تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
استعادت ريما حسن من فوق القارب مادلين عبارة للثوري والمقاتل الجزائري محمد العربي بن مهيدي

ريما حسن.. تجاوز الممكن وملامسة المستحيل

منشور الأربعاء 25 يونيو 2025

من بين المبادرات المتنوعة التي تظهر يوميًا في الكثير من مدن العالم للتضامن مع غزة، أو للعمل بعيد المدى على القضية الفلسطينية، بادر عددٌ من مشاهير المجال الثقافي والفني في إسبانيا إلى جمع توقيعات على بيان تضامني، داعين الموقعين لحضور وقفة رمزية في آخر أيام معرض الكتاب في مدريد، 15 يونيو/حزيران الجاري، للإعلان عن البيان ومطالبه، والتقاط صورة جماعية.

تضمن البيان فقرة منعتني وآخرين عن توقيعه والانضمام للوقفة/الصورة، وهي "نطالب بالتحرير الفوري للرهائن الذين لا يزالون بحوزة حماس، وندين الهجمات الإرهابية ليوم 7 أكتوبر". وهي الفقرة التي، وإن لم يتغير فيها حرف واحد قبل عشرين شهرًا، كان وقعها سيختلف بالكامل.

يقف السياسي والمثقف أمام أربعة مستويات للفعل والأداء؛ القبول بما هو مهين والاستكانة له، القناعة الكاملة بما يسمونه "فن الممكن"، الحلم بالمستحيل والعمل لتحقيقه، والعيش داخل المستحيل بتصور أنه سهل ويكاد يتحقق تلقائيًا.

أربعة مستويات شديدة الاختلاف، لا علاقة لها في أحيان كثيرة بما يدعيه السياسيون والمثقفون عن عملهم ودورهم، بل بما يقومون به فعلًا. فربما يقولون لنا "نحن نفعل المستحيل"، في حين أنهم عمليًا لا يُراوحون المنزلة الأدنى من المستويات الأربعة؛ القبول بالمهين، والتحرك داخله، وتبريره وتسويقه. لا أحد يفعل المستحيل، فالمستحيل إن فُعل أصبح ممكنًا وليس مستحيلًا. وربما يقول لك المثقف إنني أحلم بالمستحيل، أدعو إليه، لكنه محاصر في أوهام مرضيَّة داخل هذا المستحيل، تدفعه ليتخيل واقعًا غير موجود حقيقة.

نستطيع رصد مستوى القبول بالمهين في الكثير من النماذج حولنا، من سياسيين ومثقفين يقبلون بدور الموظفين التابعين لجهة ما، تفرض عليهم تحركاتهم، بل وأفكارهم، تحت مظلة تبرير نفسي مريح مفاده "ما باليد حيلة". بينما في البلدان التي تتمتع بدرجة من الشفافية والديمقراطية، يتحرك السياسيون والمثقفون عادة داخل منطقتين؛ إما فن الممكن، باعتبار السياسة والثقافة مجالين لإدارة وتطوير شيء ما في حدود المتاح، ودون شطط. أو أنهم يطمحون، إن كانوا متمردين أو ثوريين أو حالمين، وأحرارًا حقًا، بالمستحيل. يحاولون الاقتراب منه رغم صعوباته، ورغم كل المعوقات التي تمنعهم عنه، بحذر كيلا ينزلقوا لمصائر بعض أسلافهم ومعاصريهم الذين شطحوا، ولم يدركوا أنهم وصلوا لمنطقة العيش بالكامل داخل وهم.

تحدي العدو والحلم بالمستحيل

النائبة الفرنسية/الفلسطينية ريما حسن في إحدى جلسات البرلمان الأوروبي، ديسمبر 2024

في مقالي السابق عن زمن العضلات المفرطة، وردت هذه العبارة في سياق الحديث عن نساء من بينهن جريتا ثونبرج "نساء غاضبات، يبدون قليلات الحيلة. لكنهن يتضامن ويعملن من أجل الضعفاء. يُشكِّلن مفاصل حركة التضامن العالمية التي تتسع كل يوم مع ضعفاء فلسطين". هناك امرأة أخرى شاركت جريتا ثونبرج رحلة القارب مادلين باتجاه غزة، وتستحق التوقف عندها؛ السياسية الفرنسية/الفلسطينية ريما حسن.

استعادت ريما حسن من فوق القارب مادلين عبارة للثوري والمقاتل الجزائري الذي اغتيل في السجون الفرنسية بعد التعذيب، محمد العربي بن مهيدي، "القوا بالثورة في الشارع، سيحتضنها الشعب". وعبرت عن نيتها بأن ترسم على وجهها، وقت اعتقال قوات الكوماندوز الإسرائيلية لها، نفس ابتسامة مهيدي التي أغاظت جلاديه الفرنسيين قبل عقود. وهو ما حدث فعلًا، واستمر لبضعة أيام، برفضها وبعض رفيقاتها ورفاقها التوقيع على قرار الترحيل من إسرائيل. فهم لم يذهبوا إلى إسرائيل، بل إلى غزة، إلى فلسطين.

ريما حسن، ابنة الفلسطينيين، التي حملتها أمها طفلة من مخيمٍ للاجئين في سوريا إلى فرنسا، وتفوقت ودرست القانون، أدركت مبكرًا مسألتين، أولهما أن سعيها للعمل السياسي باعتباره مجالًا نضاليًا يجب أن يكون سعيًا للوصول للمستحيل، لا فنًّا لإدارة الممكن. وأدركت أيضًا أن شعبيها، الفلسطيني والفرنسي، يحتاجان للمستحيل وليس للممكن. وإن الاكتفاء بالممكن يتضمن في جوهره خطر الانحدار للقبول بالمهين.

أن تستعير السياسية، عضوة البرلمان الأوروبي عن اليسار الفرنسي، تعبيرًا مقلقًا للفرنسيين، كونه منسوبًا لمن يعتبره قطاع منهم إرهابيًا لانتمائه لحزب الشعب الجزائري، وإن قُتِل قبل عشرات السنين، لا يمكن اعتباره تحديًا مؤقتًا، مرهونًا بلحظة القارب ومحاولة الوصول لأرضها فلسطين. بل إنها، ورغم كونها عضوة برلمان يسعى للاستقرار، وضبط الصراعات، تتحدث عن ثورة، وتتحدث عن شعب قادر على التقاطها من الشارع، احتضانها، وتطويرها.

لم يعد أمام السياسة الجادة إلا التطلع للمستحيل، لا تأبيد المُهين للحفاظ على الممكن

تتجاوز ريما حسن العديد من الحواجز أبعد من استعارة جملة أو ابتسامة، ومن قبلهما فعل المقاومة نفسه عبر الإبحار إلى غزة بقارب، عبر تحديها لليمين الفرنسي، وللقطاعات المجتمعية المصوتة له، وإشهارها شعورًا عميقًا بالحرية وبأنها لا تدين لهم بشيء. لا تحاول إرضاءهم أو تجنب غضبهم، فتتكرر مواجهاتها مع هذا اليمين متهمةً إياه بالكولونيالية، وبمواصلة رؤية الجزائر وكأنها مستعمرة. وتتورط أكثر فأكثر في هذه المواجهة بتركيز العمل على القضيتين؛ فلسطين، والمهاجرين العرب لفرنسا وأوروبا.

عبور ريما حسن للحاجز الفاصل بين الممكن والحلم بالمستحيل لم يعد مفارقة فردية أو نادرة. بل هي تعبير عن نماذج جديدة بدأت في الظهور خلال العقد الأخير، وإن لم نعرف عن أغلبهم. نساء ورجال من أجيال شابة، لا يدينون لأحد، ولا يشعرون بالدونية تجاه بلدانهم البديلة عن بلدانهم الأصلية. مُحمَّلين فقط بدين للتاريخ، مثلما بحثت هي عن محمد العربي بن مهيدي، وتحديه للمستعمر، لجلاده.

يبحثون في هذا التاريخ عن مادة ونضالات ونماذج ووقائع، ليس فقط ليفهموا الواقع الآني، بل ليقفوا على أرض أكثر صلابة تربط القضية الفلسطينية بكل ما يشغل المجتمعات التي يعيشون فيها من القضايا الآنية، وتشغل العالم، مثل مكافحة الفقر والتمييز والعنصرية، والتغيير المناخي، والاستعمار الأنيق، وحق الهجرة واللجوء، والتصدي للموجة اليمينية الفاشية العاتية.

إرضاء العدو والقبول بما هو مهين

لأعود للفقرة السابق الإشارة إليها في بيان المثقفين الإسبان؛ المطالبة بإفراج حماس الفوري عن الرهائن، وأن ندين عملية السابع من أكتوبر، وكيف تتغير دلالة اللغة بناءً على التوقيت، وإن مرت شهور وليس سنوات عليها.

الاعتراض على هذه الفقرة في بداية الإبادة كان سينبع وقتها من الخلاف الفكري والسياسي حول عملية طوفان الأقصى، وما إذا كانت هجمة إرهابية لا بد من إدانتها، أو عملية مقاومة لا بد من تمجيدها، أو عملية مقاومة ارتُكبت فيها أخطاء وبعض ما حدث في سياقها لا يستحق الإعجاب. كانت المسألة ستنتهي هنا، وبالذات في ظلال الأيام الأولى والأصوات المتطوعة الصاخبة المطالبة بالثأر لـ"المدنيين" الإسرائيليين.

لكنها الآن، بعد 20 شهرًا من الإبادة، وبعد كل ما يحدث، لم تعد مجرد مسألة قابلة للنقاش والخلاف. لم تعد تحتمل سوى الاستهجان. فنقاش "إرهاب أم مقاومة" اتجه إلى أسفل بانحدار مريع خلال هذه الشهور؛ من مساحة العيش في المستحيل لبعض الفنانين، إلى الحلم بالمستحيل الذي يحتضنه الفنان والمثقف والسياسي الطامح لتغيير العالم حقيقة، إلى سقف العمل داخل سياق الممكن، لتصل إلى أدنى المراتب، القبول بالمهين، بل ومحاولة إرضاء من يدينهم البيان نفسه، إسرائيل التي تمارس الإبادة، التي اتضح أمام الجميع أنها ليست رد فعل، أو دفاعًا عن النفس.

ينقص البيان الكثير بجوار هذه الفقرة ليدخل في دائرة الممكن، ويخرج عن دائرة المهين الذي يحاول أن يرضي العدو، وذلك مع تجاهل عدم لياقته بعد كل ما حدث من إبادة جماعية وتجويع وقتل للأطفال. ينقصه الواقع، الحقيقي، الملموس، لينتشله من هذا الانحدار. ينقصه أن يصف إسرائيل بالدولة الإرهابية. أن يذكر آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجونها منذ عقود. أن يحكي كيف لم تحترم الدولة الإرهابية صفقات تبادل الأسرى وأعادت اعتقال بعضهم واغتالت البعض الآخر بعد تحريرهم، وعن قصد. وألَّا يتجاهل أن من تراجع عن الهدنة، وعن جدول التبادل وتحرير الأسرى وإدخال المساعدات لغزة، لم تكن حماس، فإسرائيل نفسها من أوقفت عملية تحرير أسراها.

النيات الحسنة، التي لا أنفي حضورها عند من صاغوا هذا البيان وغيره، ومن وقعوا عليه، ومن ذهبوا لالتقاط الصورة الجماعية، تحمل أحيانًا مقتلها، نقيضها. أنها في حقيقتها مُحلقة لا أساس لها تصطدم بواقع حقيقي وعالمي مفاده أنه لم يعد هناك للسياسة والثقافة الحقيقيتين، الجادتين، مجال سوى التطلع للمستحيل، مثلما تفعل ريما حسن والكثيرون والكثيرات غيرها. العمل من أجل أن يتحول ولو بعض المستحيل لواقع ممكن. أما غير ذلك، فهي سياسة وثقافة وفن بِسِمات "وظيفية"، لن تترك في تاريخ العالم أثرًا سوى وصولات التوقيع على الراتب المحصل مقابل ثقافة وسياسة استهلاكيتين، تؤبدان المهين بحجة الحفاظ على الممكن.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.