افتقدنا هذا العام في السهرة العائلية المعتادة عشية "حد السعف"، حيث تتجمع العائلة كل عام بأمر أمي، هزار ونكات "رامز" البايخة، بينما كنا نضفّر الصلبان والتيجان من سعف النخيل، للذهاب بها إلى الكنيسة في الصباح، وهو ما يفرح كل أطفال وشباب العائلة.
يدرس رامز، ابن شقيقتي الكبرى، في كلية التجارة الخارجية بإحدى الجامعات الخاصة بالقاهرة. وتعذر عليه المجيء بسبب امتحانات الـ"ميد تيرم"، في نفس يوم العيد!
لم يتوقف النكد عند هذا الحد (حد السعف)، بل امتد إلى "حد القيامة"، عندما أخبر والدته أنه لن يتمكن من حضوره أيضًا، ولنفس السبب، الامتحانات. لتلعن شقيقته جاكلين الامتحانات والقاهرة والدكاترة والجامعات، بسبب ذكرياتها المشابهة عندما كانت تدرس في كلية التمريض بالقاهرة، قبل أن تتخرج منذ ثلاثة أعوام فقط.
وبكى شقيقه الصغير مايكل عندما تأكد أن أخيه الأكبر يتكلم "بجد" ولا يهزر كعادته. وبالنسبة لي، فقد قلب عليّ ابن شقيقتي المواجع، ربنا يسامحه.
ذكريات تعيد نفسها
بنظرة سريعة على جدول الإجازات والعطل الرسمية في شهر أبريل (نيسان) الحالي، ستفرح ثم تندهش، وبعدها قد تستنكر وتبدأ في السؤال. ستفرح لأنك مصري مثلي يحب الإجازات ويا سلام لو كانت إجازات مدفوعة الأجر، وشهر أبريل الجميل نصفه إجازات رسمية ما بين "جمعة وسبت" و أعياد دينية ومناسبات قومية، وشم للنسيم.
لكنك ستندهش لو ركزت قليلًا في أسباب الإجازات وعدد أيام كل منها على حدة. فلو استبعدنا يومي الجمعة والسبت (14 و 15 أبريل)، نجد يوم 17 شم النسيم، و21 و22 و23 عيد الفطر، ويوم 25 عيد تحرير سيناء. كل هذه الأيام إجازات رسمية مدفوعة الأجر.
لكن مع التركيز أكثر ستجد في الوسط يوم 16 إبريل (الأحد) حيث يحتفل المسيحيون بعيد القيامة. لكنه ليس إجازة رسمية، بالطبع لا يذهب المسيحيون إلى وظائفهم الحكومية ولا يذهب أبناؤهم إلى المدارس والجامعات، ليحتفلوا براحتهم بعيد القيامة المجيد.
لكن الإجازة هنا أمر متفق عليه عرفيًا فقط وتخصم من رصيد الإجازات. وأنت كمواطن مسلم سيتم حساب اليوم غياب لو لم تذهب إلى عملك، يمكنك أن تستنكر هنا براحتك. إلا إذا كنت تعمل في أحد البنوك، فلا أعرف لماذا البنوك تحديدًا إجازة يوم عيد القيامة.
دفع الأمر كثيرين لسؤال جوجل إذا كان عيد القيامة إجازة رسمية أم لا؟ ونفى المتصفح، لكنه لم يعرف إجابة سؤال "لماذا لا يكون عيد القيامة إجازة رسمية في مصر مثل عيد الميلاد؟" أسوة بأعياد المسلمين، التي تصل الإجازات فيها إلى ثلاثة وأربعة وأحيانًا خمسة أيام، قل سبعة.
الإجازة "الرسمية" تعني للمسيحيين في مصر الكثير. وتعني الأكثر بالنسبة للمؤمنين بمدنية الدولة
المثير للدهشة، وربما السخرية، أن اليوم التالي لعيد القيامة إجازة رسمية بمناسبة "شم النسيم". ويقال في الأثر إن الاحتفال بشم النسيم تم تحديده بعد عيد القيامة مباشرة، وقتما حل بالتوقيت القبطي، للتأكيد على وحدة الشعب المصري في الأعياد والاحتفالات! أليس من باب أولى النظر إلى يوم الأحد (عيد القيامة) قبل يوم الاثنين (شم النسيم).
حتى عام 2002 لم يكن عيد الميلاد إجازة رسمية في مصر. ذكرني ابن شقيقتي جيدًا كيف كان بعض معيدي وأساتذة جامعات مثل المنيا وأسيوط، يتفننون في اختيار يوم 7 يناير/كانون الثاني لامتحان نصف العام لموادهم. كان على الطالب المسيحي قبل ذلك التاريخ أن يسهر ليلة العيد للمراجعة ويستيقظ مبكرًا ليلحق امتحانه، وهو يسب ويلعن العلم والتعليم، مثل ابنة شقيقتي بالضبط.
وبالنسبة لأبناء القرى أمثالي، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وما أدراك بالثمانينيات والتسعينيات في المنيا وأسيوط، نسينا شكل عيد الميلاد في بيوتنا بسبب تغربنا في المدينة، وسكننا الجامعي بعيدًا عن قرانا وعدم قدرتنا على العودة لأهلنا ليلة العيد. ربنا لا يعيدها أيام. لكنها تعيد نفسها اليوم عادي.
أعيادكم وعقيدتنا
جاء القرار الجمهوري باعتبار 7 يناير إجازة رسمية للبلاد في عام 2002 ليثلج صدور المسيحيين وقتها، كنيسة وشعبًا. واحتفت وسائل الإعلام الرسمية بالقرار، حيث لم يكن هناك غيرها في ذلك الوقت.
قال الجميع إن القرار جاء ليؤكد على "وحدة نسيج الشعب المصري". وبالفعل، لم يلقَ القرار تقريبًا أي معارضة أو امتعاض على المستوى الشعبي، حتى المتشددين منهم. لكن، لم يكن ذلك الترحيب نابعًا من اعتراف كل الأطراف والأطياف بأحقية المسيحيين في إجازة رسمية في أعيادهم أسوة بأشقائهم المسلمين، ولا لأن المصريين كانوا أكثر تسامحًا منذ عشرين عامًا مضت عن اليوم.
كان السبب الرئيسي هو الاختلاف العقائدي في الأمر. فالمسلمون والمسيحيون يتفقون على حدوث واقعة "ميلاد المسيح" التي يُحتفى بذكراها في عيد الميلاد. إذن، فلا مانع ديني أو شعبي يمنع القرار بالنسبة للمسلمين. وهو الأمر الذي لا يتحقق بالنسبة لعيد القيامة، الذي يخالف مضمونه السردية الإسلامية لقصة المسيح، وهو أمر لا يحتاج إلى سؤال "جوجل" هذه المرة، فأصغر طفل في مصر يمكنه الإجابة عن هذا السؤال.
ويبدو الأمر جليًا في حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي قداس عيد الميلاد داخل الكاتدرائية، فيما يكتفي بمبعوث وبرقية تهنئة في عيد القيامة.
من زاوية أخرى، لم يحصل المسيحيون على اعتراف الدولة الرسمي بإجازة عيد الميلاد في يناير كمنحة من نظام مبارك، أو تحقيقًا لمبدأ المساواة بين المواطنين، بل اعتبره البعض ليس أكثر من ترضية من الدولة للمسيحيين في مصر بعد سلسلة من الاعتداءات الطائفية بحقهم، كان أبشعها مذبحة الكشح في نهاية عام 1999، وجاء القرار وقتها لامتصاص غضب الأقباط والكنيسة والرأي العالمي.
أذكر أن المرة الأولى التي يذيع فيها التليفزيون المصري القداس كاملًا على القناة الثانية، وليس فقط فقرة تهنئة السادة المسؤولين، كانت قداس عيد الميلاد المجيد لعام 2002.
لا يطمع المسيحيون في مصر إلا في يوم واحد تعترف به الدولة كإجازة رسمية يستحقونها في عيد القيامة، إجازة تريحهم من تعنت أرباب العمل المتشددين الذين ينغصون عليهم عيدهم كل عام، خصوصًا الطلبة.
لماذا لا تفعل الدولة كما فعلت حين أقرت يوم 7 يناير إجازة رسمية بمناسبة عيد الميلاد؟ الإجازة "الرسمية" تعني للمسيحيين في مصر الكثير. وتعني الأكثر بالنسبة للمؤمنين بمدنية الدولة، ومن يبحثون عن تحقيق المساواة والعدالة بين طوائف المجتمع في "الجمهورية الجديدة"، وكما ينص الدستور المصري.
أو علينا أن نكون دولة عملية أكثر، لا وقت لدينا ولا رفاهية الحصول على كل هذه الإجازات، ربما علينا أن نلغيها كلها ونكتفي بالمناسبات الوطنية؛ نصر أكتوبر وتحرير سيناء، والأعياد المصرية، مثل وفاء النيل وشم النسيم ورأس السنة المصرية.