تصوير: سالم الريس
شاب فلسطيني يسير بجوار إطارات مطاطية محروقة على الحدود الشرقية لمدينة غزة أثناء المواجهة مع جنود الاحتلال الإسرائيلي

قتلوه وكأنه فلسطيني

السؤال عن شرعية استهداف حماس للمدنيين ليس سؤالًا عن القانون

منشور الخميس 9 نوفمبر 2023

ليست حماس وحدها من يرفض أوسلو. بعد إعلان الاتفاق عام 1993، قال زعيم الليكود والمعارضة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إن التوقيع كان "خطأً قاتلًا". سريعًا، وجَّه "المدنيون" في إسرائيل رسالة واضحة للفلسطينيين وللمجتمع الدولي: اغتال مستوطن متطرف رئيسَ الوزراء إسحق رابين، وتوجّه الناخبون يمينًا. 

خلف نتنياهو رابين. وطوال 15 سنة متقطعة قضاها في الحكم (من 1996 إلى 1999، ثم من 2009 إلى 2021، ومن 2022 حتى الآن)، انتهك الاتفاقية بأشكال متنوعة، بدأت مع الإلغاء الفوري لقرار رابين بتجميد الاستيطان والتوسع فيه، وانتهت بالمُضيِّ قدمًا في ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط قررت ألّا ترى الفلسطينيين. وبينهما؛ تجميد للمفاوضات، وتهجير ممنهج للفلسطينيين بالحصار والقتل يوميًا، واستكمال لنظام أبارتهايد لا يحاول إخفاء قبحه بأسوار عالية وكاميرات تراقب الجميع في كلِّ مكان.

الجدار العازل يخترق بلدة أبو ديس في الضفة الغربية

ترفض حماس الاعتراف بإسرائيل وتتحدث طوال الوقت عن تحرير "الأرض كلِّ الأرض" وطرد اليهود منها، ومثلها تمامًا ترفض أحزاب مثل "الصهيونية الدينية"، و"عوتسماه يهوديت"، تشارك في الائتلاف الحكومي اليوم، الاعتراف بأيِّ حقٍّ فلسطينيٍّ، ولا تُخفي دعواتها بضرورة طردهم من الضفة للأردن ومن غزة لمصر ولو بالقوة، وإعلان الدولة اليهودية على "الأرض كلِّ الأرض".

الفرق الجوهري هنا أن حماس لا تملك أدوات تحقيق هدفها، وأبدت مرونة مع إعلانها عام 2008 قبول هدنة طويلة حال إعلان دولة فلسطينية على حدود 1967. أما اليمين المتطرف الإسرائيلي فلديه القدرة والأدوات؛ موجود ومؤثر في السلطة ومُعترف به، ويوجّه جيشًا نظاميًا للقتل والاحتلال، ويسلِّح المستوطنين الأفراد لإرهاب الفلسطينيين وطردهم، أو قتلهم.

وبينما رفض العالم الاعتراف بحكومة حماس المنتخبة من الشعب الفلسطيني عام 2006، بسبب رفض الحركة الاعتراف بإسرائيل، لم يشكِّل إنكار اليمين الإسرائيلي العنصري حقَّ الفلسطينيين في دولتهم، عائقًا أمام انخراطه في العمل السياسي ونيل الاعتراف.

من قتل أوسلو؟

برأيي ولد أوسلو ميتًا، ولكن مَن أعلن موته رسميًا على أي حال كان المجتمع الإسرائيلي برسالته شديدة الوضوح، عندما أفرز ومَجَّد "مدنيًا" مستعدًا لحمل السلاح في وجه الجميع، بمن فيهم رئيس حكومته. ثمَّ عندما انتخب ذلك المجتمع نتنياهو، الذي ستحمي حكومته في مرحلة لاحقة أمثال هذا المستوطن المسلح "المدني"، وهو يتوسع في سرقة أراضي الفلسطينيين، متلذذًا بالحماية القانونية التي تضمنها له المعاهدات الدولية كـ"مدني".

ومنذ ذلك الوقت، تنتهك إسرائيل أوسلو كلَّ يوم، فيما يردد من حولها أنَّ المشكلة في حماس، أو في "اليمين من الجانبين"، دون أي اعتبار لاختلال موازين القوى والقدرة على الفعل والتأثير داخل المجتمع الكبير الذي يعيش في الأرض المحتلة، كلّ الأرض المحتلة، حيث يضع نصفُ السكان النصفَ الآخر خلف أسوار عالية، ويُلقون إليهم بالطعام والماء والكهرباء كلما أحسنوا التصرف.

هنا، يبدو التعامل مع حماس باعتبارها شرير الفيلم لأنها ترفض الاعتراف بإسرائيل، تدليسًا يمارسه صحفيون ومحللون ومسؤولون غربيون وهم يتناولون الصراع، لغسل يد إسرائيل عن جرائم الفصل العنصري والتطهير العرقي والعقاب الجماعي، ومن خلفهم أنظمة عربية لا تأبه بمن يخبرها أنَّ التحالف مع دولة فصل عنصري يحكمها يمين مستعدٌّ لتفجير الإقليم إذا شعر بالغضب، ليس خيارًا جيدًا بحسابات المصلحة، فضلًا عمَّا يعكسه من انحيازات بحاجة للمساءلة.

وإلى جانب أولئك وهؤلاء، هناك الكثير من النخب الليبرالية العربية، يفزعها أن تكون كلُّ مجموعات المقاومة المنظمة المسلحة المؤثرة إسلامية، ومرتبطة إقليميًا بتحالف ديني ديكتاتوري طائفي منبوذ، وتحوم شكوك حول مدى انفتاحها على خصومها السياسيين مع سوابق برفع السلاح في وجوههم في غزة ولبنان، ولا يمكن الوثوق في قدرتها على صياغة تصور سياسي حداثي يمكنها مخاطبة مواطنيها والعالم به، وهي مخاوف لها ما يبررها.

السؤال عن إرادة الفلسطينيين لا يُستدعى إلا لنفي الشرعية عن حماس

ولكنَّ المشكلة الأساسية في هذه السردية اللاعقلانية بشأن حماس، بالإضافة إلى كونها انتقائية وغير متوازنة، أنها تُفرَضُ جبرًا. تستخدم الديمقراطيات العريقة، إلى جانب الديكتاتوريات الراسخة، أشدَّ الأدوات تخلفًا وبدائية وعنفًا لإسكات كلِّ من يحاول مساءلة هذه السردية، أو تقديم واحدة بديلة عن حركات مقاومة مسلحة في أرض محتلة.

في الواقع، يُجهِض هذا المناخ حتى أي محاولة لطرح المخاوف الحقيقية والمبررة من يمينية حماس كحركة إسلامية في نهاية الأمر، لديها سابقة مؤسفة في بدء اقتتال أهلي، لنقاش فلسطيني جاد، يضمن للفلسطينيين إمكانية إخضاعها سياسيًا وعسكريًا للمساءلة.

أسئلة كاذبة عن القانون

تفترض سردية شيطنة حماس، أنَّ هذه الحركة الشريرة، التي قتلت "المدنيين" الأبرياء في إسرائيل، لم تفعل ذلك بسبب سخط الفلسطينيين من الاحتلال، بل فقط لأنها شريرة ولا تمثل الفلسطينيين، ولكنها تختطف إرادتهم في غزة عنوة.

ومع تهافت هذه النظرية، جرت محاولات فرضها بتقارير إعلامية كاذبة، ثم إرهاب نفسي يمارسه مذيع أو مذيعة يتحدث مثل المخبرين وهو يطلب، وعلى الفور، من ضيفه الفلسطيني إدانة المقاومة التي قتلت المدنيين والأبرياء على طريقة "قلها وإلا..". أصبحت إدانة حماس فعلًا أخلاقيًا تطهّريًا ضروريًا للحصول على رخصة إعلاميٍّ غربيٍّ، كذبت محطته للتوِّ عمدًا، بأننا نستحق الكلام.

هذا الخطاب، فضلًا عمَّا فيه من استعلاء وتهديدات غير خافية بالاغتيال المعنوي، يصرف النظر عن أسئلة ضرورية لا يتعامل معها أحد. مَن يمثل الفلسطينيين؟ ولماذا يمنعهم الاحتلال من إجراء انتخابات في الضفة وقطاع غزة منذ 2006 لنعرف جميعًا من يمثلهم؟ وهل سيُقبَل اختيارهم إذا ذهب إلى تيار يمارس المقاومة المسلحة ضد الاحتلال؟

من الوارد أن تذهب إرادة الفلسطينيين في لحظة ما إلى سلطة أكثر علمانية من حماس، ولكن مشكلة السؤال عن هذه الإرادة أنه لا يُستدعى إلا لنفي الشرعية عن حماس كحركة مقاومة. لم يسأل أحد عن إرادة الفلسطينيين بشأن قرار تقسيم بلدهم، أو التوسع الاستيطاني السرطاني فيه، أو تفاصيل حياتهم اليومية التي تحوِّلها إجراءات الاحتلال إلى جحيم.

في الواقع، جرت إعادة ترتيب الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة على نحو ينفي وجود الفلسطينيين، لا يغيِّب إرادتهم فحسب. 

سؤال الشرعية هذا طالما طرحه الاستعمار على من يطالبون بالتحرر الوطني، وأقربهم إلى الذاكرة سعد زغلول، الذي ردَّ المصريون بتفويضه. ومثلما فعل المصريون في 1919، يعبِّر الفلسطينيون اليوم عن دعمهم خيار المقاومة المسلحة، من مشاركة جميع الفصائل المؤثرة يمينًا ويسارًا في طوفان الأقصى، إلى الحشود الشعبية التي هتفت في مدن الضفة الغربية لمحمد الضيف، قائد كتائب القسام.


ينتهي إذن الإصرار على إدانة هجوم المقاومة في 7 أكتوبر إلى إدانة الفلسطينيين كشعب، وهذا ما ذهب إليه بالفعل مسؤولون إسرائيليون وساسة أمريكيون، دافعوا صراحة عن عقاب المدنيين في غزة. كما نرى، لن يُرتب قتل المدنيين على كلِّ من يرتكبه عقابًا فوريًا بالنبذ والوصم بالإرهاب، فهناك من يحظى بمعاملة تفضيلية لا تقف فقط عند حمايته من العقاب على جرائمه، بل تساعده على الانتقام إذا قُتِل وكأنه فلسطينيِّ.

لذلك فإن السؤال عن شرعية استهداف حماس للمدنيين ليس سؤالًا عن القانون، وإن بدا كذلك، لأنَّ عنوانه الأبرز في السياق الحالي بتوازنات القوى التي تحكمه، هو ترسيخ الاحتلال وتعجيز الفلسطينيين وفرض الأبارتهايد عليهم بقوة الأمر الواقع، لا السعي إلى تطبيق القانون بنزاهة، وبالكيفية التي تحقق مقاصده المُفترضة بحماية ودعم الأطراف الأضعف الذين تؤذيهم الحروب، دون أن يكونوا طرفًا فيها.

الحداثة تأكل نفسها

في الواقع، تقدم لنا إسرائيل نموذجًا فريدًا. هذا الشكل الاستيطاني من أشكال الاحتلال لم يعد شائعًا منذ القرن الثامن عشر. نحن هنا لا نتحدث عن احتلال كلاسيكي لأغراض السيطرة وتأمين الموارد، فيكون سهلًا التمييز بين الجنود والمدنيين الذين لا يشاركون في فعل الاحتلال نفسه. في النموذج الإسرائيلي يرتكب "المدنيون" بأنفسهم فعل الاحتلال، إلى جانب التطهير العرقي. 

حتى منتصف القرن العشرين، كان هناك ما يُعرف بـ"حق الاحتلال". ببساطة، من ينجح في السيطرة عسكريًا على أرضٍ ما، يحق له ضمّها. طوال القرون التي شهدت التوسع الاستعماري الأوروبي في إفريقيا وآسيا والأمريكيتين، ظلَّ الاحتلال حقًا معترفًا به في ترتيبات العلاقات الدولية، وكانت مواجهته بعد أن يستقر غير قانونية.

يستحق الفلسطيني بدلًا من الإمعان في إدانته وسحقه، البحث معه عن إطار قانوني عادل يشرعن مقاومته

عكست هذه الصيغة التي لا تبدو عادلة بمعايير اليوم، توازنات القوى في العصور الكولونيالية. لاحقًا، ومع تآكل الإمبراطوريات الاستعمارية بشكلها الكلاسيكي مع الحربين العالميتين، وتبلور مفاهيم المساواة والعدالة وتقرير المصير التي أعلنت الإمبراطورية الجديدة تأييدها، تغيّرت التوازنات، ولم يعد أحدٌ يعترف بشرعية ضمِّ الأراضي المحتلة، وأصبحت المقاومة المسلحة حقًا مشروعًا.

هذا السياق الذي بدا أكثر عدالة في عناوينه النظرية، ولّدته توازنات قوى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تفضِّل الإمبراطوريات الجديدة مدَّ أطرافها دون تكاليف عسكرية، بل بهيمنة سياسية واقتصادية وتعاون عسكري، تتطلب التعامل مع دول مستقلة. 

المشكلة أن النموذج الإسرائيلي يدير نزاعه مع الفلسطينيين بأدوات ما قبل الحداثة. ترسم الدولة حدودها بشرعية الاحتلال، وتُقنن تميَّز المواطنين اليهود عن السكان الأصليين داخل هذه الحدود، وتقتل المدنيين متى شاءت بلا ثمن. ثم فجأة، ومع أيِّ عملية ضدَّها، يُستدعى القانون الدولي على الفور، لعقاب الفلسطينيين وإدانة المقاومة، في ترسيخ لقيم لا حداثية، باستخدام أدوات الحداثة. 

يستحق الفلسطيني بدلًا من الإمعان في إدانته وسحقه باستخدام أدوات المجتمعات البدائية، عقابًا على عدم أهليته للحاق بركب التقدم والحداثة، أن يُفتح نقاش قانوني حقوقي تقدمي جاد، عن الإطار القانوني الذي يُشرعن مقاومته المسلحة للاحتلال الاستيطاني، ويعيد تعريف الجرائم التي يرتكبها المستوطنون. لا يبدو من العدالة أن يحظى مسلح يعيش في أرضٍ مسروقة، لأنه يعتقد بأحقية أبناء عرقه في نزعها من أصحابها، بالحماية المقررة لأطفال وعجائز صادف حظهم العاثر اندلاع نزاع مسلح إلى جوارهم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.