الأم الوافد متعمدة وبشكل لا يخلو من الوحشية، على عكس الأصل والصورة الأخرى. حتى موسيقى "رغبة متوحشة" التي وضعها أحمد الصعيدى كانت موترة، عنيفة وقاسية، على عكس موسيقى راجح داوود في "الراعي والنساء" المؤثرة الرقيقة.

 

نادية الجندي ويسرا

أضفى "الراعي والنساء" إلى أبطاله جميعًا ملامح أكثر إنسانية، ووضع لكل الشخصيات مبررات مقبولة لأفعالها، مما يجعلك قادرًا على التعاطف مع الجميع، مع الأم الوحيدة والعمة المحرومة وحتى مع النصاب الذي يقع في شرك الرغبة تدريجيًا ورغمًا عنه دون تخطيط أو نية مسبقة. أما الابنة المراهقة فقد أجمع الأصل والصورتان على براءتها ونقائها ووقوعها في حب طفولي مرتبك تجاه الرجل الوحيد في حياتها إلى حد محاولة قتله عندما تتبين علاقاته المتعددة مع أسرتها الصغيرة.

حقق "رغبة متوحشة" نجاحًا تجاريًا لافتًا، ربما بسبب نجومية نادية الجندي، أو لحبكته البوليسية، أو بسبب الاسم الذي يعد بمشاهد ساخنة، بينما تعثر نظيره "الراعي والنساء" في شباك التذاكر، إلا أن العرض التليفزيونى صب في مصلحة الأخير، فانحازت جموع المتفرجين لفيلم بدرخان الذي بات أكثر شهرة وأقوى حضورًا في ذهن المشاهد حتى يومنا هذا.