ولدت الشابة العشرينية جويا حسام وسط عائلة متنوعة طائفيًا، فالأم والأب أرثوذكس، والأخوال بروتستانت/إنجيليين، ما جعلها تشعر بالتميز وسط أقرانها؛ فهي تعرف الطائفتين، وهو أمر غير معتاد بين المسيحيين، خصوصًا الشباب، نظرًا للقطيعة التي زرعها رجال الدين المسيحي بين الطوائف المختلفة.
جوازة بضمانة أبونا
جويا، التي اختارت دراسة الطب البيطري، هي الجيل الثاني لزواج بين طائفتين. تحكي والدتها مها، ابنة جورج الإنجيلي الذي تزوج أرثوذكسية، لـ المنصة "أبويا وأمي اتجوزوا على طايفة ماما من غير إعادة معمودية لبابا"، ففي الماضي لم يكن التشدد الطائفي حاكمًا لهذا الحد.
والمعمودية هي طقس مسيحي يمارسه الأرثوذكس والكاثوليك بالتغطيس الكامل في الماء، فيما تمارسه بعض الطوائف البروتستانتية برش الماء، وثمة خلاف بين الكنائس حول اعتراف إحداها بطقس الأخرى.
وتعتبر الكنيسة الأرثوذكسية أن المعمودية أحد الأسرار السبعة للكنيسة، وتشترط أن يتم هذا السر بكنائسها لإتمام باقي الأسرار والطقوس، ما يعيق إتمام الزواج، إذ يقتضي الأمر أن يتخلى أحد الزوجين عن طائفته ليُعمّد في كنيسة شريكه. وكانت هناك عدة محاولات لتوحيد المعمودية والأعياد بين الطوائف غير أنها فشلت.
ورثت الأربعينية مها طائفتها الدينية عن والدتها، تقول "اتعمدت أنا واخواتي الاتنين أرثوذكسيًا، وتردننا على كنيسة ماما معاها". لكن مع انتقال جدها لوالدها من مركز طهطا محافظة سوهاج ليؤسس أول كنيسة إنجيلية بالعمرانية، تغيرت وجهة الأبناء، "انجذبنا لأهل والدي تلبية لرغبته، عشان يُرضي عائلته. ولكنه لم يمنعنا عن كنيسة أمي". ساعد في جذبهم للكنيسة الجديدة أن جد مها ووالدها من مؤسسي وشيوخ الكنيسة "كنا بنحس نفسنا مميزين هناك، وأخواتي أيمن وإيهاب كانوا منتمين ليها".
رغم ذلك، حافظت مها على انتمائها للأرثوذكسية "انضميت لخدمة المكرسات بكنيسة العذراء، وارتبطت بشاب أرثوذكسي".
وعلى الرغم من أن القضية كانت أسهل هذه المرة، فالزوجة تنتمي لطائفة الزوج، لكن والدها مغاير، تتذكر مها "والد خطيبي وقتها راح يسأل أب اعترافه عن أهلي، فحذره وقاله لا حل ولا بركة لو جوزت ابنك للبنت دي"، بسبب أن أهلها إنجيليون وأنها تتردد على كنيستهم، "ولكن حسام خطيبي وقتها راح للكاهن مع والده وأقنعه إني أرثوذكسية وخادمة بالكنيسة".
لم تنته محاولات المتشددين في إنهاء الزواج، إذ على الجانب الآخر حاول بعض قساوسة الطائفة الإنجيلية التحدث مع زوج مها في فترة الخطبة لاستمالته للانضمام لطائفتهم "بس هو ما استسلمش، وأنهى معاهم الكلام".
تمت الخطوبة، تقول مها "كانت طقوس مختلطة، عملناها في مركب تابع للسينودس الإنجيلي، وحضر الكهنة وشمامسة الأرثوذكسية، وصلّوا. وكمان القساوسة الإنجيليين صلّوا لمباركة الخطوبة".
حسب التقرير الدولي للسفارة الأمريكية بمصر بشأن الحريات الدينية، الصادر في 2017، فإن عدد السكان 97 مليون نسمة منهم بين 10 و 15% مسيحيون، يشكل الأرثوذكس منهم 90%، ويشير التقرير إلى أن الطوائف الأخرى مجتمعة تشكل أقل من 2%، والنسبة الأكبر بينهم من البروتستانت/الإنجيليين.
ثلاث طوائف وأسرة واحدة
في محافظة الفيوم، تضم أسرة ماجد سمير أمًا بروتستانتية وأبًا أرثوذكسيًا، ونظرًا لأن الزوج ينتمي للأغلبية فكان لزامًا على الزوجة أن تنضم للأرثوذكسية وتتعمد في كنيستها ليتم الزواج وفق شروط الطائفة. ورغم أن العروس تعمدت في كنيسة العريس من أجل إتمام الزواج، فإنها ظلّت تتردد على كنيستها.
يقول ماجد، الذي يبلغ من العمر 50 سنة، لـ المنصة "أمي محاولتش تجذبنا لكنيستها ومشوفناش خلافات طائفية بينها وبين أبويا"، تزوج ماجد وشقيقته من الطائفة الأرثوذكسية، فيما تزوج الأخ الأوسط من كاثوليكية، وانضم هو لطائفتها، والأخت الصغرى تزوجت من بروتستانتي، "كل واحد مننا بقى في طايفة مختلفة وتقبلنا اختياراتنا جميعًا" يقول ماجد قبل أن يستدرك "بعد خلافات".
قسمنا المناسبات.. رأس السنة وحد السعف في الكنيسة الإنجيلية وأسبوع الآلام وقدّاسات الأعياد في الأرثوذكسية
أما جويا فتؤكد أنها لن تختار شريك حياتها بناءً على طائفته، تقول "الأهم عندي هو الإيمان في حد ذاته، وأن يكون فيه بيننا توافق في الأفكار، وأنه يحترم اختياراتي"، لكنها تتمسك بالزواج وفقًا لكنيستها الأرثوذكسية.
غير أن ما تفرضه الكنيسة الأرثوذكسية من قيود على الزواج جعل أحد أخوال جويا "يعمّد ولاده أرثوذكسي، عشان يديهم فرصة في وقت الزواج"، كيلا يقف الاختلاف الطائفي في وجه اختياراتهم.
مائدة الطعام تجمعنا
تخلق الاختلافات بين الطوائف في الطقوس والأصوام مواقف تبدو في البداية مثيرة للجدل لكنها سرعان ما تنتهي كذكريات مثيرة للضحك. تقول جويا "ماما كانت بتهتم بأصوامنا الأرثوذكسية وبتراعي مواعيدها، كانت بتعمل لنا أكل صيامي وتعمل ليها هي وأخوالي فطاري. على عكس جدي الأرثوذكسي اللي كان بيدينا رشاوي عشان نقطع صيامنا خوفًا على صحتنا في مرحلة النمو".
ويصوم الأرثوذكس نحو ثلثي العام، وهو صوم يعتمد على الطعام النباتي بالإضافة إلى الصيام الانقطاعي. وهو ما يشبه إلى حد كبير الصوم عند الكاثوليك. بينما في البروتستانتية لا يوجد موعد صوم إلزامي، فيكون الصيام طوعيًا، ويرتبط بطلب الشفاء والتوبة.
تعلمت مها كيف تتعايش في عائلة مختلفة الطوائف، تقول "قسمنا المناسبات، نحضر رأس السنة وحد السعف في الكنيسة الإنجيلية، وأسبوع الآلام وقدّاسات الأعياد في الأرثوذكسية". تختلف الطوائف القبطية على موعد عيد الميلاد فبينما يحتفل الأرثوذكس والبروتستانت في 7 يناير/كانون الثاني، يحتفل الكاثوليك والطوائف الغربية في 25 ديسمبر/كانون الأول.
"الأسرتين مندمجين في كنايس بعض وبالتالي محسوش بالفُرقة أو الاختلاف"
لا تخلو هذه المناسبات من مواقف نابعة من جهل بالطقوس، "أول مناسبة لإنجي مرات إيهاب أخويا، وهي إنجيلية بالنشأة وعمرها ما زارت كنيسة أرثوذكسية، لما حضرت معمودية يوسف ابني كانت مندهشة. وفي الجمعة العظيمة لاحظت علامات الدهشة والتعجب على وشها" تحكي مها.
وتتذكر موقفًا آخر لزوجة أخيها تحول مع الوقت لنكتة "مرة كنّا معزومين عندها في الصيام الكبير، وقالتلنا عملتلكم محشي عشان صيامكم، ولقيناها عاملة ضمن المحاشي ممبار. وقتها مافهمِتش احنا بنضحك ليه إذا كان هو محشي رز ومقلي في الزيت".
ورغم ذلك تبقى طاولة الطعام قادرة على جمع الطائفتين، دون حساسيات.
تعلمت الدفاع عن الآخر
لا ينكر إيهاب تأثير والدته الأرثوذكسية على عاداته الدينية رغم أنه شيخ في كنيسته الإنجيلية "بصوم أسبوع الآلام زي ما علمتنا أمي، وباحضره في كنيستها" يقول إيهاب لـ المنصة.
شوقه إلى والدته هو ما يزيد من تمسكه بطقوسها، يقول إيهاب "بفتقد ماما ولما بيغلبني الحنين بعمل زيها. كانت بتحط بصل الصبح في شم النسيم، وتزرع قمح وفول في السنة الجديدة". لا ينكر الإنجيلي حبه لكثير من الطقوس الأرثوذكسية مثل الصلاة بالأجبية/كتاب الصلوات الأرثوذكسي؛ تلك الطقوس التي جعلته يتقرب من زملائه في الجيش. "لما باصلي، بانهي صلاتي باللحن القبطي زي الأرثوذكس، زي ما اتعلمت من أمي. وكتير بيستغربوا مني في كنيستي".
الموت، كالزواج والولادة، مناسبة تقتضي اختيارًا لكنيسة تحتضن المراسم. تتذكر مها بأسى "لما والدتي اتوفت كانت وصيتها إن يتصلّى عليها في كنيستها، وتدفن في مقابر العيلة الإنجيلية". وكما أوصت، تمت الصلاة بالأرثوذكسية وحضر قيادات السينودس، وفي المساء كان العزاء في الكنيسة الإنجيلية وحضر الكهنة وشيوخ الكنيسة، وألقى كل منهم خطبة.
"ورغم إن الإنجيليين ماعندهمش صلاة ثالث، لكن فتحولنا القاعة وجاء الكهنة صلوا بالطقس الكامل والشمامسة والشورية (المبخرة)، وسط صدمة المعزين"، تذكر مها كيف تحول مشهد وفاة والدتها إلى أيقونة للتلاحم والتعايش بين طائفتي عائلتها.
أما عن الأطفال، فيقول إيهاب "لما إيريني بنتي ما كانتش بتتناول على طريقة الأرثوذكس ومتعرفش الطقس ولا الصيام 9 ساعات قبل التناول، كانت بتفكر هتعمل إيه كل يوم حد الصبح.. شجعتها وقولتلها صومي وشاركي زمايلك في التناول"؛ ينتظم أبناء إيهاب، وهو حفيد مؤسس الكنيسة الإنجيلية بالعمرانية، في مدارس أرثوذكسية تقيم قداسًا كل أحد كبداية لليوم الدراسي.
"الأسرتين مندمجين في كنايس بعض، وبالتالي محسّوش بالفرقة أو الاختلاف"، لم يضطر إيهاب لمواجهة أسئلة من أبنائه، فالحياة المشتركة تحدث فيها الأشياء بصورة تلقائية، يقول "بنتشارك رحلات ومصايف كنايسنا، وإنجي مراتي استمتعت بحضور الجمعة العظيمة في الكنيسة الأرثوذكسية وتابعت بالخولاجي (كتاب الطقس)".
ارتبطت جويا، التي تمثل نموذجًا حيًا للتعايش، بالكنيسة الإنجيلية حتى المرحلة الإعدادية، ربما بسبب أن أجدادها كانوا ضمن مؤسسيها وخالها شيخ (قس كبير) إنجيلي، وبعد انتمائها للكنيسة الأرثوذكسية "اللي كانت أقرب لقناعاتي" ظلت تشارك في أنشطة الإنجيلية "أنشطة ورحلات واجتماعات الإنجيلية لسه بتستهويني".
تواجه جويا انتقادات من المتعصبين على الجانبين، خصوصًا التعليقات في كنيستها الأرثوذكسية عندما تتحدث عن نشاطها في الإنجيلية "في المدرسة كمان ولاد أخوالي بيعانوا عشان هم أقلية وسطنا".
تقول جويا إن التعصب يولد الغضب والاحتقان، وقد يؤدي إلى فقدان الأتباع، وهو ما شهدته بنفسها حين تحول زميل لها حرمه الكاهن الأرثوذكسي من التناول بسبب تردده على الكنيسة الإنجيلية، "تحوله للكنيسة التانية رد فعل طبيعي على التعصب في التعامل معاه".
تعتبر جويا نفسها مشاكسة، "لما بقعد مع أخوالي بفضل أناقشهم في الخلافات اللي بين الطايفتين، الخلاف لا يفسد للود قضية"، بينما ترى مها أن "بعض النقاشات دي بتسبب حساسية، بس في النهاية بندرك قيمة علاقتنا، وحتى لما بيخرج حد من القيادات في لقاء إعلامي أو على السوشيال ميديا يحرض ضد طايفة، ممكن يحتدم النقاش بيننا، لكن بننهيه بسرعة وتجمعنا محبتنا".