صفحة المخرج كمال الدين مسعود، فيسبوك
المخرج التليفزيوني كمال الدين مسعود خلال تسجيل حلقة لم تذع من برنامج "وقائع مصرية" مع الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل. مارس 1990

كمال الدين مسعود.. مخرج تليفزيوني نسمع صمته

منشور السبت 26 أكتوبر 2024

كان برنامج "وقائع مصرية" للمخرج الشاب، آنذاك، كمال الدين مسعود، أحد البرامج المصطفاة التي لم تغطس من الذاكرة كأغلب برامج الثمانينيات والتسعينيات، التي كانت تفتقد المذاق الخاص والحرفية والمتعة معًا، قبل لحظة التحول ودخول عصر الفضائيات.

كانت حلقات البرنامج، التي بدأ عرضها في النصف الثاني من الثمانينيات، استثناءً وحدثًا فنيًا في لحظة رديئة، جاء من داخل دولة التليفزيون.

أهم ما ميَّز هذه الحلقات هو الجو النفسي الذي تضعك فيه، بسردها الدرامي المحكم مع استخدام الإضاءة والموسيقى المصاحبة. كان الحس التسجيلي ممسوسًا بالدراما، دون الإخلال بمعادلة الاتزان بينهما، وهي إحدى طرق السرد النادرة آنذاك. بجانب عامل آخر وهو عدم ظهور المحاور، الذي كان المخرج نفسه، إلا بصوته فقط، فأتاح مكانه للمشاهد. بجانب الجهد البحثي المتشعب الذي يستغرقه زمن إعداد الحلقة، ويظهر بوضوح ذائبًا داخل النسيج الدرامي.

كل مجموعة حلقات تشكل موضوعًا ما، له عنوان رئيسي، ينقسم بدوره إلى حلقات، تحمل عناوين فرعية  زمن كل منها حوالي 30 دقيقة، لها نهاية منفصلة ومتصلة في آنٍ، أيًا كان المحتوى، والذي في أغلبه يرتبط بقضايا وطنية، أو رموز مصرية في الأدب والفن والسياسة.

رغم سيطرة حس الرثاء، الذي يحمل نعيَ زمنٍ مضى، فإن منهجه البحثي كان به حِس متفائل، يصل به إلى زمن "البعث"، ويفتح نظرة للمستقبل. فالتاريخ جزء من همِّه الجمالي، ولكنه ليس فقط الماضي، بل المستقبل أيضًا. يذكر في حديث له "الفيلم التسجيلي من الوثائق التاريخية (...) كي تتعرف الأجيال من خلاله على التاريخ".

صدامات متتالية مع الرقابة

براعة كمال الدين مسعود أنه كان يجد لأفكاره، سواء عن شخص أو قضية، التصور البصري الموازي لها، بلقاءات سريعة ومستفيضة مع بطل الحلقة أو صاحب الفكرة، وكذلك مع متخصصين، للإحاطة بالفكرة من كل الجوانب. بالإضافة لاستعانته بأرشيف التليفزيون المصور، من خطب عبد الناصر، وأغاني عبد الحليم الثورية، وأفلام تسجيلية أخرى، وكان ذلك كله يمثِّل عنصرًا في غاية الطزاجة آنذاك، بسبب منع عرضها لسنوات لارتباطها بالفترة الناصرية.

توقف مشروع "بنك الفيلم المصري" بعد موافقة فاروق حسني بسبب نقل تبعية السينما إلى وزارة قطاع الأعمال

هذا الأرشيف حفَّز كاتبًا مثل محمد حسنين هيكل أن يوافق على أن يُجري معه المخرج لقاء مطولًا بعنوان "الإنسان والنيل والسد"، يسرد فيه حكاية السد العالي بكل جوانها. وهو التسجيل الذي مُنع عرضه بعد موافقة وزير الإعلام على تسجيله.

كان هناك تداخل بين السياسة والفن، فالعنوان الكبير لمشروعه الفني والإنساني هو "توثيق ذاكرة مصر البصرية"، لذا كان مشغولًا بالحلم الجماعي وتحولاته. فالنماذج الأدبية أو الفنية التي تمثِّل رموزًا للأمة، كانت تتقاطع بوضوح مع المشروع السياسي لهذه الأمة. هذا التقاطع كان سببًا في أزمات ستحدث له مع التليفزيون ورقابته.

في عام 1987 طلب المخرج من الأستاذة مديحة كمال رئيسة القناة الثانية إنتاج حلقات وثائقية عنوانها "مصر بين الهزيمة والنصر". تأخرت الموافقة، ولكن المخرج بدأ التسجيل بالفعل مع بعض القادة العسكريين عن هزيمة 1967. ثم جاءت سهير الإتربي رئيسةً للقناة الثانية خلفًا لمديحة كمال، واستكمل الحلقات، لكنها لم تنل إعجابها، لأنها تضمنت خطبًا لعبد الناصر وأشعارًا لنجم، فتقدمت ببلاغ واستُدعي الأمن وحقَّق مع المخرج باعتبار هذا الشريط مؤامرة.

يحكي المخرج حمدي متولي مساعده في إخراج البرنامج "أثناء إذاعة إحدى الحلقات التي تناولت النكسة وحرب الاستنزاف التي كنا نعرض فيها تاريخ إسرائيل الأسود والاعتداءات على المدنيين ومدرسة بحر البقر، وفي يوم الإذاعة ظل كمال مسعود يكلمني من منزله على تليفون الاستوديو وأنا أنفذ الحلقة حتى يظل التليفون مشغولًا ولا يتصل أحد للقطع على الحلقة. وأذيعت الحلقة وصاحبتها ردود أفعال من بعض المسؤولين وصلت إلى الرئاسة وقتها، وكان اندهاشنا جميعًا يجعلنا نتساءل: هل نحن في عداء مع إسرائيل أم في مرحلة سلام؟".

لم يكن طابعُ كل حلقاتِ برنامجه سياسيًّا، أحيانًا كانت تشرد نحو تجليات فنية صافية مثل حلقات "الرسم بالضوء" عن المصور السينمائي عبد العزيز فهمي، الذي انبهر مسعود بعد أن شاهد فيلم المومياء، لأستاذه شادي عبد السلام، مَن نصحه بدخول معهد السينما بعد دراسته للفنون الجميلة، كما طلب منه شادي أن يكون أحد مساعديه في فيلمه الجديد أخناتون.

أرشيف ضائع

كنت أتخيل أني وحدي من يحتفظ بذكرى هذا البرنامج الفارق، ولكن عندما بدأت البحث عن أي معلومات تخص المخرج، وجدت العديد من التنويهات، والقليل من المقالات، وكلها تأتي من الجيل الذي عاش تلك الفترة الغارقة من تاريخنا.

لم أجد حلقاته الأربع عن مومياء شادي عبد السلام، التي استخدم في تتراتها مقطوعةً موسيقيةً بمذاقٍ تاريخيٍّ ملحميٍّ وحسّ جنائزيّ مصريٍّ قديم، وضعها الموسيقار الفرنسي جورج ديليريي الذي وضع موسيقى الصوت والضوء في الجيزة. بحثت عن حلقته عن الموسيقار علي إسماعيل ولم أجدها أيضًا.

يصفه أيمن الحكيم في حواره معه "كمال مسعود نصف وزنه طموح، ومشواره أقرب إلى مغامرة". وينقل عنه أنه من أجل تجهيز ستوديو لبرنامج صباح الخير يا مصر، تم أخذ ستوديو قطاع الأخبار، ونقلوا المكتبة الملحقة به إلى البدروم، بكل ما تحتويه من تسجيلات ثمينة ونادرة. ويبدي مسعود في الحوار أيضًا قلقه على أرشيف السينما المصرية ويخشى من تسربه من أفلام روائية وتسجيلية، خارج ستوديو مصر.

واقترح على فاروق حسني وزير الثقافة، ومن بعده على صفوت الشريف، مع أستاذه إلهامي حسن، خطوات لحفظ إنشاء بنك الفيلم المصري. أوقف المشروع الذي وافق عليه فاروق حسني بسبب نقل تبعية السينما من وزارة الثقافة إلى وزارة قطاع الأعمال.

يحكي أيضًا عن فقد 18 ألف شريط 2 بوصة من مكتبة التليفزيون عليها مواد نادرة، مع تغيُّر أشكال التخزين بعد التطور التكنولوجي، وأن المواد التي حصل عليها من "وقائع مصرية"، استطاع أن يستخلصها من هذا الركام الذي يحتاج اهتمامًا خاصًا لترميمه والحفاظ عليه.

ولدت في عهد عبد الناصر

بحثت عن صفحته على فيسبوك فوجدت أنها أنشئت في يونيو/حزيران 2014، ووجدت صورًا من بعض الحوارات التي أُجريت معه والمقالات التي كُتبت عنه، بالإضافة لفيديوهات لبعض حلقات برنامجه لم تعد مادتها موجودة. وهناك صفحة أخرى شخصية، لا تستقبل الرسائل، تتقدمها صورة أبو الهول الصامت والصامد، وأيضا الشاهد على التاريخ.

راسلته لكنه لم يرد، فآثرت تركه لصمته، ولكني بحثت عن ضمير المتكلم في صفحته، لأتأكد من عدم وجود أدمن. فقرأت كلماته عام 2014 التي لخص بها حياته بين عدة عهود "ولدت في عهد الزعيم البطل ناصر، ونشأت في عهد السادات، ورأيت الظلم في حكم مبارك، والآن أتنفس ريح الحرية في بلدي بعد الربيع العربي في ثورة 25 يناير 2011".

أضيف في تعريفه أنه تخرج في كلية الفنون الجميلة سنة 79 قسم ديكور. التحق بمعهد السينما، وقدم أوراقه أيضًا في معهد الفنون المسرحية. له دراسات عديدة في التصوير والإعلام حتى حصل على درجة الماجيستير في الإخراج التشكيلي عام 1993.

أعود لحسابه، أجده كتب يوم وفاة حسنين هيكل  في 17 فبراير/شباط 2016؛ "وداعًا هيكل.. رحل اليوم الكاتب والمفكر والمؤرخ السياسي الكبير محمد ـحسنين هيكل".

 وأرفق هذا الوداع بعدة صور معه التقطت أثناء تسجيل تلك الحلقة التي لم تذع في مارس/آذار 1990! في إحدى الصور كتب هيكل "تحية تقدير واعتزاز" ووقعها بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2002، بعد 12 سنةً من التسجيل!

اختفاء 210 دقائق

إثر عودة مصر للجامعة العربية عام 1989 بعد 10 سنوات من المقاطعة، استُدعي المخرج كمال الدين مسعود لإجراء حوار مع هيكل.

كانت بداية تعارفه على هيكل في الندوة التي أقيمت للأخير في معرض القاهرة للكتاب 1990، عندما حضر 5000 شخص ينتظرون ظهور هيكل الغائب طوال فترة السادات وسنوات مبارك الأولى.

عقب نهاية الندوة، توجه أحد الشباب إلى المنصة ليصافح هيكل، وقدم نفسه "كمال مسعود.. مخرج فى التليفزيون المصري"، رد الأستاذ قائلًا؛ "إنت بقى كمال مسعود.. أنا كنت فاكرك أكبر من كده". ثم بادره بالسؤال: كيف استطعت الإفراج عن خطب جمال عبدالناصر؟

وكان هذا الأرشيف أحد مفاتيح السر في علاقته بهيكل. وطلب منه أنه يسمح له بزيارته. ذهب المخرج الشاب إلى هيكل في مكتبه وعرض عليه فكرة البرنامج وحلقة "الإنسان والنيل والسد" المخصصة للأستاذ. وافق هيكل بشرطين؛ أن يكتب له قبلها المحاور المطلوب مناقشتها في الحلقة ليجهز ما يحتاجه من وثائق، وأن يُحضر له موافقة مكتوبة من وزير الإعلام صفوت الشريف على التسجيل.

وافق صفوت الشريف على طلب هيكل، وأعطى كمال مسعود تلك الورقة اللبني، اللون المميز للأوراق التي تحمل توقيع الوزير، فذهب وسجَّل مع هيكل 210 دقائق اختفت أشرطتها، ولم تذع "كونها أشعلت فتنة سياسية، كما قيل، كادت أن تعصف بأسماء كبيرة لذا جرت الإطاحة بمخرج الحلقة بعد إحالته للتحقيق. يرون أصابع الاتهام ضد صفوت الشريف باعتباره من سعى لمنع ظهور هيكل على شاشات التليفزيون في مصر".

ولم يكن هذا آخر لقاء محبط مع هيكل. عام 2003 فوجئ كمال مسعود باتصال من حسن حامد، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون وقتها، وأبلغه بإعجابه بحلقات "وقائع مصرية" ورغبته في عودتها، واقترح عليه أن يقدم حلقات جديدة ذات بُعد عربي، فأعاد المخرج حلمه بالحوار مع هيكل.

تواصل المخرج الشاب مع الأستاذ هيكل، فسأله، ربما عاتبًا بكبرياء، عن أشرطة الحلقة القديمة، فأبلغه المخرج باختفائها. عندها رفض هيكل طلب المخرج، وأبلغه أن قناة دريم ستقوم بالتسجيل معه، وبدأ التصوير بالفعل، ولكن الأشرطة اختفت أيضًا!

اسمعوا صمتكم

هناك فيديو نشره المخرج المصري على صفحته، للمخرج الأمريكي أوليفر ستون وهو يلقي خطاب حفل توزيع جوائز اتحاد الكتاب 2017، ينتقد فيه أمريكا لتدخلها في العالم واختلاقها الحروب وتبريرها، ويوصي ويحث الكتَّاب "على إيجاد طريقة للبقاء وحيدين مع أنفسكم، وأن تستمعوا إلى صمتكم، ولا تحاولوا تقديم ما يريده الناس من أجل الوصول للنجاح. ولكن حاولوا بدلًا من ذلك أن تجدوا المعنى الحقيقي لحياتكم هنا على الأرض، وألا تتخلوا أبدًا عن ما في قلوبكم والكفاح من أجل السلام والأخلاق وقول الحق".