تصميم: أحمد بلال- المنصة

حين فقدنا ضحكًا كالبكاء

منشور الخميس 13 يوليو 2023

في بداية قراءاتي السياسية، اطلعت على وثائق القوى اليسارية والديمقراطية البرازيلية في مرحلة مناهضة الحكم العسكري، واستوقفني وقتها تكرار شعار بعنوان "نحن لا نخشى أن نكون سعداء" في بيانات مختلفة.

أتذكر ذلك، ونحن في أيام ترتبط فيها السعادة بالاستهلاك بدلًا من الحرية، حتى أنهم أنشأوا لها وزارة في الإمارات العربية المتحدة، وهي الدولة صاحبة أكثر شبكات مراقبة ومتابعة السكان إحكامًا ونجاعة في المنطقة. 

في نشيد موطني، الذي ألفه الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، تأكيد صارم أننا كعرب لم نعد نريد عيشنا المنكد وذلنا المؤبد، تجول هذه الكلمات في خاطري كلما كتبت عن الإهانة والتكدير كشرطين لازمين لحكم الطغيان المعاصر في مصر.

هذا بلد ضحى فيه البعض بوظائف وعلاقات ومصالح على مذبح "إفيه" توَجب قوله في لحظة معينة

مواطن سعادتنا في مصر قليلة من الأصل، فقيرة ومقفرة على المستوى المادي، نعوضها بصيغ معنوية موروثة من ثقافة "الونس" الذي يُعين على احتمال البؤس الريفي، وكانت قدرتنا على السخرية والاستظلال بالخفة واحدة من مقادير السعادة القليلة والمحدودة في حياتنا، فهل حرمنا عصرنا الحالي أحد أعز ما نملك؟

خفة الظل هوية

 الثابت أننا، وعلى مر عصور طويلة، نتسم بكوننا شعب خفيف الظل سريع البديهة، قدرتنا على السخرية مشهود لها ممن يشاركوننا اللغة. نحن نثمن قدرتنا على السخرية ونفخر بها، نراها في صميم تقدير الإنسان للإنسان. وفي أحيان أخرى نعتبرها مناطًا للحكمة، وفي كثير من الأحيان تعبير عن أعلى درجات الجسارة والحماقة. فهذا بلد ضحى فيه البعض بوظائف وعلاقات ومصالح على مذبح "إفيه" توَجب قوله في لحظة معينة. قد يغفر المصريون أشياء كثيرة لا أخلاقية، أو يتغاضون عنها، لكنهم لا يتسامحون مع ثقل الظل.

خفة الظل في مصر أيضًا أحد مداخل نجاة الفرد داخل بيئات شديدة الصراعية والقسوة، فأثناء اللعب في الشارع يتسيد الذكور الأقدر على العراك وتكوين المجموعات وفرض السيطرة. لكن وسط هذه الغابة الصغيرة ينجو الأولاد الطيبون من أصحاب المهارات العالية في لعبة كرة القدم، وينجو معهم الأولاد الظرفاء خفيفو الظل.

المعيار نفسه ينطبق على ثقافة الاجتماع في مدراس البنين، حيث يتم التنمر بالطلبة المتفوقين الجالسين في الصفوف الأمامية، وينجو الأولاد خفيفي الظل وحريفة كرة القدم داخل مصفوفة الصراع التستستروني المراهق.

صحيح أن المكون المحافظ في الثقافة المصرية، وخاصة في أوساط الأعيان والبرجوازية، كان في الماضي لا يستسيغ "السخرية" و"التهريج" باعتبارهما عملًا من أعمال العوام الذي يحط من مكانة صاحبه، خاصة النساء منهم. حيث يُفضل للمرأة الجميلة بنت الأصول أن تكون متحفظة، ثقيلة الظل، كجزء من بناء صورة "الهانم التركية"، لكن الأمر تغير تدريجيًا مع الزمن، ولم تعد خفة الظل سلاح اضطراري لقليلة الجمال في حلبة المنافسة بين النساء، ولم تعد النغاشة شرط الوحاشة بالتعريف.

لأنه لو أعاد الزمن لنا زينات صدقي شابة على شاشات ملونة، لاكتشف الكثيرون أنها امرأة جميلة، ولو ذهبت روبي بسمارها وخفة ظلها إلى سينما ودراما الماضي لربما تم حصرها في أدوار الخادمة.

انتصرت المصطبة على الصالون واستطاع المصريون خلال القرن الماضي تحويل الظرفاء من مسخ ومساخر إلى أعمدة للحكمة والموعظة

شاركت تيارات التقليد الإسلامي أيضًا في تحقير السخرية والضحك باعتبارهما جزءًا من حالة غير مهذبة، ترتبط بعدم انضباط لا يليق بالأفندية من ذوي الطرابيش. فمن بين عشر وصايا حددها حسن البنا إلى تلاميذه من الإخوان المسلمين، اثنتين منهما تشتبكان مع هذا الشأن، فتأمر واحدة الفرد المسلم بألا يكثر من الضحك لأن القلب الموصول بالله ساكن وقور، وتطالبه الثانية بألا يمزح فإن الأمة المجاهدة لا تعرف إلاّ الجد.

لكن الحس الريفي انتصر في النهاية، وبشكل عام انتصرت المصطبة على الصالون واستطاع المصريون خلال القرن الماضي تحويل الظرفاء من مسخ ومساخر إلى أعمدة للحكمة والموعظة، وفي أحيان أخرى استخدموهم كاستراحة إنسانية وسط الصراع بما جعل حبهم للسخرية يطغى، في كثير من الأحيان، على مشاعرهم العدائية، فترى بعضًا منهم تلين قلوبهم ناحية خصومهم إن كانوا خفيفي الظل.

يُجمع كثيرون على خفة ظل الشيخ عبد الحميد كشك، ويكره العلمانيون الشيخ وجدي غنيم لكن خفة ظله تضحكهم حتى وهو يصيغ خطابات كراهية واضحة ضدهم. عادل إمام هو شيطان أكبر عند الإسلاميين ولكنه يُضحكهم في السر والعلن. أما مرتضى منصور، رجل من الصعب أن تحمل ناحية وجوده أي قدر من الود، ولكنه قادر على إضحاكنا في أوقات كثيرة. بل إن الرئيس الراحل أنور السادات كان شديد الإرباك لخصومه، حيث كانت خفة ظله قادرة على إضحاكهم بينما كان يلقي خطاب سبتمبر 1981 الشهير، الذي كان على المستوى السياسي مشهدًا ينضح بالجبروت والطغيان.

 

من أعز ما نملك

القدرة على السخرية هي إدراك مركب للواقع وتعبير لماح وبديه عنه، وإدراك المفارقة الساخرة يأتي من امتلاك الإنسان لتوقعات من حياته ومن علاقة هذه التوقعات بوعيه بواقعه وملابساته، ثم قياس ذلك على تصورات قيمية وأخلاقية معينة، وهذه عملية تتطلب ذكاء وشجاعة بالتعريف.

لكن انكسار القلب قد يجلب معه ثقل الظل، والحقيقة أنه ليس انكسارًا للقلب في ذاته، بل العجز عن إدراك كونه منكسرًا. فالمصريون كانوا دومًا قادرين على السخرية وهم في أشد مواطن الذلة، لكن بشرط الوعي بكونها مذلة، وهو جزء من عملية الإدراك المركب للواقع والجسارة على التعامل مع قسوته.

الإنكار يدفع إلى ثقل الظل. بعد عام 2013، لمع مسرح مصر، بقيادة أشرف عبد الباقي كصرعة جديدة في الكوميديا. كان ناجحًا على المستوى الجماهيرى، وهالني وقتها ثقل ظل ما يقدمه. لكن الأكثر هولًا كان إعجاب قطاعات واسعة من الناس بهذا المستوى من ثقل الظل. هذه ليست مصر التي أعرفها، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون أوس أوس سببًا لإضحاك الناس من القلب.

وحين طرحت هذه التساؤلات وقتها كانت الإجابة هي أن الناس "عايزة تضحك". أدركت وقتها أن الفرح والضحك غائي وإلزامي كطقس، كمن يذهب إلى حفلة يدفع في تذكرتها مالًا فيجب عليه التمتع قسرًا بقيمة ما دفعه.

حالة تضحيك الذات وزغزتها قسرًا تحت شعار "سيب الفرحة تخش التاكسي" أصبحت عملية استهلاك في ذاتها؛ استهلاك لسلعة اسمها ضرورة الضحك. ومع الوقت، لم يعد اللطف بداهة، بل أصبح محاطًا بخليط من المحاذير والبلادة والغباء.

كان مهرج البلاط شخصية محورية لأنه الوحيد القادر على السخرية بحرية حتى من الملك ذاته

لايمكن للساخر أن يكون غبيًا، ولا يوجد ساخر مفرط في التعريص إلا فيما ندر. انحطت الكوميديا في مصر، لا لحزن الناس ولا فقرهم أو إحباطهم، ولكن لأن الضحك في مصر لم ولن يلتقي مع التعريص والغباء. التجرؤ على السلطة والمجتمع والدين كانوا دومًا جزء لا يتجزأ من البسمة المصرية، منذ زمن نجيب الريحاني ثم إسماعيل يس مرورًا بعادل إمام وصولًا إلى محمد سعد.

هؤلاء أحبهم العوام، وكثير منهم من المحافظين المتدينين، لأنهم تجرأوا على سلطة الحُكم والأسرة والمجتمع والدين، بل وتجرأوا على مصر نفسها. إسماعيل يس في فيلم الفانوس السحري كان يسخر من الجني عفركوش لأنه يبحث عن سيدنا سليمان، حتى أنه نصحه بالبحث عنه في القدس قبل أن يخبره لاحقًا أنه مات، وكانت هذه جرأة تضحكنا. أما محمد سعد فبدأ فيلم اللمبي وهو يغني مخمورًا "وقف الخلق" ساخرًا من أنشودة مصر تتحدث عن نفسها، وهي درة درر الوطنية المصرية.

في مصر دفع خليط الطغيان والإنكار بالسخرية إلى مساحة الظل الثقيل. الطغيان الحالي تافه وهش وكئيب، لايتسامح مع اللطف. والمجتمع بالمجمل لم يعد من بين مكوناته صيغة جماعية للاتفاق على الخطوط الحمراء، فأصبح ملغومًا في بداهته.

منذ أعوام، ألقي القبض على شاب لأنه كان يقلد أصوات مذيعي إذاعة القرآن الكريم، عوملت إذاعة القرآن الكريم وأصوات مذيعيها على أنهم إحدى سور القرآن ذاته. وكان هذا مجرد جزء من مشهد في فصل استباحة قمع السخرية، وحكم الطغيان التافه، والتهابات ملغومة في المجتمع نتجت عن جروح صار نكئها بالسخرية شبه مستحيل في ظل تواطؤ الغالبية بالإنكار.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.