تصوير:رافي شاكر
صورة أرشيفية من منطقة رملة بولاق

"تكافل وكرامة".. قليل من "الزفر" لا يكفي

منشور الأربعاء 9 أغسطس 2023 - آخر تحديث الأربعاء 9 أغسطس 2023

بعد ثلاث سنوات من الانتظار على قوائم وزارة التضامن الاجتماعي للانضمام إلى المستفيدين من برنامج "تكافل"، تمكنت فاتن ربيع، من صرف المعاش، في عام 2021، ورغم إدراكها أن قيمته لا تناسب حجم نفقاتها، لكنها اعتبرته من المداخيل المهمة.

مع ذلك، تشعر السيدة، التي تعول أربعة أبناء في مراحل التعليم الأساسية، أن قيمة المعاش تتآكل كل عام أمام الارتفاعات المتوالية في الأسعار.

بدأت الدولة في تقديم معاشات تكافل وكرامة قبل نحو ثماني سنوات، ضمن رؤية للتحول في تقديم الدعم في صورة نقد بدلًا من السلع، لكن السنوات التي تلت إطلاقه شهدت موجات ارتفاع عنيفة في التضخم، لم يتزامن معها زيادات كافية في قيمة المعاشات.

في هذا التقرير، ترصد المنصة انعكاس الضغوط التضخمية على حزمة المساعدات الاجتماعية النقدية المشروطة التي تقدمها الحكومة لشرائح اجتماعية.

جنيهات قليلة وأفواه كثيرة 

خلال الثماني سنوات الماضية، استطاعت وزارة التضامن الاجتماعي أن توسع قاعدة المستفيدين من معاشات تكافل وكرامة إلى أكثر من 5 ملايين أسرة، وهو ما ساهم في تغطية العديد من الفئات المحرومة.

لكن الحكومة لم تفرض أي إلزام على نفسها بزيادة قيمة المعاشات الجديدة بما يتماشى مع معدلات التضخم، على عكس الإلزام القانوني بزيادة معاشات التأمينات الاجتماعية، وهو ما جعل الزيادات تتم بشكل عشوائي ولا تتسق مع الارتفاعات المتوالية في الأسعار.

معدل التضخم من 2015 إلى 2023

"600 جنيه وشوية.. كانوا ممكن ينفعونا من سنتين في شراء بعض لوازم البيت من فراخ ولحوم، لكن دلوقتي بالكتير أوي يجيبوا 2 كيلو لحمة"، كما تقول فاتن للمنصة.

وبحسب البيانات المعلنة من وزارة المالية، في موازنة العام المالي الجاري، فإن قيمة معاشات تكافل سترتفع هذا العام إلى 530 جنيهًا، بزيادة بنحو 25% عن العام السابق.

ويضاف إلى معاش تكافل منحة شهرية تتدرج من 75 إلى 125 جنيهًا (مقابل 60 إلى 100 جنيه في العام السابق) حسب التقدم في المستوى الدراسي للأبناء، وزيادة شهرية بحد أقصى 125 جنيهًا (مقابل 100 جنيه في العام السابق). وستزيد معاشات كرامة بنفس المعدل لتصل إلى 563 جنيهًا.

وخلال العام المالي2019-2020، ارتفعت قيمة معاشات تكافل وكرامة 100 جنيه، ثم جُمدت هذه المعاشات لخمس سنوات، حتى رُفعتْ مجددًا خلال العام المالي الجاري.

تسكن أسرة فاتن بمنطقة البساتين، أحد أحياء جنوب القاهرة، برفقة الوالدة المسنة، وبينما تتولى مسؤولية الإنفاق على أسرتها بعد انفصالها عن زوجها عام 2020، تشعر أن قيمة المعاش لم ترتقع بالنحو الذي يواكب تفاقم الأعباء الأسرية.

منطقة البساتين حيث تعيش أسرة فاتن - تصوير:أحمد البرديني

وللتعايش مع القيمة المحدودة لـ"تكافل"، غيرت أسرة فاتن من نمطها الغذائي، حيث قللت استهلاك البروتين الحيواني، في ظل ارتفاع أسعار الدواجن واللحوم والأسماك بشكل لافت في الأشهر الماضية، بحيث صارت اللحوم تقتصر على مرتين أسبوعيًا بحد أقصى، مقابل اعتماد أكبر على البقوليات.

بنكافح علشان نعيش اليوم بيومه هنكون محظوظين لو شفنا ولادنا بيتجوزوا

تعيش عائلة سيدة عبد الله تحت ضغوط مشابهة، إذ لا يعمل في الأسرة المكونة من 4 أفراد، سوى الابن الأكبر، ولا يكفي دخله لتغطية احتياجاتهم التي تتنامى مع التضخم المستمر.

"زوجي لا يعمل منذ سنوات، ومالناش معاش حكومي علشان إحنا مش موظفين، ابننا الكبير هو عائلنا الوحيد بيشتغل في ورشة ميكانيكا بالمنطقة"، كما تقول المرأة الخمسينية، للمنصة.

فقد الأب أحد أطرافه أثناء عمله بحرفة الرخام بمنطقة شق تعبان، الواقعة على أطراف حي المعادي، فيما انخرط الابن الأكبر محمد في حرفة الميكانيكا قبل سنوات، بعد أن خسر فرصة الحصول على شهادة دراسية، لتسربه من الحضور وكثرة رسوبه في سنوات التعليم الأساسي، إلى أن بات هو مصدر الدخل الوحيد لأسرته، بالعمل في ورش الميكانيكيا التي يقصدها أغلب أبناء حيه.

توجه سيدة الجزء الأكبر من معاش تكافل لسداد إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والمياه، بمجموع 450 جنيهًا، وما يتبقى منه بالإضافة لدخل الابن يكفي بالكاد للحد الأدنى من الطعام المطلوب للعائلة.

وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن شهر يونيو/حزيران بلغ معدل التضخم السنوي في أسعار الطعام والشراب 65%.

تشكو سيدة غلاء المعيشة، إذ لم تعد قادرة على القيام بعملية التدابير اللازمة لمقاومة غلاء الأسعار، ففي السابق كانت تقصد الفرارجي بدلًا من الجزار، كنوع من التوفير، أما الآن فوجبة الغداء تكلف أسرتها بين 150 إلى 200 جنيه، "بنكافح علشان نعيش اليوم بيومه هنكون محظوظين لو شفنا ولادنا بيتجوزوا"، تقول سيدة.

على فيض الكريم

رغم زيادة معاش "كرامة" بنحو الربع، لا يزال المعاش أقل من الحد الأدنى المطلوب من الدخل للبقاء فوق مستوى الفقر، والذي حدده جهاز الإحصاء في 2019 عند 735.5 جنيهًا شهريًا.

"بناخد 500 جنيه في الشهر من الحكومة هما كل دخلنا أنا ومراتي، بيقضونا أسبوع بالكتير وباقي الشهر على فيض الكريم"، كما يتحدث سيد جابر، أحد المستفيدين من برنامج "كرامة"، للمنصة.

يسكن جابر وزوجته، اللذان يتجاوزان السبعين من عمرهما، في حجرة بمنطقة عين الصيرة، التابعة لحي مصر القديمة، ولا يتمتعان بأي مظلة تأمينية بسبب عمل الزوج في مهن غير منتظمة قبل أن يبلغ الشيخوخة.

عمل جابر لسنوات كعامل بوفيه وساع بمكاتب محاماة، لكن مع تقدمه في السن استغني عنه، وبات معتمدًا على مساعدة شهرية لا تتجاوز الـ500 جنيه من محام عمل بمكتبه لأكثر من عقد من الزمان. 

رغم قلة احتياجاتهما مقارنة بأسر أكثر عددًا، لكن الإعانات الشهرية التي يتحصل عليها جابر تكفي بالكاد نصف الشهر، فالأسرة لا تطهو إلا مرتين أسبوعيًا، "بقليل من الزفر"، بحسب تعبيره، فيما تعتمد في النصف الآخر على إعانات من ميسوري الحال بمنطقة سكنه.

مساكن عين الصيرة بحي مصر القديمة - تصوير: أحمد البرديني

وتتيح وزارة التضامن الاجتماعي حصول أكثر من فرد في الأسرة على معاش "كرامة"، بحد أقصى ثلاثة أفراد، وبينما يستفيد وحيد عبد الحميد* من هذه الميزة، فهو يقول إن المعاشات التي يتلقاها لا تكفي لتغطية احتياجات أسرته الأساسية.

لدى عبد الحميد، ابن قرية شطورة بسوهاج، 4 أبناء، وتعتمد الأسرة على منح الجمعيات الخيرية لاستكمال المبالغ المطلوبة لتغطية احتياجاتها.

وبحسب تقرير سابق صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تتصدر محافظة سوهاج قائمة أكثر القرى فقرًا.

لا تكفي "كرامة"، ولا مساعدات الجمعيات في تغطية كل متطلبات عائلة عبد الحميد، ولأنه لا يتمتع بمعاش ثابت كونه قضى عمره في مهن غير منتظمة، فهو مضطر رغم بلوغه مرحلة الشيخوخة أن يستمر في العمل حتى يكفي عائلته. 

يعمل عبد الحميد حاليًا في أحد المقاهي بأجر يومي لا يزيد عن 50 جنيهًا، وبجانب كل الأعباء المالية لأسرته، اكتشف مؤخرًا إصابته بداء السكري، الذي صار يقتطع 300 جنيه من دخله الشهري.

المستبعدون من المعاش

مقابل الملتحقين ببرنامجي تكافل وكرامة، هناك آخرون يحسدونهم على الدخل الثابت، بينما يعانون هم من استبعادهم من هذا الدخل الثابت، رغم كل أمارات البؤس البادية على وجوههم.

بقالي 7 سنين مستني استلام الفيزا الخاصة بصرف معاش تكافل

من بين هؤلاء، الأسواني عبد الحميد أحمد عوض، الذي يكافح منذ 7 سنوات لضمه إلى معاش برنامج "تكافل"، رغم أنه لا يحصل على معاش حكومي ولا يمتلك حيازة زراعية، أو أي من الشروط التي يتم استبعاد المواطنين بسببها من هذا المعاش.

"بقالي 7 سنين مستني استلام الفيزا الخاصة بصرف معاش تكافل، قدمت شكاوى كثيرة لوزيرة التضامن ومجلس الوزراء، لكن لا حياة لمن تنادي"، كما يتحدث عوض عن معاناته للمنصة.

خسر الخمسيني عوض عمله الأساسي كفني كهرباء في إحدى القنوات الفضائية، قبل سنوات، ويعتمد بشكل رئيسي على حرفته لتدبير الاحتياجات الأساسية لأسرته المكونة من 4 أفراد.

يتعلل موظفو الشؤون الاجتماعية بالحي الـ11 في مدينة 6 أكتوبر، بحصول عوض على معاش من التأمينات الاجتماعية، بينما في الواقع توقف معاشه منذ أن استقال من عمله بالقناة التليفزيونية.

وزار مندوبو وزارة التضامن منزل عوض أكثر من مرة للتحقق من مستواه المعيشي، "عايش في مساكن شعبية من عهد مبارك، شقة صغيرة، 60 متر، عملوا كل الإجراءات والزيارات والموضوع واقف عند استلام الفيزا"، على حد تعبيره.

الشكاوى المتكررة من تأخير حصول المستحقين على كارت الفيزا الخاص بصرف المساعدات، وجدت صدى لها داخل أروقة البرلمان، إذ سبق وتقدم المهندس إيهاب منصور، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة موجه للحكومة بشأن تأخر استلام كارت تكافل وكرامة لعدة سنوات. 

وقال النائب، في طلبه، إن هناك مواطنين يقومون بتقديم شكاوي على موقع الوزارة، ويتضح لهم أن الكارت ساري وعند ذهاب المواطنين للمكتب لاستلامه يُخطروا بعدم وجود الكارت، وقال إن "تلك الكروت يستخدمها آخرون، ما يشي بوجود فساد في آليات تسليمها".

المستحقون أكبر من المستفيدين

"نسبة الفقر اقتربت من 30% ما يعني أن نحو 30 مليون مصري يقبعون تحت خط الفقر يستحقون هذه المنحة، لكن الحكومة تمنحها لـ20 مليونًا فقط"، كما يقول النائب البرلماني، إيهاب منصور، للمنصة.

لا ندرس حاليًا زيادة الدعم النقدي، فهو مرتبط بالظرف الاقتصادي الذي تمر به البلاد

ينتقد منصور الاشتراطات المجحفة التي تسببت في حرمان الكثير من المواطنين من هذا الحق، في الوقت الذي استطاع فيه البعض من غير المستحقين الوصول لهذا المعاش نتيجة الفساد والمحسوبية، بحسب قوله.

وتضع وزارة التضامن الاجتماعي شروطًا للوصول للمعاشات النقدية (تكافل وكرامة) منها عدم وجود ملكية زراعية (نصف فدان أو أكثر)، أو ملكية عقارية أكثر من المسكن، أو تلقي مساعدات منتظمة من جمعيات أهلية بقيمة 400 جنيه فأكثر.

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر 2022، انتقدت المؤسسة، التي قدمت دعمًا ماليًا للحكومة من أجل إطلاق هذه المعاشات، ضعف التغطية الحالية للفئات الهشة، حيث يُقدر البنك أن نحو نصف الفقراء في مصر خارج تغطية تكافل وكرامة، في ظل أخطاء استبعاد لبعض المستحقين.

في المقابل، يدافع مستشار وزيرة التضامن الاجتماعي للسياسات الاجتماعية، صلاح هاشم، عما أنجزه البرنامج، مشيرًا إلى تغطيته الواسعة للمحتاجين، بجانب مزايا أخرى حصلت عليها الأسر من بينها الإعفاء من المصروفات السنوية للمدارس.

وعن قيمة المعاش، يُشير هاشم إلى أن إجمالي المساعدات التي يتلقاها مستحقو تكافل وكرامة تتجاوز الألف جنيه للفرد الواحد، إذ لا تقتصر على قيمة المعاش فقط، بل يضاف إليها باقي خدمات الدعم التي يحصل عليها المستفيد بمجرد إدراجه في قوائم (تكافل وكرامة) مثل الدعم التمويني.

"لا ندرس حاليًا زيادة الدعم النقدي المخصص، فهو مرتبط أيضًا بالظرف الاقتصادي الذي تمر به البلاد، لدينا قوائم انتظار ومحددات تحكمنا لا نحلم أكبر من قدراتنا، أي زيادة في المخصصات مرهونة بالموازنة والتوجيه الرئاسي أو الحكومي، المتاح لدينا هو زيادة عدد المستفيدين وليس زيادة قيمة الدعم"، كما يقول هاشم في حديثه للمنصة.

غير أن الخبير الاقتصادي، إلهامي الميرغني يرى أنه "لا مهرب من توفير الحد الأدنى لتكاليف المعيشة وإتاحة فرص عمل حقيقية".

الميرغني يعتبر أن معاشات تكافل وكرامة مجرد "مسكنات" على حد قوله للمنصة، والحل الناجع لضمان حياة كريمة لن يتحقق دون القضاء على أصل المرض، المتعلق بأسباب الفقر في المجتمع، مثل ضعف التشغيل للعمالة أو غياب أشكال الحماية الصحية التي تتسبب في سقوط الكثيرين في الفقر، وفقًا للميرغني.

أمام ضغوط الأسعار المتوالية، لا تجد فاتن ربيع أملًا في تحسين أحوال أسرتها غير الحصول على فرصة عمل بدخل كاف، لكن مسؤوليتها كأم تُقيد تحقيقها لهذا الحلم. صُمم معاش تكافل لكي يوفر الحماية لمثل هذه الحالات، لكن جمود قيمته تجعله عاجزًا عن تحقيق الأهداف المرجوة منه.


* اسم مستعار بناء على طلب المصدر