صفحة أخبار غزة، فيسبوك
آثار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يناير 2024

الحرب على غزة من منظور الفائض البشري

منشور الأحد 2 يونيو 2024

أثار زميلي وصديقي أنوش كاباديا، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة بومباي للتكنولوجيا، نقطةً جذبت انتباهي أثناء نقاش جمعنا حول القضية الفلسطينية قبل شهرين، واستدعت مني الكثير من التأمل والنظر.

قدَّم الأكاديمي الهندي منظورًا جديدًا لما يجري في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، يرى القضية من زاوية إدارة السلطات الإسرائيلية لما سماه بـ"الفائض البشري"؛ أي المجموعات الإنسانية التي لا "استخدام لها"، بالتالي يكون التعامل معها بالتهميش والعزل والحصار والإزاحة، عن طريق القتل والترويع والتجويع إن أمكن، من أجل الاستيلاء على الموارد من دون السكان، سواء كانت الأرض أو ما تحتوي عليه.

كاباديا على وعي كامل بالتاريخ الخاص للقضية الفلسطينية، من حيث تعرض الفلسطينيين لاحتلال استيطاني يهدف إلى تجميع الشتات اليهودي على حساب سكان البلاد الأصليين، وما أدت إليه هذه التصورات من أعمال تطهير عرقي وإبادة جرت ولا تزال. ولكن رغم معرفته الدقيقة بهذا كله، فإنه يرى أنَّ إدارة "الفائض البشري" هي سمة للعصر الذي نعيش فيه، ما يجعل الصراع في فلسطين يختلف من حيث الكم لا الكيف عن صراعات أخرى حول العالم، يجري بعضها بين الدول وبعضها الآخر داخلها.

ثورة صناعية بلا عمال 

استدعى كاباديا مفهوم "الفائض البشري" التحليلي من سياق علم الاجتماع الهندي، الذي شهد استخدامًا واسعًا للمفهوم في العقود الأخيرة، في محاولة لفهم طبيعة التحولات في البلد كثيف السكان.

انطلق الفهم في الحالة الهندية من واقع أنه بلد ذو تعداد سكاني كبير، نما بمعدلات مرتفعة منذ استقلاله عام 1947، ولا تزال غالبية مواطنيه تعيش في الريف، وتعمل نسبة كبيرة منهم في القطاع الزراعي.

الغالب على عمل مؤسسات الحكم ليس دمج الغالبية بل الإبقاء عليها مستبعدةً

لكن خلافًا لما فعلته الثورة الصناعية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر، باستدعاء السكان من الريف علاوة على مهاجرين من مناطق أخرى حول العالم، لدمجهم في أسواق العمل، فإنَّ التنمية الاقتصادية اليوم تستند إلى تكنولوجيات لا تستدعي التوظيف الكثيف، حتى في حالات التصنيع، نظرًا لتطور الميكنة ناهيك عن التحولات الجارية المخيفة في مجالات الذكاء الاصطناعي، التي تساعد على إحلال التكنولوجيا محل العمل العقلي، لا اليدوي فحسب.

كما أنَّ تحرير التجارة والاستثمار العالميين في العقود الأربعة الماضية، أسهم في تركيز التصنيع الثقيل في مناطق بعينها في شرق وجنوب شرق آسيا، ما جعل امتداد جهود التصنيع إلى باقي بلدان الجنوب العالمي؛ إفريقيا أو جنوب آسيا أو أمريكا اللاتينية، أمرًا بعيد المنال.

وبالتالي، نظر المحللون الهنود إلى معضلة مفادها أن الهند، وهي في ذلك تشترك مع العديد من البلدان في الجنوب العالمي، لديها سكان كثر ينمون بمعدلات مرتفعة، ولا أمل حقيقيًا لهم بالانتقال للعمل في القطاعات الاقتصادية الحديثة مرتفعة الإنتاجية والأجور من صناعات أو خدمات متطورة، بما قد يعيد تجربة الثورة الصناعية في الغرب قبل قرن ونصف القرن.

مواطنة بدون دمج

وما يزيد المسألة تعقيدًا، أنَّ حصول بلدان الجنوب على استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية فتح المجال أمام استيعاب هؤلاء في مؤسسات سياسية باسم بناء الدولة القومية وحقوق المواطنة وسيادة الشعوب، بغض النظر  عن حقيقة الممارسة الديمقراطية على الأرض. لكنَّ ذلك حدث دون أن يقابله أيُّ دمجٍ حقيقيٍّ في أسواق العمل، اللهم أنشطة خدمية هامشية غير رسمية، يعيبها ضعف الإنتاجية وغياب الأمان الوظيفي وانخفاض الأجور.

خلق هذا التناقض دورًا لمؤسسات الدولة في إدارة الفائض البشري، بمعنى إنتاج الظروف المادية والمعنوية اللازمة للحفاظ على تهميش أو استبعاد الغالبية.

يُعد هذا مناقضًا تمامًا للتجارب الأولى في البلدان الصناعية، التي تطورت فيها أدوات الحكم والسيطرة لا للتهميش والاستبعاد بل للدمج والاستغلال، لأنَّ إنتاج ومراكمة القيمة الاقتصادية يتطلبان توظيف الملايين من العمال، ومن ثَمَّ السيطرة عليهم داخل منظومة محددة.

أما اليوم، فإنَّ الغالب على عمل مؤسسات الحكم داخل الدول أو على المستوى الإقليمي والدولي، ليس دمج الغالبية بل الإبقاء عليها مستبعدة تارة بالقمع والرقابة واستخدام العنف المنهجي، وتارة أخرى بتوزيع بعض الموارد على هيئة مساعدات أو أشكال من الدعم الداخلي أو الدولي، من خلال اتفاقات وتفاهمات الحد من الهجرة أو مفاهيم كالحرب على الإرهاب مثلًا.

ما يجري في غزة ليس بعيدًا عن ضرورات التراكم الرأسمالي في العديد من مناطق العالم

وفي الحالة الهندية كان الحديث عن الأمرين معًا، فمن ناحية هناك علاقات توزيع تقوم على الرشى الانتخابية وبرامج الدعم والمساعدات الاجتماعية الرسمية، ومن ناحية أخرى، هناك تسامح مع مستويات مرتفعة من القمع والعنف ضد مئات الملايين من أبناء الأقليات الدينية والعرقية، والمنتمين للطبقات الدنيا أو من يُعرَفُون بالمنبوذين، طبقًا للمفهوم الهندوسي.

الفائض البشري أبعد من الهند

يمكن بسهولة أن نرى ظلالًا لمفهوم "الفائض البشري" في العالم اليوم تتجاوز الهند وتجربتها التاريخية لتنطلق إلى فهمنا لواقعنا ككل.

فعلى سبيل المثال، من الصعب فهم الأهمية التي باتت قضايا الهجرة تحتلها في النظم السياسية للبلدان الغنية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بشكل جيد، دون إدراك معضلات إدارة الفائض البشري، هذه المرة على الصعيد العالمي لا داخل الدول فحسب، خاصة وأنَّ الهجرة ترتبط اليوم بصعود اليمين المتطرف وبمجموعة من التصورات العنصرية بالغة الخطورة على مستقبل حقوق الإنسان، سواء داخل الدول "الديمقراطية" التي تشهد نزيفًا كبيرًا في رصيدها الديمقراطي، أو من خلال الاتفاقات التي توقعها تلك الدول "الديمقراطية" مع حكومات مستبدة على أمل احتواء المهاجرين، وتصدير انتهاكات حقوق الإنسان لتلك الحكومات.

إنَّ الحرب الإسرائيلية على غزة هي تعبير شديد القسوة والتطرف لملمحٍ أساسيٍّ لما يبدو عليه العالم اليوم، يتعلق بإدارة الفائض البشري.

في حالة غزة، ليست هناك حاجة للدمج في أسواق العمل، وليست هناك أطر مؤسسية تستوعب غالبية الفلسطينيين بزعم المواطنة والحقوق الأساسية، بل على العكس، فالإطار المؤسسي والسياسي الحاكم هو إطار لدولة تُعرِّف نفسها بأسسٍ عنصريةٍ دينيةٍ، تتبنى رسميًا أيديولوجية قائمة على القضاء على السكان الأصليين، أو نفي وجودهم من الأصل.

ومن هنا يكون الإبداع التكنولوجي مُنصبًا على الجوانب الأمنية والعسكرية اللازمة أولًا للسيطرة والرقابة والحصار، للتحكم في الكتل البشرية للسكان الأصليين بأقل تكلفة اقتصادية وبشرية ممكنة، وثانيًا لمحاولة التخلص منهم والقضاء عليهم ماديًا، في حال فشلت خيارات الاحتواء الأمنية، وهو ما حدث في السابع من أكتوبر.

نستطيع من خلال هذا التصور النظري استيعاب لماذا تدور آلة القتل في غزة طيلة الأشهر الماضية بدون توقف، ولماذا تحظى أيضًا بقدرٍ من التوافق بين قادة العديد من الدول الذين يؤيدون الموقف الإسرائيلي، فما يجري في غزة ليس بعيدًا عن ضرورات التراكم الرأسمالي في العديد من مناطق العالم، أو على الأقل عن إدارة أزمة الرأسمالية العالمية المعاصرة.