زوبة الكلوباتية، من فيلم "الخمسة جنيه"، عن موقع السينما

زوبة الكلوباتية وأيام السَكَلانس

منشور الأحد 13 أغسطس 2017

اسم "زوبة الكلوباتية" يُستخدَم كثيرًا للتندر، أو للتعبير عن زمن غابر لا يمكن الإحاطة به تمامًا، ولكنها في الواقع كانت شخصية حقيقية، وكانت أشهر راقصات عصرها، تحديدًا في الثلاثينيات من القرن العشرين، ويقال إن شهرتها وصلت إلى درجة أن تماثيلها كانت تُستبدَل بالزجاجات الفارغة، مثلها مثل الفنان محمود شكوكو وفي وقت معاصر له. 

في كتابه الممتع "مما جرى في بر مصر" ينشر الكاتب يوسف الشريف حوارًا أجراه مع الراقصة زوبة الكلوباتية عام 1960، أي بعد سنوات من ابتعادها عن الفن، يكشف لنا هذا الحوار حقائق وتفاصيل عن مصر وعن تاريخ الفن المصري تتعارض مع بعض الكليشيهات التي يكررها الكثيرون ويعتبرونها حقائق مؤكدة.

في بداية الحوار يتحسر الشريف على "شارع محمد علي" وعصره الذهبي في الأربعينيات، وكيف تحول إلى شارع هادئ وحزين ولافتاته باهتة. هذا الشارع الذي كان يمتلئ بالعز والأضواء، واشتهرت فيه أسماء فنانات مثل "أنوسة العالمة" و"حسنية كهربا" و"شخليلة" الراقصة. 

عندما يسأل الشريف زوبة عن سبب هجر الفنانين لشارع محمد علي تقول: "السيما طلعت، والناس بقت تعمل أفراحها في اللوكاندات، وظهرت رقاصات جداد وكمان عشان هدوا البيوت القديمة في شارع محمد علي وكل واحد راح لحاله".

في منزل زوبة لم يجد الشريف أثرًا للأمجاد التي سمع عنها، ربما سوى صورة ترقص فيها أمام السلطانة مَلَك (زوجة السلطان حسين كامل)، وتماثيل صغيرة من الجبس لزوبة. حين بدأ مأمون، رسام روز اليوسف المرافق للشريف، في رسم زوبة حاولت الراقصة أن تعترض وقالت "أنا خلاص علي وش حج وربنا تاب عليّ من حكاية الرقص دي"، يسألها الشريف "مين قال إن الرقص حرام؟"

فترد زوبة: "معلوم حرام ..الناس بتقول إن الحاجات دي بتغضب ربنا". ولكن زوبة لا تستمر على هذا الإصرار، حين يسألها الشريف إذا كانت تشعر أثناء رقصها إنها كانت تفعل "حاجة بطالة"، أجابت: "أبدًا يا أستاذ، دا حتى أنا اتعلمت الرقص عشان كنت غاوية فن وبس". 

نلاحظ هنا أن فكرة اعتزال الفن بسبب تحريمه موجودة من الخمسينيات من القرن العشرين، أي قبل ما يسميه البعض "الغزو الوهابي" الذي يتحمل عادة مسؤولية كل دعوات التحريم والتشدد. 

تحكي زوبة حكايتها، فقد أدى جمالها منذ الصغر إلى زواجها وهي في سن الثالثة عشر من "كلوباتي"، كان يسهر في الأفراح ليوقد الكلوبات، ولكنه كان يعود إلى المنزل في الفجر ومعه الراقصة التي كانت في الفرح، وعندما تعترض زوبة كان يُخرِج لها قسيمة زواج أو عقد عرفي، ثم يطلقها بعد أيام. صارحها زوجها بأنه يتزوج الراقصات لكونه "ما بيحبش الست الخام". لذلك قررت زوبة أن تتعلم الرقص والغناء حتى يستغني زوجها عن الراقصات.

ذهبت إلى منزل العالمة "خديجة الونش" لتتعلم الرقص والمغنى، وأخذت ترقص وتغني لزوجها، ولكن عندما عرف بأنها تتعلم لدى "عالمة" طلقها. 

كانت هذه فرصة لتبدأ حياتها في الفن، اصطحبتها "خديجة الونش" للأفراح"، لتصبح زوبة "أسطى": "ماهو فيه فرق بين الشغالة والأسطى.. الشغالة كمالة عدد في الفرقة، لكن الأسطى هي أهم وأجمل واحدة في الفرقة". كان أجر زوبة 60 قرشًا، ولكن بالإضافة إلى النقطة يصل إلى ستة جنيهات. 

 

لم تكن زوبة تكتفي بالرقص، بل كانت تغني أيضًا: "ماهو زمان كانت الرقاصة لازم يكون صوتها حلو، وتعرف تغني وتقول مونولوجات وتزفّ العروسة كمان". وتذكر الكلوباتية أمثلة للأغاني التي كانت تغنيها "أعلمك ضرب النبلة.. أول ما ترمي ترميني"، و"يا باشا كلك شربات وبغاشة"، و"يا جميل يا أبو خاتم ومنشة.. قلبي مايل لك بس أنا كشّة".

من عناوين الأغاني يمكن معرفة طبيعة أغاني الأفراح في الأربعينيات والخمسينيات والتي لو سمعنا كلماتها الآن لتم وصفها بالهبوط الفني الذي يتنافى مع  يتردد عن أغاني الزمن الجميل.

بعد نجاحها تزوجت زوبة من المطرب محمد الصغير، ولحن لها ملحنون كبار مثل كامل الخلعي وأحمد صبرة والكحلاوي: "إدوني أغاني كتير محبة". 

لم يستمر زواجها من محمد الصغير، أثناء حوارها مع يوسف الشريف كانت متزوجة من عبد المنعم الإبياري، الموسيقي الذي يعزف على البيانو والكمنجة والأوكورديون. تقول زوبة إنها لم تتزوجه عن حب:

"أنا عمري ما عرفت حاجة بالاسم دا، أنا اللي كان يعجبني في الراجل قوته ومجدعته وطيبة قلبه وبس، ياما سمعت كلمة بحبك من باشوات وبهوات واعمل اني مش سامعة.

يوسف الشريف: ليه؟

زوبة: أقولك ليه.. بقى الواحدة منا بيشوفها الراجل من دول وهيّة بترقص تحلوّ في عينيه وبعدين يتجوزها.. لكن بعد كدا يعايرها بشغلتها القديمة... لكن أنا اتجوزت عبده لأنه ابن كاري وفاهم شغلي كويس".

رقصة الشمعدان

اشتهرت زوبة برقصة "الشمعدان" ويقال إنها أول من رقصتها، ولكن بحسب روايتها ليوسف الشريف كانت شاهدت رجلًا يرقص بالشمعدان في صالة عز الدين لتقرر تقليد الرقصة، رغم أن الشمعدان يزيد عن 10 كيلوجرام. تذكر زوبة أنواع رقصاتها "الفشخة" و"القلبة" و"شمعة البحر"، الرقصات التي كانت ترقصها دون أن يهتز الشمعدان أو تنطفئ الشموع الموجودة عليه. وتضيف أنها كانت ترقص وفوق رأسها "شيشة مولعة"، أو صينية الشربات. 

//gifs.com/embed/4858W2

كان الرقص مع محاولة وضع أشياء على الرأس محاولة للتجديد، يذكر الصحفي عبد الفضيل طه أن الفنانة ماري منيب كانت ترقص رقصة مشابهة لزوبة في بداية حياتها الفنية قبل ان تتجه للتمثيل، ولكنها كانت ترقص بالقلل في ملاهي روض الفرج. 

شاركت زوبة في فيلم "الخمسة جنيه"، و"فتاة السيرك"، وفي فيلم ألماني عن الرقص الشرقي، ووصلت شهرتها لأن ظهر قماش زوبة ومناديل زوبة وفنجان زوبة وتماثيل زوبة بقزايز. وكان السبب في ابتكار تمثال زوبة هو الكاتب والفنان عبد الرحمن الخميسي، الذي كان سببًا أيضًا في رواج تمثال شكوكو الشهير. وهذه المعلومة قد تجعلنا نفكر أن شكوكو لم يكن الوحيد الذي راج تمثال له، فربما حدث هذا مع فنانين كثيرين آخرين نسيهم التاريخ. 

ومثل الكثير من الفنانين كبار السن أو المتوقفين عن العمل، تنظر بحنين إلى فن الرقص في الماضي، يسألها يوسف الشريف عن رأيها في الرقص الشرقي الآن (عام 1960) تقول إن ما تفعله راقصات هذه الأيام "هرجلة وأمور جنان"، وأن الرقص الشرقي تحول لزار ومسخرة وتعرية، وأن تعرية جسمها كانت تأتي بشكل طبيعي أما الآن فأصبح هدف الراقصة هو استعراض جسمها.

وعن الراقصات الأخريات تقول: "نجوي فؤاد مجنونة، نعمت مختار رياضية، نعيمة عاكف ترقص بعقل، زينات علوي كويسة بس بتقلد، لكن ستّهم تحية كاريوكا لسه ماشية بالأصول".

بعد عشرات السنوات تروي الممثلة والراقصة لوسي في لقاء تلفزيوني قصة والدتها التي تتبعت زوبة في أحد الأفراح، وتاهت وهي عمرها 6 سنوات، لتأخذها زوبة وتربيها. 

ولكن زوبة تشكو من قلة أصل تلميذاتها معها: "مفيش غير البنات الخواجات زي ليز ولين وكيتي".

تحولت قصة حياة زوبة الي مسرحية "زوبة الكلوباتية" التي كتبها صلاح طنطاوي وشاركت في بطولتها المطربة رجاء عبده. وذكرت لوسي أن ماجدة الصباحي كانت تنوي إنتاج فيلم عن زوبة ولكنه لم يكتمل.

على الرغم من الطبيعة الظاهرية المحافظة للمجتمع المصري إلا أن وجود الراقصات في هذا المجتمع كان قديمًا، في كتاب "وصف مصر"، وفي الجزء الخاص بوصف الموسيقى والغناء عند المصريين، يقسم الكتاب "العوالم" إلى نوعين؛ الأول يتمتع بتقدير واحترام الناس، أما النوع الثاني فهو النوع الذي لا يراعي العادات والتقاليد ويطلق عليهن اسم "الغوازي"اللواتي يقمن بالغناء والرقص في الشارع ويستطعن جمع النقود من "الحريم" اللواتي يقمن بإلقاء قطع النقود لهن من خلال المشربيات، كانت الغوازي مصدر التسلية الوحيد للنساء حبيسات البيوت.

أسماء كثيرة لراقصات شغلن المجتمع المصري على مر العقود، وهن أيضًا مثلنا، عندما يكبرن يشعرن بالحنين إلى أصول الزمن الجميل.