
سُب إلهام شاهين وتَفرَّغ للنضال
رتبت حالة الاستقطاب الشرسة التي تمر بها المنطقة منذ 2013 نوعًا من الحروب الثقافية تدور رحاها يوميًا على السوشيال ميديا، الهدف منها تعزيز "الرصيد الثقافي" لفرق المتحاربين، في مباراة نقاط، لا منتصر فيها ولا مهزوم بشكل نهائي. في الحالة المصرية، يمكن تصنيف هذه الفِرَق مجازًا ضمن ثلاث فئات أساسية: الدولجية والثورجية والإسلامجية.
الدولجية هم أنصار 30 يونيو ومؤيدو تثبيت النظام الحاكم والدولة مع تبايناتهم وأطيافهم المتعددة، ورغم ما يكلِّف هذا الخيار من تبعات ليست بعيدة عن إدراك أغلبيتهم من غير الملتحقين مباشرةً بالنظام الحاكم.
والثورجية هم المتمسكون بالدفاع عن سردية رومانتيكية لما جرى بين عامي 2011 و2013. وعلى تعدد مشاربهم والاختلافات بينهم، فإن ما يجمعهم هو اعتبار تلك النقطة حدًّا فاصلًا، سواء في تاريخهم الشخصي أو في التاريخ الوطني وقراءته، يرسم ملامح تجربتهم الجيلية وأفق حركتهم مثل أي "جيل ثورة" منصورة أو مهزومة.
أما الإسلامجية، فهم جماعة الإخوان المسلمون والمرتبطون بمشروعها، الخاسرون في معركة التمكين والساعون لاستعادة مشروعيتهم التي تضررت بشدة سياسيًّا واجتماعيًّا، في عيون المجتمع الذي منح الجماعة ومشروعها أصوات الأغلبية في كل استحقاق انتخابي منذ مارس/آذار 2011 وحتى يونيو/حزيران 2012.
لا يعني هذا التصنيف المبدئي أن الفئات الثلاثة وجمهورها قاطعة في انتمائها وفي عدائها للفئتين الأخريين، فالمشتركات التي تجمع بينها وأسباب الخلاف كذلك أوسع من حصرها تحت لافتة تُظلِّل جميع المنضوين تحتها. يجعل ذلك الحركةَ في عالم الحروب الثقافية سائلةً، حيث تُسكب الأفكار والترندات في نهرٍ ثقافي جارٍ يصعب التحكم في مصبَّاته، تغازل المشتركات والكراهيات والعواطف المضطربة والغاضبة، وتسعى لتأميم الشعور الجماعي في اتجاه بعينه، استغلالًا لحدث أو تصريح (غالبًا مقتطع من سياقه) أو كارثة.
تصادف هذه الأفكار في طريقها أحيانًا دولجيةً ينجذبون لخطاب قومي إسلامي موروث من الحقبة الناصرية، أو ثورجيةً ينحازون لجبهة الدولجية في معركة نسوية ضد الإسلامجية، أو إسلامجيةً يتَّحِدون بلجانٍ دولجية لتشويه صورة سارة حجازي، وقتلها مرة ثانية بعد الأولى.
التنازع على العواطف إذن ليس حربًا أيديولوجية واعية في كثير من الأحوال، بل إن الحروب الثقافية تُخاطب في الجانب الأعظم منها مستوىً تحت معرفي، يُدرِك بالغرائز المتوارثة والكليشيهات والميمات الثقافية أكثر مما يُعمِل قياسًا فكريًّا منضبطًا بحسابات المصلحة والضرر المباشر. لذلك فالفرق المتناحرة في الحروب الثقافية تعتمد كل منها ميمات خاصة، تتكرر لتصبح إشارة للجمهور الذي يراكمه ذلك الفريق، يَفهم منها أن ذلك الترند وتلك المعركة "تخصُّنا"، واحتشادكم خلفها يضيف لرصيدنا، ويوصِّل لأعدائنا رسائل بخصوص حدود قوتنا، وهيمنتنا على الذهنية الاجتماعية والوعي العام.
ترندات إسلامية
أحد الميمات الإسلامجية الرئيسية في الحرب الثقافية الممتدة هي "ترندات الفنانين"، التي تعتمد على فكرة رئيسية بخصوص ما يعتقده الإسلامجية، تاريخيًّا، بتبعية جميع الفنانين وأغلب العاملين بالثقافة للنظام الحاكم وائتمارهم بأمره وتوجيهاته، وتسخير نجوميتهم لدعمه والمشاركة في احتفالاته. الممارسات التي أطلقوا عليها حديثًا بالاشتراك مع فئات أخرى "التعريص والتطبيل".
إلا أن هذا الاعتقاد، بصرف النظر عن مكذوبيته الفجة حين يُعممه الإسلامجية على جميع الفنانين والمثقفين، تنقصه مصارحة الذات والوضوح مع النفس الكذَّابة.
أولًا، لأنه يربط طبيعة أدوار الفنانين والمثقفين بالدولة السلطوية الحديثة، التي يصفونها أحيانًا، من سخرية القدر، بالدولة العلمانية. بينما يتعامى عن طبيعة الأدوار نفسها في الخلافة السلطوية القديمة، التي عرفنا عنها ومنها اصطلاحات مثل "شعراء البلاط وجواريه" و"فقهاء السلطان".
وثانيًا، لأنه يطلب من الفئات التي استهدفها التيار الإسلامي على مدى تاريخه باتهامات التكفير وازدراء الأديان وحرق الأفيشات والمسارح واستجوابات البرلمانات ومحاولات الاغتيال الفاشلة والناجحة ألا "تخالف ضميرها" وتنحاز لمن يزيح سكِّينه عن رقبتها، وهي صفقة لو عُرضت على حمار أعور لرفضها بداهةً؛ فليُبق عينًا تعينه على سيره بدلًا من فقد اثنتين!
في عام 2012 وبالتوازي مع صعود الإسلاميين وسيطرتهم على مجلس النواب صدر حكم قضائي بحبس عادل إمام ثلاثة أشهر بعد إدانته بـ"الإساءة إلى الإسلام" في أكثر من عمل سينمائي ومسرحي على مدار تاريخه. معروف أن قضايا عديدة رُفعت ضد عادل إمام، من وقت فيلمه الأفوكاتو 1983 وصولًا إلى فيلمه الإرهابي 1994، لكن قبل 2012 لم يُحاكَم فنان أبدًا على "تاريخه" كله على نسق محاكم التفتيش!
وفي السنة نفسها فُتحت النار على إلهام شاهين، التي أعربت بتحفُّظ عن مخاوف من فرض مزيد من القيود الرقابية على الفن بعد حصول الإخوان المسلمين على الأغلبية البرلمانية في انتخابات 2012، ثم شاركت في مظاهرات ميدان التحرير ضد الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي قبل أن تتحول لانحياز مطلق لكل من يساهم في إزاحة الإخوان المسلمين، بعد حملة مبتذلة وشرسة قادها دعاة ومؤثرون إسلاميون ضدها بصفة شخصية، انتهت بحصولها على حكم قضائي ضد أحد قادة تلك الحملة في عام 2013.
الدفع بحملة ضد إلهام شاهين على السوشيال ميديا بين الحين والآخر، واختيارها بصفة مستمرة لتكون أحد ميمات الحروب الثقافية التي يحتشد خلفها معسكر الإسلامجية، وشركاؤه ع الحلوة والمرة، صيغة من صيغ الشحن العاطفي في مرحلة ما بعد 2013.
اختيار الفنانات اللاتي رفضن في السابق عروض ارتداء الحجاب والاحتجاب عن ممارسة مهنتهن في الموجة الثانية لتحجيب الفنانات المصريات خلال مرحلة التسعينيات اختيار له دلالته. تمامًا مثل اختيار عادل إمام لاستهدافه بالهجوم. إذ تُعبِّر هؤلاء الفنانات تحديدًا عن تقليد قديم، توارثته الرائدات المؤسسات للعمل بالفنون في مصر خلال القرن الماضي تعبيرًا عن وعيهن بالطبيعة الخاصة للمعركة التي تخوضها النساء داخل تلك المجالات، بسبب جنسهن.
منذ الظهور العلني للنساء في المجال الفني في عشرينيات القرن العشرين، وخروجهن من مرحلة غناء الحرملك ورقصه، ظهرت في كل جيل حفنةٌ من الفنانات القادرات على إدراك معركتهن مع الوصمة الاجتماعية الذكورية. وكانت أدواتهن في تلك المعركة هي الإخلاص العميق للمهنة، واكتساب معارفها التي تتجاوز دورًا أدائيًّا تنفيذيًّا.
هكذا صَنعت منيرة المهدية وروزاليوسف وبديعة مصابني وفاطمة رشدي نجوميتهن المسرحية ممثلات ومغنيات ومُنتِجات ومُعلِّمات للأجيال الأصغر ومكتشفات للمواهب الجديدة ومحاربات للقيود الذكورية والحكومية والاستعمارية. وهكذا تحوّل مسار أمينة رزق في المسرح على يد يوسف وهبي، ثم ظهرت آسيا داغر وماري كويني وبهيجة حافظ وعزيزة أمير في السينما، ثم سعاد حسني وفاتن حمامة، اللاتي أفلتن من موجة التحجيب الأولى في الثمانينيات، وأخيرًا يسرا ونبيلة عبيد وإلهام شاهين وليلى علوي اللاتي قُمن بالأدوار المتعددة نفسها داخل الصناعة السينمائية، وخُضن معارك رقابية وقضائية بسبب أدوار نقدية جريئة تحملن مسؤوليتها بشجاعة كاملة.
وجود تلك الفنانات هو القياس الحقيقي لسقف الحريات الإبداعية في مجتمعنا، لأنهن تفَرَّدن بقرارات قد لا تجرؤ عليها الغالبية العظمى من النجمات خوفًا من المغامرة بالجماهيرية. فالمهنة المُدانة مسبقًا بإجماع الأغلبية المحافظة الساحق تُعرِّض النساء فيها لعبء اجتماعي يتطلب تضحية واعية ومستمرة في النطاقات الأسرية والاجتماعية.
إلا أنها في حالة النجومية تتحول لاختبار قيمي من نوع آخر، حيث الرضا الجماهيري يقف على خيط رفيع بين الانجذاب الواسع وصب اللعنات العارم.
اختيار النجمات للأعمال النقدية الجادة والأدوار المتحررة من الخوف ينبع من احترام صادق لشرف المهنة الفنية، لأنه يتجاوز ثنائية النار التي تحيط بالنجومية. أتذكر في هذا الإطار أدوار إلهام شاهين في أفلام "يا دنيا يا غرامي" و"واحد صفر" و"سوق المتعة" و"لحم رخيص" و"أيام الغضب" و"الهلفوت" ومسلسل "بطلوع الروح".
الذكورية المهيمنة
إلا أن "ترندات الفنانات" برعاية الإسلامجية كشفت كذلك عن طبقة ثقافية منتمية قلبًا وقالبًا لعالم العشرينيات من القرن الماضي، في الطبعة الذكورية التي تتبناها من كراهية العاملات بالفنون، نيابةً عن نساء جنسهن. يظهر هؤلاء بين الترند والآخر، مرة متخفين تحت ستار حكمة، مطالبين الفنانين بألا يتحدثوا في السياسة أو في ما لا "يفهمون فيه"، ومرة بهمز ولمز عن "الشرف النسائي" كما تُعرِّفه أحَطُّ التقاليد الريفية والأيديولوجيات الفاشية المحافظة، ومرة في الاتهام المعتاد بالتعريص والتطبيل.
تنسجم تلك الفلسفات التي انتُقدت جوانبها الكارهة للنساء منهجيًّا خلال القرن العشرين مع طبعة الإسلام السياسي الطُهرانية
الواضح لكل عين أن الجميع من حولنا يتحدثون في ما لا يفهمون، خصوصًا السياسة. أما اتهامات الشرف، فالواضح كذلك من أعداد قتيلاتها المتزايدة أن مجتمعنا المتسامح مع الذكور القتلة لا يتوقف عن استخدامها. كما أن التعريص والتطبيل، إن صَدَق هؤلاء، ليس ممارسة نسائية خاصة.
لكن الاستهداف المغلول للفنانات إنما يأتي على خلفيتين رئيسيتين.
الأولى متعلقة بالحق في المجال العام والرغبة المستعرة في إقصاء النساء عنه.
تشير الفيلسوفة النسوية نانسي فريزر في تفكيكها لمفهوم المجال العام للثنائية المصطنعة بين الشأن العام والخاص، العمومي والمنزلي/الأُسري التي استهدفت استبعاد النساء والموضوعات التي يطرحنها من النقاش الاجتماعي الواسع. وكما يزيح هذا النهج موضوعات بعينها، ويحرم المجتمع من التوسع في طرحها وفهمها وتداولها، فهو من ناحية أخرى يُكرِّس احتكار الرجال لموضوعات بعينها، تُسمَّى "الشؤون العامة"، أي أنها خارجة عن اهتمام النساء، على رأسها ما اعتدنا عليه من مجالات مثل السياسة والقانون والدين.
نجد أصداءً لهذه الثنائية في المجال الفقهي الإسلامي الذي يُجمع باستثناءات قليلة على استبعاد النساء من وظائف الإمامة والقضاء والفتوى والتفسير، ويتوسع بهذه النظرة ليُلهم حروب تيارات الإسلام السياسي على عمل النساء، ودخولهن مجالات بعينها تشمل تخصصات طبية وهندسية وفكرية، ووظائف قضائية وسياسية.
غني عن الذكر أن ما يحكم النظرتين هو الإيمان الذكوري الأصلي بقصور طبيعة المرأة (الناقصة) عن أداء تلك الوظائف وفهم تلك الموضوعات.
والخلفية الثانية هي الشعور بالاستفزاز إزاء الطبيعة الحسيَّة لعمل الفنانات والفنون بشكل عام.
تنحاز الطبعة الذكورية المصرية المهيمنة، ومثقفوها ليسوا استثناءً منها، لنظرة الفلسفات المثالية الألمانية خلال القرنين 18 و19 بخصوص المَلَكات العقلية للنساء مقابل المَلَكات الحسِّية، منحدرةً من وصف إيمانويل كانط للنساء بالعاطفية والجاذبية الاجتماعية وفقر المهارات العقلية التجريدية، ثم تشدُّد نقَّاد له مثل شوبنهاور ونيتشه في التأكيد على المقابلة بين النساء من ناحية؛ كتمثيل لـ"إرادة الحياة/الطبيعة" وفق شوبنهاور، أو كـ"استعارة وقناع للإغواء" حسب نيتشه، والرجال من الناحية الأخرى؛ باعتبارهم محكومين بالعقل والأخلاق والالتزام.
تنسجم تلك الفلسفات التي انتُقدت جوانبها الكارهة للنساء منهجيًّا خلال القرن العشرين مع طبعة الإسلام السياسي الطُهرانية، التي أشاعتها أفكار سيد قطب عن العصبة المؤمنة وعزلتها الشعورية، بعد "استبانة سبيل المجرمين، واعتزال المجرمين (من المسلمين) والاستعلاء عليهم، والانفصال الشعوري والوجداني عن كل ما يحيط بهم، حتى تتحقق المفاصلة الكاملة"!
يَحُث شوبنهاور الرجال على الانعزال الحسّي إذ يعتبر أن "الدافع الجنسي هو الهدف النهائي لجميع جهود الإنسان تقريبًا. وهو يؤثر سلبًا على أهم الأعمال، ويقاطع في كل ساعة أكثر الانشغالات جدية، وأحيانًا يُربِك حتى أعظم العقول لفترة من الوقت". وفق تلك الرؤية، فالرغبة الجنسية لديه هي جذر المعاناة، وحِيَل النساء ومَكرِهُن بغرض التكاثر وتوفير الحماية لأولادهن قادرة على حَرف أعظم العقول الرجالية عن مهامها والتزامها.
لازمت تلك النظرة الكتابات التي تعترض على دخول النساء للمجال الفني في مصر في بدايات القرن العشرين، والتي استَعملت بصفة أساسية ذريعة "قضية الاستقلال الوطني"، التي تصرف المغنيات والممثلات شباب مصر عنها. واعتبرت أن دخول الأعيان والأفندية والحرفيين والتجار المصريين للمسارح وصالات الغناء بمنزلة تهديد جسيم لمصير القضية الوطنية.
واليوم، تتخفَّى كراهية النساء "المثقفاتية" وراء شعارات مشابهة، وطنية ونضالية، خصوصًا لو كنَّ من الممثلات اللاتي أدين أدوارهن كما تتطلب مهنتهن، بالعقل والصوت والحركة واللمس والنظرة والتعبير بعيدًا عن معايير السينما النظيفة، المخصية حسيًّا، التي ربما تعبر بصورة مكثَّفة عن تلك الذهنية الثقافية الذكورية، التي سخّرت السينما لتقزيم النساء وشيطنتهن، وحددت أدوات الممثلات في الردح والصراخ والرقَّة المفتَعَلة وصنعت لنا النجم "التيموري" المعتدي على طليقته، وزملاءه المذعورين من ملامسة النساء.