انتشر مؤخرًا مقطع فيديو على السوشيال ميديا، يُظهر عمالقة أسطوريين يحملون أحجارًا ضخمةً فيما يبدو أنها مشاركة في بناء أحد الأهرامات المصرية. يُعد هذا المقطع المولد بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي مثالًا واضحًا على الخرافات العديدة التي نسجها الخيال حول بناء الأهرامات.
في هذه القصة ثمّة خيط رفيع بين عصر العلم وما يحمله من تفسيرات منطقية أقرب للحقيقة، وما سبقه من عصور خلت؛ حيث كانت الأسطورة هي المسوغ الرئيس لتفسير المجهول، لا سيّما وإن كان هذا المجهول يطوي سر بناء الأهرامات.
أسطرة بناء الأهرامات
يقول الأثري الراحل الدكتور عبد الحليم نور الدين، في بحثه "الأهرامات المصرية" إن "فرط تفكير الناس وصعوبة تصديقهم لما رأوه على أرض الواقع، دفعهم للخروج عن إطار العقل والمنطق، وأحاطوا الهرم الأكبر وغيره من الأهرامات بفيض من القصص والأساطير، حول كيفية بنائه ودوره الوظيفي ومن الذين بنوه".
ويضيف "الأمر ظل يتحرك في إطار خيالي لا دليل عليه إلى أن بدأ علم المصريات عام 1822 فك رموز الكتابة المصرية (الهيروغليفية) المسجلة على حجر رشيد".
تبني الروايات الأسطورية حول بناء الأهرامات مثل العمالقة أو الجن سببه جاذبية الغموض وقوة الخيال الشعبي
ومع إزاحة الستار عن أسرار اللغة المصرية القديمة، بدأت الحقائق تتجلى واضحة، مدعومةً بوفرة من المصادر الموثوقة، مثل البرديات والنقوش والأدوات التي استخدمها المصريون القدماء في بناء الأهرامات.
لكن ما أسباب استمرار انتشار الأساطير رغم التقدم العلمي؟ وكيف بُنيت الأهرامات من واقع ما نعرفه من علم المصريات؟
في مفتتح حديثه لـ المنصة يعلق الدكتور حسين عبد البصير مدير عام أهرامات الجيزة السابق ومدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية حاليًا على مقطع الفيديو المختلق الذي يظهر بناء العمالقة للأهرامات، قائلًا إنّ "ميل البعض إلى تبني الروايات الأسطورية حول بناء الأهرامات، مثل العمالقة أو الجن، يرجع إلى جاذبية الغموض وقوة الخيال الشعبي".
ويضيف أنّ الأهرامات تمثل إنجازًا ضخمًا يتحدى الفهم التقليدي لكيفية بناء حضارة قديمة لهياكل بهذه الدقة والضخامة. نتيجة لذلك يسعى البعض إلى تفسيرات غير تقليدية لتجاوز الحدود العلمية المعروفة، معتمدين على الأساطير والرموز الثقافية التي تقدم شعورًا بالدهشة والغرابة.
يؤكد عبد البصير أن "انتشار هذه القصص عبر وسائل الإعلام الشعبية يعزز هذه المعتقدات الخاطئة، ويعطيها صدىً قويًا بين الناس الذين قد يجدون صعوبة في قبول التفسيرات العلمية المعقدة".
ثمّة تفسير آخر تتبناه مونيكا حنا الأستاذة المساعدة بكلية الآثار والتراث الحضاري لظاهرة انتشار الروايات الأسطورية، إذ تقول لـ المنصة "فيه محاولة دايمًا لفصل مصر الحديثة عن تاريخ مصر القديمة منذ الحملة الفرنسية (1798-1801)".
وتضيف "دفع الغرب منذ القرن التاسع عشر بمحاولة نسب مصر القديمة للحضارة الأوروبية من خلال الحضارة اليونانية، وهو ما يعرف بالمركزية الأوروبية لمصر القديمة، ثم جاءت حركة الأفروسنتريك وحاولت أيضًا نسب الحضارة المصرية لأهل إفريقيا، التي تتبنى روايات مفادها أن المصريين الموجودين حاليًا هم نتاج عمليات احتلال مختلفة لأرض مصر".
ترى حنا أن مصر القديمة لديها روابط إفريقية قوية ولكن هذا التفسير ليس سوى انعكاس للمركزية الأوروبية ونظرتها لمصر القديمة، ولذلك تنشأ هذه الروايات الأسطورية عن بناء الأهرامات لتتماشى مع هذه الأفكار التي تدعي استحالة أن يكون أجداد المصريين المعاصرين قد شيدو هذا البناء العظيم.
سر الصنعة
وعن أبرز النظريات العلمية لبناء الأهرامات يشير الدكتور حسين عبد البصير إلى أنها تعتمد على التقدم الهندسي والعملي الذي حققه المصريون القدماء، ومنها نظرية "المنحدر الداخلي" القائلة بأن العمال استخدموا منحدرات لولبية داخلية حول الهرم لتوجيه الأحجار إلى أعلى، بينما تركز نظرية "المنحدرات الخارجية" على استخدام منحدرات مستقيمة أو منحدرات منحنية.
ويضيف "تقترح بعض النظريات الأخرى أن الطين المختلط مع مواد طبيعية استخدم لصناعة أحجار اصطناعية. وتشير الدراسات إلى أن تنظيم العمل، وجودة الأدوات الحجرية، وفهم علم الفلك والهندسة، كل ذلك ساعد المصريين في تحقيق هذا البناء العظيم بدقة مذهلة".
بمزيد من التفصيل عن النظرية الرائجة لبناء الأهرامات، يقول مصطفى نور الدين كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار الدكتور لـ المنصة "تطور بناء المقابر في مصر القديمة يبرهن على أن الأهرامات نموذج مصري خالص؛ إذ كانت المقبرة عبارة عن حفرة في عصر بداية الأسرات ثم تطورت في عصر الدولة القديمة إلى حفرة تعلوها مصطبة، وفي نهاية الأسرة الثالثة تحولت المصطبة إلى هرم مدرج، وأخيرًا ظهر الهرم الكامل بشكله المعروف في الأسرة الرابعة في عهد سنفرو، إلى أن جاء الملك خوفو ابن سنفرو وشيد الهرم الأعظم".
أمّا عن طريقة نقل الحجارة الضخمة التي يعجز البعض عن استيعابها، فيوضح نور الدين "ثمّة مناظر عديدة مصورة تجسد نقل تماثيل ومسلات عملاقة وزنها يفوق وزن أحجار الأهرامات بعشرات الأضعاف"، لافتًا إلى أن هناك طريقة متعارف عليها لجر الأحجار الضخمة بوضعها على زلاجات، مع وجود عمال في المقدمة تسكب ما يُرجح أنه لبن؛ لتخفيف احتكاك الزحافات بالأرض.
"في حالة بناء الأهرامات جُلبت معظم الأحجار من منطقة هضبة الهرم نفسها، بينما كانت تُجلب أحجار الكساء الخارجي عبر النيل من منطقة طرة شرق النيل، ثم كانت ترفع الأحجار بواسطة الطرق الصاعدة" يقول نور الدين.
والطرق الصاعدة هي منحدرات طويلة من الطوب والطين، لرفع الأحجار الضخمة إلى ارتفاعات الأهرامات. كان العمال يسحبون الأحجار على زلاجات خشبية فوق هذه الطرق باستخدام الحبال والبكرات، ومع ازدياد ارتفاع الهرم، كان يجري زيادة طول الطريق الصاعد ليصل إلى المستويات العليا. كانت هذه الطرق عريضة ومتينة لتوفير قاعدة ثابتة لسحب الأحجار الثقيلة، مما يسمح برفعها بأمان وكفاءة.
ثمّة دليل مادي حديث نسبيًا يحل أحد ألغاز بناء الأهرامات، يوضحه نور الدين حيث اكتُشف ميناء في وادي الجرف على ساحل البحر الأحمر الغربي كان يُستخدم من عصر الأسرة الرابعة لبعثات التعدين التي تتجه لسيناء أو لبلاد البنط في إفريقيا، داخل إحدى المغارات عُثر على بعض لفافات البردي التي يروي فيها موظف يدعى ميرير يوميات بناء الهرم.
العمال المصريون الأشداء ممن كانوا يعملون في التعدين هم من شيدوا الأهرامات
تحتوي بردية وادي الجرف المكتشفة عام 2013 على سجلات يومية لعمل ميرير وفريقه، وتصف كيفية نقل كتل الحجر الجيري الضخمة من محاجر طرة إلى موقع بناء الهرم في الجيزة. كما تتضمن معلومات عن عدد العمال، والأدوات المستخدمة، والطرق التي اتبعوها في النقل، وحتى النظام الغذائي للعمال.
تُظهر البردية التي عرفت باسم ميرير التنظيم الإداري واللوجستي المُذهل لمشروع بناء الهرم، وكيفية إدارة قوة عاملة ضخمة وإطعامها ونقلها. كما تُساعد في فهم التقنيات الهندسية المُستخدمة في بناء الأهرامات، وكيفية قطع ونقل ورفع هذه الكتل الحجرية الضخمة بدقة متناهية.
يقول نور الدين "بردية ميرير تقدم دليلًا دامغًا على طريقة بناء الأهرامات، وتكشف زيف الادعاءات التي تستدعي روايات أسطورية مثل بناء العمالقة للأهرامات المصرية"؛ إذ يتضح أن العمال المصريين الأشداء ممن كانوا يعملوا في التعدين أيضًا هم من شيدوا الأهرامات. "ببساطة نستطيع القول إن المصري القديم استخدم الموارد الطبيعية الموجودة وقوة الرجال".
تفسيرات علمية
مع التقدم العلمي الهائل، ثمّة محاولات عديدة شرع فيها علماء لتعميق فهم عملية بناء الأهرامات، وإزالة الغموض الذي يكتنف بعض تفاصيلها، ومن هذه المحاولات محاكاة بناء الأهرامات غير مرة، ومن أبرزها التجربة اليابانية عام 1978؛ حيث حاول فريق من 24 عالمًا يابانيًا بناء هرم مصغّر بجوار أهرامات الجيزة باستخدام الأساليب القديمة، لكنهم واجهوا صعوبات كبيرة في قطع ونقل الأحجار، مما يدل على مهارة المصريين القدماء.
يرجع الدكتور حسين عبد البصير أسباب فشل هذه المحاولات لعدة عوامل، أبرزها امتلاك المصريين القدماء تقنيات ومعرفة هندسية مميزة تعود لآلاف السنين، ولم تُحفظ كل هذه التقنيات بوضوح، إضافة إلى أن عمليات البناء تعتمد على العمل البشري المكثف بملايين الساعات وهو تحدٍ يصعب تكراره اليوم.
أما العامل الثالث فيعود إلى أن المواد الحجرية الطبيعية المستخدمة في بناء الأهرامات كانت متاحة بكميات كبيرة في مصر القديمة، لكن المحاولات الحديثة لإعادة بناء الأهرامات قد تواجه صعوبة في الحصول على هذه المواد بالجودة نفسها أو الكمية "ما يجعل محاكاة الأهرامات تحديًا صعبًا".
إلى جانب محاولة محاكاة الأهرامات القديمة، تظهر دراسات تتبنى نظريات أخرى تحاول سبر أغوار عالم هذه الأبنية، مثل نظرية الرفع الهيدروليكي للأحجار المستخدمة في هرم زوسر المدرج، وفي شهر أغسطس/آب الماضي نُشرت ورقة بحثية في مجلة Plos One يقترح العلماء فيها استخدام النظرية في نقل الأحجار الضخمة عبر المياه بدلًا من السحب الأرضي التقليدي.
تركز الورقة البحثية، حسب عبد البصير، على بناء هرم زوسر، وتشير إلى وجود بنى مائية محتملة حول الهرم. يقول "الاهتمام يزداد بهذه الفكرة، لكن الأدلة الحاسمة لا تزال محدودة".
ويستطرد عبد البصير "لم يُثبت بعد أن الأهرامات الكبرى استخدمت أسلوب الرفع الهيدروليكي؛ إذ لا توجد إشارات واضحة على أنظمة هيدروليكية فيها. يحتاج الأمر إلى مزيد من البحث الميداني لإثبات تطبيقها على الأهرامات الأكبر".
وتختتم مونيكا حنا بالتأكيد على أنه لا يوجد أي دليل علمي لنظرية الرفع الهيدروليكي إلى وقتنا الحاضر ولا يميل غالبية علماء الآثار إلى هذه النظرية، تقول "جزء من أهمية هذا الأثر الفريد (الأهرامات) أنه لا يزال يلهم الجميع للتفكير العلمي والميتافيزيقي"، متمنية الوصول إلى نظريات جديدة تفسر هذا البناء الفريد اعتمادًا على الأبحاث البينية بين الهندسة والرياضيات واللوجستيات لفهم التفاصيل الدقيقة لمختلف مراحل البناء.