تصميم: أحمد بلال- المنصة
ربما نريد أن نثبت لأنفسنا أننا أقوياء مثل السلطة، لدينا قدرة وقوة وهيبة

القوة الغاشمة في الأغنية المصرية.. هاني شاكر والدولة في مواجهة الأخصام

منشور الخميس 10 أغسطس 2023 - آخر تحديث الخميس 10 أغسطس 2023

أطلق هاني شاكر، مؤخرًا، أغنيته الجديدة "الكبير"، عبر قناته الرسمية على يوتيوب، ولا يخفى على أحد مدى تأثرها بخطاب أغاني المهرجانات والتراب التي تدور موضوعاتها كلها تقريبًا حول الأخصام (الأعداء) الذين سنسحقهم، وتمجيد الفحولة، والرجولة، والتلويح بالعنف بين كل شطر وآخر من كلماتها، وهي الأغاني ذاتها التي كان يتصدى لها هاني نفسه أثناء توليه منصب نقيب الموسيقيين، والتي كان حتى وقت قريب يُدينها في حواراته دائمًا.

ليس الغرض من هذه الإشارة كشف تناقض "الفنان الكبير"، ولكنها سؤال عن دلالة خضوع هاني شاكر في النهاية لخطاب سحق الأخصام في الأغنية؟

تنقسم أشهر الأغاني المصرية في السنوات الأخيرة، غالبًا، إلى موضوعين الأول (أنا رايق) والثاني، والأشهر والأهم، أغاني (أنا وأخصامي) أي أنا وأعدائي؛ كيف انتصرت أو سأنتصر عليهم، المليئة بخطاب يُصدر الذكورية والعنصرية والتكبر.

تسربت تلك الأغاني ومواضيعها من المهرجانات إلى التراب، ونظرًا لنجاحها الساحق بدأت أيضًا تغزو الخطاب الغنائي التقليدي، فنجدها مثلًا بشكل صريح وناجح عند أحمد سعد في أغنية وسع وسع، أو الملوك مع عنبة ودوبل زوكش، وأخيرًا تظهر بشكلها الركيك والفج والعجائزي في أغنية "الكبير" لهاني شاكر، الحارس الأخير للأغنية الرومانسية، الذي تقهقر أمام خطاب سحق الأخصام.

خطاب الدولة

‏ينصحنا هيجل كي نفهم العالم ولا نعيش فيه غرباء أن نعي قوى التغيير التي تعمل داخل المجتمع، ونوع الخطاب الذي تصوغه تلك القوة لإحكام سيطرتها(1)، والمراقب لخطاب رموز السلطة المصرية الحالية، السياسي والإعلامي؛ سيتبين له مدى التماس بينه وبين خطاب سحق الأخصام المسيطر حاليًا على الأغنية في مصر؛ التآمر، والتخابر، الأعداء في الداخل وفي الخارج، والترهيب من المتآمرين على مصر والمتربصين لسقوطها ولكننا دائمًا نهزم أهل الشر في النهاية، وهو خطاب يبدو أنه تسرب إلى وجدان الشعب فصار بعضه يؤمن به، والبعض الآخر يسخر منه.


ظهر خطاب القوة الغاشمة للدولة في ظل أحداث إرهابية ودموية، وساهمت الدراما الدعائية والأغاني الوطنية مع ذلك الخطاب في تكثيف النبرة وتسربت من الدولة إلى الأغنية، أو بمعنى أدق غذى خطاب السلطة خطاب الأغنية، وأجازه في إطار روح قومية تسعى الدولة لتشكيلها، أو خرج الخطاب الغنائي عفويًا لسوق الأغنية ونجح لأنه يتماهى مع خطاب السلطة، غير أنه يُلاحظ أن هناك انسجامًا بين خطاب الأخصام في الأغنية وصورة السلطة عن نفسها، بشكل غير مباشر، أقصد صورة السلطة في عيون مؤيديها.

أتذكر من أكثر من عام انتشرت على السوشيال ميديا مقاطع فيديو معدلة صوتيًا للرئيس السيسي وهو يقود دراجة هوائية بثقة ولياقة في الفجر، وخلفه رجاله على درجاتهم، على أنغام أغنية تراب/مهرجانات تُروج للقوة والتفرد (جامدين ومفيش إلا إحنا)، وغيرها. وكان يحتفي بها أنصار الرئيس وينشرونها على صفحاتهم مصحوبة برسوم تعبيرية تضحك حتى الدموع، لتوحي بأنه لا مانع من أن ننحدر لهذا الذوق الفني المتدني؛ إذا كان يعبر عن القوة التي نرغب في استعراضها عن رموزنا يا أيها الأخصام، متغافلين، أو جاهلين كون خطاب الأخصام الغنائي- في جوهره- لا يختلف كثيرًا عن خطاب السلطة نفسها.

داخل فقاعة محاربة الأخصام

يقول جين شارب في كتابه "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"، إن العديد من الشعوب التي تعيش تحت القمع المحلي أو الأجنبي يتجذر بداخلها تدريجيًا الخنوع إلى رموز السلطة والحكام دون مساءلة، ينغرس في الذهن تدريجيًا مع الأيام، وتكون مؤسسات المجتمع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الدينية أُضعفت عمدًا أو حُولت إلى مؤسسات تابعة أو استبدلت بمؤسسات صارمة، تستخدم من قبل الدولة أو الحزب الحاكم للسيطرة على المجتمع، ويكون المواطنون قد شُتتوا لدرجة أنهم أصبحوا كتلة من الأفراد المعزولين الذين لا يستطيعون العمل معا لنيل الحرية أو نيل ثقة بعضهم البعض أو حتى المبادرة بأي شيء. تكون النتيجة بطبيعة الحال متوقعة، يصبح المواطنون ضعفاء لا حول لهم ولا قوة وتنقصهم الثقة بالنفس وغير قادرين على المقاومة.(2)

حكى لي صديق مصري يعيش في إحدى العواصم الأوروبية منذ أكثر من عشر سنوات، أنه في فترة من إقامته بشكل غير قانوني، وقع في مشكلة مع جار له، شاب بلطجي من أصول شمال إفريقية، وكان يتوعد صديقي بالأذى بعد شجار دار بينهما في يوم، مما جعل صديقي، يوميًا، يعمل ألف حساب وحساب إلى اللحظة التي سينتهي فيها من عمله ويعود إلى البيت، فقد يجد البلطجي في الشارع تحت تأثير مخدر ما ويؤذيه، ولذا كان صديقي يتخذ طريقًا مقطوعة مظلمة، لكي يبتعد قدر الإمكان عن مواجهة البلطجي وجهًا لوجه في مكانه المعتاد، لكنه كان يمشي مرتعبًا من فكرة أن يكون البلطجي أو أحد أعوانه قد تبعه، فيستفرد به وحده في الطريق المقطوعة ويوسعه ضربًا أو يزهق حياته.

https://soundcloud.com/youssef-pes21/s

كان هناك شيء واحد يساعد صديقي على أن يستكمل بشجاعة طريقه المظلم المخيف في ظل ترقب هجوم خطر محدق، لا ليست التراتيل الدينية، إنما أغاني المهرجانات التي تقول: أنت قوي، وأخصامك تافهين، أنت بطل، وأخصامك لا شيء، يمكنك أن تسيطر على شارع بأكمله لا يوجد فيه أحد في قوتك، كانت أغاني سحق الأخصام، بكلماتها وموسيقاها الحماسية تصنع لصديقي هالة وهمية ترد إليه شجاعته، أو بالأحرى تخلق له صورة وهمية عن نفس شجاعة فقدها تقريبًا، وسيفقدها كل من كان في مكانه.

الاقتداء بالغالب

يجوز أننا مع إقصائنا من المشهد تمامًا بعد سيطرة السلطة على كل شيء تقريبًا، من مجال عام، وحياة سياسية، وإعلام، وانفرادها وحدها بالقرارات، صرنا كشعب، دون صوت، حائرون بين تصورين، يمكن لظاهرة انتشار خطاب القوة الغاشمة على الأخصام في الأغنية أن توضحهما لنا.

الأول شعورنا بانسحاق عميق، وعجز مخجل، وقلة حيلة مهينة، فصرنا نبحث عن نجاحات، انتصارات، بطولات وهمية، وأعداء وهميين نغلبهم في أغاني الأخصام (وهذا ربما يبرر نجاحها الساحق). والثاني أننا، وكما قال أبن خلدون في مقدمته، نتمثل من يقهرنا، بخطابه، وقوته "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، فالنفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها، وتنقاد إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه"‏.

ربما نريد أن نثبت لأنفسنا أننا أقوياء مثل السلطة، لدينا قدرة وقوة وهيبة، وخطاب مليء أيضًا بالقوة الغاشمة متمثل في ترديد أغانيها. ويُفسر حسين نشوان في كتابه إرث الدم، ظاهرة تبادلية الخطاب تلك؛ أن التابع يرى في صورة المتبوع نقيضه في القوة والذكاء والعظمة والقدوة التي تمنحه النموذج، ونزعة السيطرة، فيسعى لامتلاك صفاته بالمشابهة، والعلاقة بينهما هي علاقة تشابك وتماثل واتصال، وليست قطعًا وانفصالًا فحسب، وهي علاقة ظلية بين التابع والمتبوع وفي ظل اختلاط الخطابين وتشوهاتهما تختفي ملامح المقهور وصورته وصوته.

سيطرة كرتونية

تتراءى لي تصريحات مسؤولي نقابة الموسيقيين وهي تُلوح بالمضايقات على أغاني المهرجانات والتراب، وكأنها تغمز لسلطة ما أعلى وتضرع: (شيفاني – راضية عني)، وهي لا تعي أنها تُضيق الخناق على صدى صوت السلطة نفسها التي تحاول إرضاءها، أو أضعف الإيمان أغاني أفرزتها خطابات السلطة أو هيأت لها الصوبة الاجتماعية الملائمة لنموها، أما السلطة فتترك النقابات لتستكمل مضايقاتها لصدى صوتها، حتى تتحكم في ذلك السلاح الخطير، وتترك لصدى صوتها الحبل على مهل، مع التذكير دائمًا، أن هناك حدودًا لبراح الحبل مربوطًا في النقابة، فلا تصدي إلا لصوتي.

أتصور أننا نتماهى مع خطاب القوة الغاشمة لسحق الأخصام في الأغنية لكوننا جميعا خائفين، ربما لكونه خطابًا غنائيًا يعوضنا، بكلمات تُثير بداخلنا مقدرة كاذبة، وسيطرة كرتونية وشجاعة سينمائية، عن خوف مريع بداخلنا، تجاه المستقبل المقلق، ومن السلطة نفسها حين تكون غاشمة، ولذلك، ولما سبقه، كان لزامًا على هاني شاكر أن يخضع في النهاية لخطاب "أنا والأخصام".


(1)كتاب إرث الدم.. العلاقة الملتبسة بين الجلاد والضحية تأليف حسين نشوان، دراسة. دار: الآن ناشرون وموزعون، نسخة تطبيق أبجد.

(2)كتاب من الدكتاتورية إلى الديمقراطية إطار تصوري للتحرر، تأليف جين شاري ترجمة خالد دار عمر- الناشر: مؤسسة ألبرت أينشتاين(ص11،12)