
هل الصين فعلًا حلوة؟
قراءة في أحوال الطرف الأقوى في الحرب التجارية
يذكر أبناء جيلي الأربعيني صرخة جابر الشرقاوي/سامي سرحان "الصين حلوة!" في الفيلم الخفيف فول الصين العظيم، وهو يحاول إقناع حفيده محيي/محمد هنيدي بالسفر إلى الصين للمشاركة في مسابقة دولية للطهي، في إشارة مبكرة لتعاظم الدور الذي بدأت الصين تلعبه في الاقتصاد العالمي، على نحو يُوجب السفر شرقًا.
فهل الصين فعلًا حلوة؟ أو بمعنىً آخر؛ هل تحققتْ النبوءة وصارت الصين مركزًا جديدًا للاقتصاد العالمي؟ تزداد أهمية هذا السؤال ونحن نقترب من تصفية الحرب التجارية، التي بدا مع انقشاع غبارها أن بكين باتت في مركز قوة مقارنة بالولايات المتحدة، بغض النظر عن التهافت الخطابي للرئيس الأمريكي.
لا خلاف على كون الصين اليوم مركزًا رئيسيًا من مراكز الاقتصاد الرأسمالي، مع نمو نصيبها من الناتج العالمي من 8.34% عام 2004، عندما قدَّم شريف عرفة رائعته فول الصين العظيم، إلى 19.45% في 2024، علمًا بأنه كان 2% عام 1980.
كما لا يخفى على متابع أن الصين لم تعد، كما يظن البعض، تعتمد على تصدير اللعب البلاستيكية الصغيرة والشمسيات الرديئة، بل غدت الاقتصاد الأم لعدد من الشركات بالغة الضخامة في مجالات تقنية متقدمة، لعل آخرها وليس أولها BYD التي تفوقت على Tesla، لصاحبها ثقيل الظل إيلون ماسك، في مبيعات السيارات الكهربائية لأول مرة في 2024.
الطرف الأقوى في الحرب التجارية
بالنظر إلى تداعيات الحرب التجارية الأمريكية ضد الصين في سياق ما سبق، يبدو أن محاولات ترامب لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي بشكل أحادي ارتدَّت إلى صدره، سواء مع انهيار أسواق الأوراق المالية بسبب تداعيات فرض التعريفات الجمركية، أو انخفاض سندات الخزانة الأمريكية بالتزامن مع تصاعد هذه الحرب، والحديث المتزايد عن أثر سياسات ترامب بشكل عام على استدامة الدين الفيدرالي الأمريكي.
يتخوف البعض من سلطوية النظام الحاكم في الصين؛ دولة الحزب الواحد ذات السجل الحقوق السيئ
في المقابل، أبدى الصينيون استعدادًا أكبر لتحمل الخسائر المباشرة من الحرب التجارية، في إطار ما يرونه على ما يبدو إعادة تفاوض على وضعهم في النظام الاقتصادي العالمي، لكن من موقع قوة، على النحو الذي ظهر في حظر تصدير المعادن النادرة، الضرورية لصناعات عديدة وحساسة مرتفعة القيمة، على رأسها الإلكترونيات مثل الحواسيب والموبايلات، التي تحوز الصين نحو 70% من إنتاجها.
بدا بمرور الوقت أن مسألة المعادن النادرة كانت من الأغراض الرئيسية التي حرَّك ترامب من أجلها الحرب التجارية، خاصة بعد أن رهن قبل أيام وقفها بتيسير تصدير هذه المعادن للولايات المتحدة، ما يؤكد على قوة الأوراق التي تملكها بكين، وأنها ليست مجرد شريك تجاري تابع سيملي عليه الرئيس الأمريكي شروطه الخاصة.
ديكتاتور على قمة الاقتصاد العالمي
قرأ بعض المتابعين في هذه التطورات إيذانًا بتحولٍ عميقٍ ومتسارعٍ في توزيع القوة على الصعيد العالمي من الولايات المتحدة إلى الصين، بشكل يشبه ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية مع انتقال مركز العالم الرأسمالي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة، بل وسارع البعض إلى طرح أسئلة حول مصير العالم، بما في ذلك منطقتنا العربية غير السعيدة، في ظل هذه الهيمنة الصينية المرتقبة.
يتخوف البعض من سلطوية النظام الحاكم في الصين، فهي دولة يحكمها حزب واحد بأيديولوجيا شمولية، ولا مجال لحديث إيجابي عن سجلها في حقوق الإنسان أو الحريات العامة أو الخاصة.
بل ومما يثير فزع البعض أن هذا النظام تكيَّف مع التكنولوجيا الحديثة، لا فحسب من حيث الاستخدام بل من حيث القدرة على الإنتاج والتطوير، ما عبر عنه إطلاق تطبيق الذكاء الاصطناعي DeepSeek قبل عدة أشهر لينافس به ChatGPT الأمريكي، ليكتشف المستخدمون أن التطبيق الصيني يقدم إجابات حول تاريخ الصين المعاصر، لا يناقض الخط الرسمي لأيديولوجيا الحزب الشيوعي.
يقول آخرون في المقابل إننا لم نكسب الكثير من وراء الالتزام الغربي الخطابي بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، ونحن على مرأى ومسمع من إبادة جماعية تموّلها وتسلحها الولايات المتحدة على مدار أكثر من سنة ونصف السنة في قطاع غزة. وربما يذكر جيلي الأربعيني كذلك خطاب نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتمكين النساء من جانب إدارة جورج دبليو بوش، في معرض تبرير غزوه العراق عام 2003.
امبراطورية اقتصادية بدون هيمنة؟
تعي الصين الرسمية الماضي الكولونيالي للدول الغربية، والنفاق حول الالتزام الحقيقي بحقوق الإنسان والديمقراطية في سياسة الولايات المتحدة وغيرها، وتروّج خطابًا في إطار مشروعها الحزام والطريق مفاده أن دور الصين العالمي سيقتصر على التبادل التجاري والاستثماري، فالصين بلا ماض كولونيالي بل إنها كانت ضحية للإمبريالية الغربية واليابانية.
لكن إذا نحينا مسألة البروباجندا السياسية جانبًا، أليس كون الصين أكبر دائن للدول النامية في الوقت الراهن، كافيًا لخلق مساحات مستقبلية للتدخل في سياسات تلك الدول؟ على الأقل لضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ما يضع الصين على المسار ذاته الذي جعل من مراكز الرأسمالية في أوروبا ثم في الولايات المتحدة قوىً إمبرياليةً غاشمةً، وإن لم تستخدم رطانة حقوق الإنسان والديمقراطية هذه المرة؟
فهل الصين فعلًا حلوة بالنسبة لنا؟
أميل للإجابة بنعم. ولكن ليس للأسباب الرسمية التي توردها الحكومة الصينية كونها لا تملك ماضيًا استعماريًا، أو أن سلطوية نظامها السياسي غير قابلة للتصدير، إنما لأسباب جوهرية خاصة بالتحول الجاري في ميزان القوة العالمية.
يضمن هذا التحول ألَّا تحل الصين محل الولايات المتحدة قطبًا أوحد ومهيمنًا على العالم، بل ستكون بجانبها مع قوى أخرى، مراكز لنظام متعدد الأقطاب اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، على النحو الذي يحول، ماديًا، دون أن يتمكن أي فاعل من تكرار الدور الخبيث الذي لعبته الولايات المتحدة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وازداد خبثه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ولكن ما هي تلك القيود المادية التي ستمنع الصين من الهيمنة الأحادية؟
قد تصبح الصين أكبر اقتصاد عالمي في السنوات القليلة المقبلة، لكن إذا أخذنا في الاعتبار تعداد سكانها، سنجد هوّة شاسعة بين متوسط دخل المواطن الصيني البالغ نحو نحو 12 ألف دولار، ومتوسط دخل الأمريكي المُقدَّر بـ82 ألف دولار.
يذكّرنا ذلك دومًا بأن وزن الصين في الاقتصاد العالمي حاليًا، البالغ 19%، سيكون قريبًا من وزنها السكاني في العالم، وهو 17%. على الجانب الآخر، تمثل الولايات المتحدة 23% من الاقتصاد العالمي، ولكن 4.4% فحسب من سكانه، ويعني هذا أن صعود الصين لن يعكس ذات مستويات التركز الرهيبة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولن يعكس نفس مستويات الاستهلاك والإهلاك البيئي الذي يأتي مع زيادة الدخل، بطريقة تجعل من الأمريكيين النظير الاقتصادي ليأجوج ومأجوج.
ومن غير المرجح أن تحوز الصين المزيد من التركز في المستقبل من ناحية لتباطؤ معدلات النمو فيها نسبيًا مقارنة بما كان، ما سمح بتحول الهند إلى أسرع اقتصاد نامٍ كبير التعداد في العالم.
بل نهاية عالم القطب الواحد
إن ما يجري على الصعيد العالمي هو إعادة توزيع الدخل بعيدًا عن التركز الشديد في شمال غرب العالم الذي يشمل أوروبا وأمريكا الشمالية، نحو الكتل السكانية الأكبر: الصين والهند وجنوب شرق آسيا، التي تُمثل معًا نحو 50% من البشر. وهو للمفارقة يتم من خلال دمج هؤلاء في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
تنعكس هذه المحددات تمامًا على وعي النخبة الصينية الحاكمة بقدراتها ومقدراتها، فالأولويات لديها لا تزال قوميةً (قضية تايوان كجزء من الصين باعتراف الغالب الأكبر من دول العالم) ثم إقليمية خاصة ببحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي بدرجة أقل.
لا تملك الصين سوى قاعدة بحرية واحدة فحسب خارج أراضيها، في مدخل البحر الأحمر عند جيبوتي، مقارنة بـ128 قاعدة أمريكية دائمة حول العالم. ولا يبدو أن الصينيين حريصون على وراثة دور الولايات المتحدة العسكري لأنهم ببساطة لا يستطيعون.
فحتى مع التفوق الأمريكي الرهيب في التسليح، نتيجة الإنفاق العسكري المبالغ فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، باءت جميع التدخلات العسكرية الأمريكية النشطة تقريبًا بالفشل؛ من فيتنام إلى أفغانستان، ومن العراق إلى الصومال وأخيرًا في اليمن. وفي استطلاع قريب، أبدى 79% من الأمريكيين رأيًا مفاده أن الولايات المتحدة ينبغي ألا تتورط عسكريًا إلا في حال التهديد المباشر لأراضيها.
الخلاصة هي أن عالم ما بعد الولايات المتحدة لن يمثل فحسب نهاية الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم بل كل هيمنة شبيهة. لا يعني ذلك بالضرورة أن العالم سيصبح أكثر أمانًا، ولكن على الأقل سنكون أقل تعرضًا للقصف والاحتلال من أساطيل إمبراطورية قطعت آلاف الأميال لتأتي إلينا، أو هكذا أظن.