موقع رئاسة الجمهورية
حقل ظهر

مصر الحائرة بين استهلاك الغاز أو تصديره

منشور الخميس 10 أغسطس 2023

خلال الأيام السابقة، تجددت ذكريات المصريين مع الانقطاعات المتوالية في التيار الكهربائي، والتي عرفوها من قبل في 2013. 

وأرجع مسؤولون حكوميون الأزمة الحالية إلى نقص إمدادات الغاز، بجانب التقارير التي تحدثت عن مشكلة تسرب مياه إلى حقل ظهر، نتيجة معدلات الاستخراج المرتفعة منذ بداية استغلال الحقل، ما أدى إلى انخفاض نسب الإنتاج.

تبدو قصة مصر مع الغاز مليئة بالمشاهد الدرامية، بدءًا من الطموحات المعلقة على الاكتشافات التي تعلن عنها الشركات الدولية في الأراضي المصرية، إلى الجدل الشعبي حول إهدار هذه الثروة لصالح رجال الأعمال أو لصالح إسرائيل.

وبين صعود الروح المتفائلة بشأن طفرات استخراج بالغاز، وانهيار الروح العامة مع دخولنا في أزمة جديدة، تظهر الحاجة لتفسير شامل يشرح سبب الدخول في دورات الصعود والهبوط تلك.

ماذا فعلنا بالغاز ؟ قصة العقد الأول

ترجع اكتشافات الغاز الطبيعي في مصر  إلى أواخر الستينيات، ولكنها لم تكن أبدًا بالأهمية التي اكتسبتها حتى بداية الألفية، حين أدت هذه الاكتشافات إلى زيادة احتياطيات مصر من الغاز الطبيعي بشكل كبير وجعلتها لاعبًا هامًا في أسواق الغاز الطبيعي العالمية.

وكأي مورد طبيعي، تصبح الخيارات المتاحة أمام الدولة لاستغلال ذلك المورد هي إما الاستهلاك المحلي أو التصدير للخارج.

تحولت الثروة الجديدة إلى واحدة من أكثر القضايا الشعبية الساخنة خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، مع انتقادات البعض لتصدير الغاز لإسرائيل، والمطالبة بشفافية عقود التجارة بين البلدين.

كذلك دار الحديث عن منح هذه الطاقة بأسعار بخسة للصناعات المحلية كثيفة الاستهلاك، من بينها صناعة حديد التسليح التي كان يمثلها أحد قيادات الحزب الحاكم في ذلك الوقت، أحمد عز. وهي السياسة التي شهدت الكثير من التراجع في أعقاب ثورة 25 يناير 2011.

لكن الصورة الإجمالية تعكس محاولة الدولة في ذلك الوقت الاستفادة من الغاز بشكل متوازن وتوظيفه بين استخدامات متعددة، وفي سبيل ذلك قامت بضخ الاستثمارات العامة على مختلف النواحي.

فمن ناحية، قامت بإنشاء خط الغاز العربي عام 1999 والذي يمر بالأردن وسوريا، بينما لم يتم إنشاء خط شرق المتوسط الذي يمر بإسرائيل إلا عام 2008. وبين الفترتين، تعاقدت الدولة مع المستثمرين الأجانب من أجل إنشاء محطتي الإسالة، عالية التكلفة، في كل من إدكو ودمياط، وذلك بهدف الوصول بصادرات الغاز الطبيعي إلى وجهات أبعد.

معدلات إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي منذ بداية الألفية

طموحات التحول لمركز إقليمي للغاز

شكلت هذه الاستثمارات الضخمة دليلًا على أن رغبة النظام في التحول إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز الطبيعي كانت موجودة بالفعل مع بداية عصر الاكتشافات الكبيرة، سواء على صعيد تصدير الغاز المصري، أو استيراد الغاز الأجنبي وتسييله لتصديره مجددًا عبر البحار. 

لكن هذا الهدف لم يمنع الدولة من الطموح أيضًا في استخدام الغاز لخلق طلب محلي جديد لتنويع مصادر الطاقة، ما يساهم في تقليل فاتورة دعم الطاقة، وخاصة الكهرباء التي كانت تعتمد بالأساس في توليدها على منتجات بترولية أخرى.

وفي الوقت ذاته، بدأت الدولة في مد شبكات الغاز الطبيعي في باطن الأرض للمستهلكين المحليين، بدعم من البنك الدولي، وتشجيع المستهلكين على الانضمام للشبكة القومية، ما جعل الاستهلاك المحلي في نمو متزايد مع استمرار الزيادة السكانية.

ماذا فعل الغاز بنا؟ قصة العقد الثاني

مع نمو الطلب المحلي، وثبات معدلات إنتاج الغاز نسبيًا خلال السنوات الأخيرة قبل 2011، وفي ظل صعوبة الحصول على العملة الصعبة، تراكمت الديون المستحقة لشركات النفط الأجنبية العاملة في بلادنا، ما أحبط من خطط التوسع في الاستكشاف بشكل مؤقت، وأدخل البلاد في أزمة انقطاعات الكهرباء. 

لكن سرعان ما انقلبت الآية مع  توالي اكتشافات الغاز الضخمة في شرق المتوسط وتوقع الشركات العالمية لوجود ثروة هائلة من احتياطات الغاز في المنطقة. 

وبالفعل، تأكدت هذه التوقعات مع اكتشاف حقل ظهر عام 2015، وهو الأكبر على الإطلاق في حوض المتوسط.

كان ظُهر بمثابة طوق النجاة لقطاع الطاقة في مصر حينما تم بدء الإنتاج منه فعليًا عام 2017. وتزامن اكتشافه مع استقرار الحياة السياسية في مصر نسبيًا، الأمر الذي شجع الشركات الدولية على الاستثمار في قطاع الطاقة بمصر. وساعدت وفرة الغاز بالطبع على تلبية الطلب المحلي من جديد.

هكذا انتهى كابوس الانقطاع المستمر للتيار، بل وعادت البلاد مجددًا إلى تصدير الغاز، ليتوارى بذلك الانكشاف المتزايد الذي تعرض له الاقتصاد المصري مع تطاير الاحتياطات النفطية.

ومع هذه التطورات عاد مرة أخرى حلم التحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز، خاصة وأن مبارك ترك البنية الأساسية من خطوط للغاز وكذلك محطات الإسالة، التي أصبحت غير مستغلة بسبب نقص الغاز في السابق.

وقام حلم "المركز الإقليمي" على تصورات لإسالة الغاز، سواء المصري منه أو المستورد من البلدان القريبة عبر الأنابيب، ثم تصديره عبر البحر المتوسط، خاصة وأن أوروبا كانت تسعى في هذا الوقت لتنويع مصادرها بدلًا من الاعتماد المفرط على روسيا، وقد أثبتت الحرب الروسية الأوكرانية مؤخرًا صحة هذه المخاوف.

وما عزز من هذا المشروع الإقليمي أن بعض الدول المجاورة لمصر حظيت أيضًا باكتشافات كبيرة من الغاز خلال السنوات الأخيرة، وكانت في حاجة لتسييله وتصديره، فقد تم اكتشاف حقل لُفَياثان ذي الاحتياطات الضخمة نسبيًا عام 2010 بمياه إسرائيل الإقليمية، وكذلك حقل أفروديت بقبرص في 2011.

وقامت مصر بالفعل بعقد اتفاق لاستيراد شحنات غاز من إسرائيل وتسييلها وإعادة تصديرها، ولا تزال اقتراحات مد خطوط الغاز بين إسرائيل وقبرص واليونان ومصر وإيطاليا قائمة من أجل الوصول لأقل تكلفة لتحقيق الهدف المنشود.

حلم التصدير وواقع الاستهلاك

باختصار، كان ميراثنا من البنية الأساسية مع كل الظروف الإقليمية المحيطة يؤهل الدولة لتحقيق حلم تصدير الغاز الطبيعي، وهو أمر طالما تطلعت إليه الدولة في ظل ضعف تدفقات النقد الأجنبي والاعتماد الكبير على استيراد السلع النهائية والوسيطة.

لكن يتضح الآن أن ذلك الحلم يتعارض مع الواقع الذي خلقه مبارك بالعمل على تحويل هيكل الاستهلاك المحلي تجاه الغاز الطبيعي على حساب المنتجات البترولية الأخرى. وغياب الرؤية بشأن تطور الاحتياجات المحلية، التي مثلت عائقًا أمام التصدير كما نشهد هذه الفترة، ما أعادنا مجددًا لمربع الأزمة خلال الأشهر الأخيرة.

لا توضح البيانات الكلية بالتحديد أحجام الغاز التي تم استيرادها وإعادة تصديرها منذ العام الماضي. 

لكن تنامي الطلب المحلي وتفوقه أحيانًا على الإنتاج يتضح مع  إعلان وزير البترول التوقف عن تصدير الغاز خلال يونيو/حزيران الماضي، وربما يؤشر هذا التصريح أيضًا إلى أن الغاز المستورد بهدف إعادة التصدير يستخدم جزئيًا لتلبية الطلب المحلي، ما يزيد من صعوبة تحقيق الحلم المنشود مع الوقت.

وبعد مرور أكثر من خمسة أعوام على اكتشاف ظهر، لا نتصور إمكانية تحقق حلم المركز الإقليمي، خاصة مع تجدد أزمات الكهرباء، ودخول عامل مناخي جديد للمعادلة، ألا وهو درجات الحرارة التي زادت بشكل غير مسبوق هذا العام وباتت تشجع على استهلاك أكبر لأجهزة التكييف.

نستنتج من هذا التتبع لتاريخ مصر القصير مع اكتشافات الغاز الحديثة منذ بداية الألفية أن طموح الدولة المصرية لتعظيم الصادرات من هذه الثروة الصغيرة، يتعارض مع واقع الاستهلاك المحلي والتصدير، ما يستدعي بالضرورة العمل على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية في هذا المجال، وهو أمر مرهق أحيانا نظرًا لكونه رهن للأحداث العالمية والبيئة الاستثمارية المحلية.

تؤكد الأزمة الحالية ضرورة إعادة التفكير فيما نريده من الغاز المصري، وما أفضل استراتيجية يمكن اتباعها على المدى التطويل للاستفادة منه على أفضل وجه ممكن.