في وقت مبكر من صباح الأربعاء الحادي والعشرين من أغسطس/آب الماضي، وقع حادث مروري على الطريق الدائري قرب نزلة الرماية.
دهست شاحنة نقل ثقيل عددًا من السيارات. وعند هذا الحد انتهت المعلومات الموثوقة عن الحادث في الإعلام الرسمي، وبدأت الاختلافات في التغطية التي تولى بعضها شرح طبيعة الحادث المركب؛ فعرفنا أن هذا الاصطدام هو الحادث النهائي، بعد حادث أول بين سيارتي نقل أدى إلى توقف السيارات الملاكي فدهستها النقل الثالثة. شمل الاختلاف في التفاصيل عدد السيارات التي صدمتها التريلا (يتراوح بين 20 و25) وعدد الإصابات (يتفاوت بين 24 و27).
ومن بين هذا العدد هناك ثلاث وفيات، دون أن نعرف متى ماتوا وفي أي مستشفيات، ولم تكن هناك متابعة لحالات المصابين الآخرين، فلم نعرف هل زاد عدد الوفيات فيما بعد أم لا، ولم نعرف درجات خطورة الإصابات، وهل بينها ما تسبب في إعاقات دائمة؟
والملحوظة المهمة على الصحافة المكتوبة، في هذا الحادث وفي كل هذه الحقبة من تاريخنا، أن معظم المنشورات المقروءة تستند إلى تصريحات تليفزيونية دون أن تكون لدى الصحف والمواقع المكتوبة مصادرها الخاصة.
في هذا الحادث كان هناك تصريح تليفزيوني وحيد، صاحبه هو اللواء مدحت قريطم، مساعد وزير الداخلية الأسبق. وهنا يبرز السؤال: لماذا سابق؟ ألا نستحق تصريحًا من مسؤول حالي في النقل أو الداخلية؟
هناك رمزية خاصة للدائري.. ففي رصيد هذا الطريق الكثير من الخوف والحزن
ما من متابعة إعلامية تخبرنا عن وجود إجراء أو نية لاتخاذ إجراء بشأن السلامة على الطرق. صاحب التصريح الوحيد بهذا الشأن هو نفسه اللواء السابق قريطم، مقترحًا وضع مقيد سرعة إجباري في سيارات النقل. وإذا توفرت معلومات عن سرعة اصطدام التريلا بالسيارات، وثبت أنها لم تكن مسرعة؛ فلا محل لهذا الاقتراح. وإن حدث سيكون حلًا جزئيًا تمامًا، لأن كل السرعات قاتلة في ظل الفوضى الإنشائية والمرورية التي تعاني منها الطرق.
رمزية الدائري
شح المعلومات يقول أشياء عن مستوى المهنية ومستوى التعاطف لدى السلطة وإعلامها، ويقول أشياء عن مستوى الكفاءة والتقدير للمسؤولية، والنظرة لقيمة الإنسان.
وبعكس قلب أم موسى المطمئن الذي تتعامل به السلطة وإعلامها، أثار الحادث رعبًا وذهولًا بين الناس. دليلي الشخصي على هذا الرعب أنني كنت في منطقة سيئة التغطية عندما علمت بوقوعه، وبذلت كل جهدي لإجراء مكالمات لأتأكد أن أحدًا ممن أحب لم يكن على الدائري، وأعتقد أن كل قارئ لهذا المقال أجرى مثل هذه الاتصالات إذا كان لديه أحد من العائلة أو الأصدقاء من مرتادي هذا الطريق.
ولنا أن نسأل عن السبب الذي جعل من الحادث ترند السوشيال ميديا، علمًا بأن عدد ضحاياه يجعله أهون من حوادث سابقة وقعت مؤخرًا وخلَّفت خسائر أكبر، مثل حادث عبارة منشأة القناطر في الحادي والعشرين من مايو/أيار الماضي، الذي راح ضحيته 12 فتاة.
ما يُميِّز حادث الدائري هو رمزيته التي تفوق الواقعة وما نتج عنها. مبدئيًا، هناك رمزية خاصة للدائري، ففي رصيد هذا الطريق الكثير من الخوف والحزن؛ من أحداث خطف السيارات خلال صراع السلطة بعد يناير/كانون الثاني 2011، إلى حوادث المرور المتواترة، التي تجعله في البال دائمًا.
من جهة أخرى، يتمتع الطريق برمزية عالية باعتباره تمثيلًا لمجتمع غير منظم، تسوده علاقات القوة والتصارع القاتل على الفرص. تدافع المركبات الكبيرة والصغيرة على هذا الطريق دون أي نظام يجعل الخوف عنوانه. ولطالما امتنعت عن واجبات وحرضت أولادي على الامتناع عن واجبات، لأنها تتطلب عبور الدائري.
وللحادث الأخير بحد ذاته رمزيته العالية كفعل اجتياح. التريلا جرفت سيارات متوقفة، لا يملك سائقوها تفادي الحادث، و"الاجتياح" هاجس مسيطر من 2014. بلدوزرات تجتاح البيوت غير العشوائية من أجل توسيع الطرق، وتجتاح البيوت العشوائية لأن الحكومة تحارب العشوائية، وتجتاح الحدائق لبناء الدكاكين العشوائية، وتجتاح الجزر الخضراء بالشوارع لبناء الكباري، وتجتاح الشواطئ لتخفي البحر وراء الإنشاءات ذات الصلة بالعقيدة الاقتصادية والاجتماعية للنظام.
فلسفة الكباري
إذا عدنا لوصف الحادث؛ فالمكان عنق زجاجة، يتحول فيه الطريق من ست حارات إلى أربع. وهذه مشكلة عامة في كل نهضة الطرق والكباري المباركة.
الفكرة البسيطة التي تتجاهلها إنشاءات الطرق والكباري أن المدينة تشبه جسم الإنسان وشوارعها هي الشرايين التي يجب أن تكون متناسبة مع بعضها البعض، الاتساع مميت طالما يتصل بالضيق. ربما يكون الاتساع جيدًا في حالة المدن التي تنشأ من الصفر، ومع ذلك فالنظام أهم من الاتساع في عرض المرصوف، سواء في شوارع المدينة أو الطرق خارج المدن، لأن الاتساع الزائد على حاجة الاستخدام الفعلي إهدار للمال والبيئة.
للأسف المتبع في الكباري والطرق أن هناك فائضًا من الخرسانة والزفت جاهز للصب. وكلما كانت هناك فرصة للتوسيع يجري التوسيع، ثم يأتي عنق الزجاجة الذي يسبب التكدس والتطاحن على فرص المرور، الذي يؤدي للحوادث علاوة على إهدار المال. لدينا على المحور بالطبع أمثلة للضيق والاتساع المربك وضيق المهابط والمصاعد في حالات متعددة، كأنها مسروقة سرقة.
العمل السريع في إنشاء الطرق وتعديل القديم منها دون دراسات لم يخرجا عن ذهنية الاجتياح، سواءً كانت طرقًا سريعة أو طرقًا داخل حي سكني، وأبرز مثال على ثقل اليد نجده في حي مدينة نصر. ثلاثة من شوارعها الطولية (الطيران، عباس العقاد، مكرم عبيد) شوارع منتهية، لم تكن بحاجة إلى تدمير جزرها الخضراء ولا إلى إلغاء فتحات الالتفاف لأن وظيفتها الأساسية هي خدمة سكانها. التوسيع المبالغ فيه لتلك الشوارع جعل عبورها مخيفًا ومذلًا. ولم تتم مراجعة أو تقييم نتائج القمع العمراني، ولن تتم إلا عندما تتوفر الشروط في زمن آخر.
وللأسف، تجد استراتيجية الاجتياح في الإنشاءات ما يسندها؛ فهناك مؤشرات دولية تشيد بنهضة الطرق المصرية. يفرح المؤمنون بهذه الشهادات، لكنها تناقض الواقع بشكل مؤسف.
ولشديد الأسف، يعيش الإنسان واقعه لا في جداول الإحصاءات، لهذا يجب الركون إلى دراسة الواقع بتعقل لكشف أسباب اختلافه عن الإشادات الدولية.
مبدئيًا هناك سببان لاختلاف هذه الشهادات عن الواقع. الأول أيديولوجي تمليه رغبة المؤسسات الدولية في دفع الدول النامية لمشروعات البنية التحتية لا الإنتاج. والثاني معرفي؛ فهذه المؤسسات تتلقى أرقامًا عن أطوال الطرق المضافة وعرضها من الدولة نفسها. المعلومات صحيحة لا تزوير فيها، لكنها مجرد أرقام صماء، لا تتضمن التفاصيل التي يكمن فيها عزرائيل، والتي تتعلق بمعايير وتدابير السلامة على الطرق.
واقع الحال
أول التفاصيل التي يسكنها عزرائيل أن بنية الطرق ليست منفصلة عن الحالة القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلد. الحالة القانونية حاكمة لكل ما يتعلق بإنشاء واستخدام الطرق؛ فهي التي تحدد درجة الشفافية الضامنة لجودة الإنشاء، ومن جهة أخرى ترتبط كفاءة وسائل إنفاذ القانون بدرجات الخطورة التي تنشأ عن مستخدمي الطريق: كيف تُسوى المخالفات المرورية في هذا البلد أو ذاك، هل يُطبق القانون على جميع المركبات؟
أضعف الإيمان الخطوط البيضاء التي تُقسم الطريق إلى حارات فيشكِّل ذلك رادعًا نفسيًا للسائق المتسيب
المستوى التعليمي والاجتماعي والاقتصادي لمستخدمي الطريق عنصر مهم آخر في تحديد كفاءة الطرق. هناك ممارسات واستخدامات خاطئة سببها الجهل والفقر، من بينها التوقف على الطرق السريعة لإنزال ركاب، سواء من مركبة خاصة أو من مركبات عامة تغض الدولة الطرف عنها. بل تتخطى ذلك إلى الاستجابة لهذه الممارسات بإنشاء سلالم مشاه على الدائري تسهل بدورها اختلاق مواقف ميكروباص فوقه.
ولدينا كذلك المواطن الذي تتعطل سيارته ولا يملك دفع أجر ونش، فيجعل سيارة أخرى تقطره في غياب مظلة تأمين حقيقية. والتوكتوك الذي قد يكون وسيلة ضرورية داخل القرى والأحياء العشوائية فنراه يخرج إلى الطرق السريعة.
هذا الواقع القانوني، الاقتصادي، الاجتماعي يفرض السؤال: لمن أمد هذه الطرق؟ وبعد أن تعرف السلطة مستوى كفاءة مؤسساتها في إنفاذ القانون، ومستوى مستخدم الطريق، تأتي معايير السلامة الإنشائية المناسبة لهذا الواقع، وهي كثيرة تتراوح بين 25 و30 معيارًا، تستنبطها مؤسسات التقييم بالدراسات المسحية لما تطبقه الدول المتقدمة.
من هذه المعايير ما يتعلق ببنية الطرق من حيث السلامة الفنية والخامات والإنارة، والحواجز الآلية، منها اللوائح والقوانين مثل تهدئة حركة المرور في المناطق السكنية، ومنع إعلانات الطرق، ومنها استدامة الجودة بالإنفاق على الصيانة الوقائية، ومنها كفاءة السائقين واختبارات الصحة الإلزامية وخصوصًا النظر.
معايير الجودة
طبقًا للمعايير الفنية الدولية، فالطريق الدائري صاحب الرصيد العالي من اجتياح التريلات للعربات الصغيرة، في وضعه الحالي هو طريق تحت الإنشاء، والكثير من طرقنا لها الوضع نفسه. قد يتمتع ببنية ممتازة لأحد معايير السلامة، مثل الإنارة على سبيل المثال. هناك معدل عالٍ من أعمدة الإنارة العملاقة، تظهر صورها النهارية في تقارير الإنجازات عن الطرق الجديدة، لكن ماذا عن الليل؟ كم من هذه الأعمدة تعمل؟ هناك نقص في اللافتات الإرشادية، وبعضها توضع على مسافة غير كافية، فلا تتيح للسائق الانعطاف الآمن.
بعد جودة البنية الأساسية من خامات الرصف ومواصفات فنية هناك عمل كبير في تخطيط الطريق بالعلامات المضيئة والأسهم الفسفورية على الجانبين التي تحدد حدود وميول الطريق، والخطوط الملونة عند التفرعات وأضعف الإيمان الخطوط البيضاء التي تُقسم الطريق إلى حارات فيشكِّل ذلك رادعًا نفسيًا للسائق المتسيب، وهاديًا للسيارت الحديثة المبرمجة على حسن السير والسلوك بين الخطين.
حتى الإمكانات التي يشتريها الإنسان من ماله من أجل تحقيق أمانه تُهدر في غياب هذا التخطيط. وواقع طرقنا يشير إلى أنها غير مخططة. إما أن بعضها جرى تسليمه دون تخطيط أو تم تخطيطه بنوعية رديئة من الدهان سرعان ما تُمحى كما لو كانت مرسومة بالطباشير.
وفي نوعية الأسفلت والعيوب التي تظهر سريعًا كارثة مستقرة، إما بالهبوط الأرضي تحت طبقة الأسفلت أو بتضرر الأسفلت نفسه من الأحمال التي تفوق قدرته. العمر الافتراضي لطرق الأسفلت 18 عامًا وطرق الخرسانة 25 عامًا. لكن في واقعنا تظهر العيوب بعد أسابيع أو أشهر، ويفلت مقاولوها من الحساب، وفي غياب الصيانة تعيش الحفرة مثل فخ منصوب للمركبات.
في حادث الاجتياح على الدائري، وفي جميع حوادث السيارات، تتوجه الأنظار إلى فحص المخدرات في دماء السائقين، وكأنه السبب الوحيد للحوادث، لكن القضية أعقد. كل من خطط طرقًا غير مناسبة للظروف الاقتصادية والثقافية للمستخدمين فقد أنشأ فخًا للموت قبل تنفيذ الطريق، وكل ضباب يعطل شفافية التنفيذ هو ضباب على الطرق نفسها، وكل من يُقصِّر في تطبيق القانون على توكتوك، هو شريك في فعل الاجتياح مع سائق التريلا.
وكل بكاء في الفائت نقصان في العقل، إذ لا أمان على طريق دون ديمقراطية.