يقول يحيي الإسكندراني/يوسف شاهين، في فيلمه إسكندرية كمان وكمان (1989)، لنادية/يسرا، خلال اللقاء الأول بينهما "بيقولوا حتى المسيح درس عندنا"، كدليل إضافي يقدمه لها على أهمية الإسكندرية وأبنائها، وتحديدًا ذكورها. فتنبهه نادية لتجاهله، كعادة الذكور، لكليوباترا.
ينزع بعض الذكور لتشبيه المدن والبلدان التي يغزونها بالنساء، أيًا كان شكل الغزو، سواء كزوار عابرين متصعلكين، أو كقادة جيوش، وذلك قبل زمن طويل من تلك الصور الشعرية عن البلد/المرأة/الأم، المتدهورة عبر الزمن في الحالة المصرية، وصولًا لركاكة كاريكاتيرية على صفحات جريدة الأخبار وغيرها، حيث يقف الرئيس/الذكر في ظهر تلك البلد/الأنثي. وهو النزوع نفسه الذي نجده، وإن كان بشكل مختلف، عند بعض اللبنانيين المحبطين، أو الذين يتصورون أنفسهم ضحايا للمدينة، فيصفون بيروت بالعاهرة.
لكن هذا المزج، الذي نجده عند أمم كثيرة، يصبح أكثر تعقيدًا، وبساطة في الوقت نفسه، في حالة الإسكندرية، لارتباط صورتها التاريخية، والمتخيلة، بذكر وأنثي. الذكر، الإسكندر المقدوني الذي أعطى الأمر ببنائها ومنحها اسمه، والأنثي التي كانت ملكتها الأشهر، كليوباترا السادسة، آخر سلالة البطالمة.
فلنفصل قليلًا بين صورتي المدينة والمرأة، لنتناول هنا بعض الملامح المتخيلة للذكور عن المدينة، وصورتها التي يقدمونها، وفي المقال المقبل نصل إلى كليوباترا، والمزج بينها وبين مدينتها.
بناء على السيناريو المكتوب لهذا اللقاء الأول بين يوسف شاهين الذي يلعب دوره في الواقع، والممثلة نادية، في طرقات نقابة المهن السينمائية ليلًا، يحمل شاهين في تلك اللحظة كتاب إدوارد مورجان فورستر عن الإسكندرية. بينما في الفيلم المنفّذ، لا نجد أثرًا للكتاب في ذلك المشهد، يستبدله شاهين وقت التنفيذ بأوراق يدون عليها خواطر لمشروع فيلم جديد.
إن كنا لا نرى كتاب الإسكندرية تاريخ ودليل لفورستر في الفيلم، فإننا نستشعر وجوده كأحد مراجع المخرج، سواء في التفاصيل الجغرافية لتحديد موقع قبر الإسكندر على سبيل المثال، أو في الحديث عن سوستراتوس، باني فنار الإسكندرية. فالكتاب (ترجمه الراحل حسن بيومي في سياق المشروع القومي للترجمة، 1999)، يُعد من أهم الكتب عن تاريخ الإسكندرية، وربما الدليل الأول لزائرها بعد الحرب العالمية الأولي. كتبه فورستر أثناء إقامته في المدينة عدة سنوات بداية من 1915، عاملًا في الصليب الأحمر، ومرتديًا لزي عسكري، لتصدر طبعته الأولى عام 1922.
لم يكن فورستر الأوروبي الأول الذي يحكى عن الإسكندرية وعن كليوباترا؛ سبقه كثيرون. فقبله بقرون حكى شكسبير عنهما في مسرحيته أنطونيو وكليوباترا. وقبل فورستر بسنوات كتب صديقه السكندري، الشاعر كفافيس، عن الاثنين. وبعده كتب لورنس داريل رباعيته الروائية الشهيرة عن الإسكندرية. وكل هؤلاء حاضرون في كتاب فورستر، بالإضافة لناشره مايكل هاج، كاتبًا لمقدمة أحد طبعاته، بينما كتب داريل مقدمة أخرى.
الذكور الأجانب، فيما عدا شكسبير المهتم بقصة الحب كخلفية للصراعات السياسية التي تحدث في الإمبراطورية الرومانية، مولعون بالإسكندرية. لكنهم مولعون بإسكندرية الأجانب، بمدينة يرونها هم، ويتحسرون على فقدانها، فكلما أصبحت المدينة عربية أو مصرية تنهار وتفقد جمالها ورونقها.
ابن الأغنياء المحب الكاره
في رباعية الإسكندرية لداريل، لا نرى المدينة في زمن أحداث الرواية، بقدر ما نرى أجانب يعيشون فيها، وهم وجهها الأساسي، وبينهم شخصية مصرية وحيدة يمكن عدها أساسية: نسيم القبطي، المنتمي إلى عالمهم ثقافيًا وطبقيًا، أكثر من انتماءه لعالمه المصري.
ونستطيع أن نستشعر بسهولة رؤية داريل الاستعلائية والكولونيالية لذلك العالم الشرقي المتوسطي، حتى وإن انبهر به. فهو لا يراه سوى كمكان لأبطاله، من الأجانب، أمثاله، ويتم اختزاله في عوالمهم المغلقة. بل نستشعر أيضًا أن داريل وفورستر وغيرهم، يستعيدون سيرة وأشعار كفافيس، الذي ولد ومات في الإسكندرية، وغالبًا عرفها بعمق، كي يكسبهم مصداقية للحكي، وهو في أنظارهم يوناني وليس سكندريًا. وكأن بانتمائهم لشعر كفافيس ينتمون لمدينته.
هناك مغالطة أليفة في الأعمال الأكاديمية والأدبية الكولونيالية، أن نُدخل في السياق اسمًا أوروبيًا فيرتبط في ذهن المتلقي بالتطوير
لورنس داريل، الواصل للإسكندرية في 1941، وبخلاف رباعيته، يكتب مقدمة عام 1982 لأحد طبعات كتاب صديقه فورستر. فيصف المدينة بأنها مدينة الأحلام التي تطل على بحر حالم، وحين يسترسل في وصف سحرها ينسب كل السحر لما يرد من خارجها، وليس لعناصرها المحلية. فهي في نظره مدينة إغريقية، لا تنتسب لهذه الصحراء الإفريقية الشاسعة التي تمتد خلفها.
يسترسل داريل في وصف المدينة الأجنبية الغنية، الإسكندرية العامرة بالقصور والفيلات، ومدارس الأجانب، والمطاعم. لا يلتفت بالطبع إلى أحياء الفقراء، وكأنها ليست في الإسكندرية، فتتجلى عظمة المدينة في استماعه لخمس لغات أجنبية فيها.
ويتحسر حين يعود لزيارتها لاحقًا على الميناء، بعد اختفاء سماسرة القطن الأجانب منها، فقد تحولت لمقبرة. ويفسر ذلك التحول بـ"غزل عبد الناصر الطويل للشيوعية قد أنتج أثره الحتمي المميت". فيتباكى على تلك المدينة التي احتلتها اللغة العربية كعلامة على الانهيار، فحتى غرفته الفاخرة في فندق سيسيل فقدت أبهتها.
هذا النفور من الإسكندرية الحديثة ليس جديدًا عند داريل، بل أنه في فترة تمجيدها في رباعيته الروائية نفسها، قبل أن يدمرها "الميل الشيوعي لعبد الناصر"، يصف المدينة في خطاب يرسله لهنري ميلر عام 1944 بأنها رثة، من بين صفات أخرى. ويهجو ناسها، الذين لا نعرف من هم تحديدًا، فهم لا يتحدثون سوى عن المال "حتى الحب يفكرون فيه بالمصطلحات المالية"، وينفي عن الإسكندرية وناسها أي صفة إنسانية.
نجد هنا الالتقاء الوحيد بين داريل وفقراء المدينة، فإن تواجد الفقير صدفة بين الأغنياء، سيشعر حتمًا بالضيق والحزن من أحاديثهم عن المال، الذي لا يملكه. وإن تواجد الغني الجوال، مثل داريل، بين الأغنياء المتحدثين عن صفقاتهم، أو بين الفقراء المتحدثين عن المال لأنهم يتمنونه، سينزعج، فهو فائض لديه ولا يشغله.
العسكري النشيط
ينقل داريل رؤية فورستر ويتفق معه "مدينة الإسكندرية الكلاسيكية التي نتكلم عنها، ما هي إلا صدى تاريخي. كيف كان ذلك؟ لقد انزلقت المدينة الشهيرة المتألقة إلى النسيان بوصول عمرو بن العاص هو وفرسانه من العرب، وزحفت فوقها الكثبان الرملية وغطتها، وتم طي ألف عام أو يزيد من الصمت والإهمال، ما بين عمرو ونابليون".
الفقرة السابقة مقتبسة من فقرة أخرى كتبها فورستر كتصدير لكتابه "لقد اختصرت تاريخ العصر العربي، لأنه لا أهمية له بالرغم من امتداده لأكثر من ألف سنة؛ من عمرو حتى نابليون. ومن نابليون يبدأ العصر الحديث، الذي يتمثل ملمحه الأساسي في بناء المدينة التي نراها الآن، وهو ما تم تحت رعاية محمد علي".
تتضمن العبارة السابقة مغالطة طرح اسم نابليون بونابرت الأوروبي في المنتصف، في حين أن راعي المدينة الحديثة هو محمد على وليس بونابرت. لكن هذه المغالطة أليفة في الأعمال الأكاديمية والأدبية الكولونيالية، والمعتمدة على أفكار المركزية الأوروبية، أن نُدخل في السياق اسمًا أوروبيًا، فيرتبط في ذهن المتلقي بالتطوير، بالرغم من أن التطوير لم يقم به الأوروبي، في هذه الحالة الغازي الفرنسي القادم ليحقق مجده الإمبراطوري، غير المهتم بمجد أي مدينة.
تحت عنوان "الغزو العربي"، يبدأ فورستر حكيه عن الإسكندرية خلال الزمن العربي الممتد ألف سنة بجملة معبرة "ونقترب الآن من الكارثة". بالإضافة لسلسلة من النعوت المحقرة للعرب الذين لا يدركون شيئًا عن التاريخ أو قيمة المدينة، ويتصورهم كمجرد همج "لم يستطيعوا إدراك قيمة الجائزة التي نالوها".
وفي روايته عن عرابي والغزو الإنجليزي، الذي يسميه أحداث 1882، نجد أن ما كان يهدد المدينة هو عرابي وجيشه المصري حين حاولوا التصدي للغزو، وليس الغزاة الذين تأخروا عن النزول للمدينة، فعرضوها لخطر عرابي ولحوادث عنف ضد الأجانب.
الناشر المتفائل
لا يخرج الناشر مايكل هاج عن هذه الاستعلائية الغربية في مقدمته للكتاب. يذهب إلى الإسكندرية للمرة الأولى عام 1973، قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول مباشرة، ويتبني، بالرغم من بقاءه فيها لأيام قليلة، كزائر عابر لمدينة لا يعرفها، وصف لورانس داريل لها، ويراه دقيقًا. ويضيف أن "الإخفاق التام بالسويس عام 1956 قد أدى -للأسف ولكن ليس للعجب، إلى رفض متشنج للتواجد الغربي في مصر". ويتحسر على ما لم يعشه أصلًا، حين كانت المدينة مكانًا للراحة والاستجمام والمتعة لأمثاله، وليس للمصريين.
يحصر مايكل هاج مميزات الإسكندرية في أنها كانت مدينة كوزموبوليتان، سكانها من أجناس مختلفة، يونانيون وبريطانيون وفرنسيون وإيطاليون وأرمن ومواطنون من روسيا البيضاء. ولحسن الحظ كانوا مختلطين، لكنهم لم يختلطوا بالمصريين. بل يؤكد أن كفافيس، بين ميلاده ومماته في الإسكندرية، لم يزر أي منزل مصري، ولا يعرف العربية تقريبًا.
تتبدى المفارقة في الأرقام التي يوردها عن تلك المدينة الأجنبية، في الزمن الذي لم يراها فيه، فقد كان يعيش بها ثمانون ألف أجنبي بين نصف مليون مصري. أي بحسبة بسيطة، سنجد أن مقابل كل أجنبي هناك ستة من المصريين. ورغم ذلك كانت مدينة الأجانب.
لكن مايكل هاج متفائل، فهو يرى أن سياسات السادات؛ الانفتاح الاقتصادي، والصلح مع إسرائيل، وتحسين العلاقة مع الغرب، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، ستجلب غالبًا الخير للإسكندرية، وستعيد لها "بعض الرونق القديم".
لا أعلم إن كان رأى المدينة بعد أن عاد إليها رونقها، أم لا.