
الملك هو الملك.. الإمبراطور هو الإمبراطور
ملك يشعر بالضجر، يقرر أن يلعب ويتسلى. يُحضِر تاجرًا مفلسًا ليجلسه على عرشه، ليرى كيف ستتعامل معه الرعية. تنقلب اللعبة المسلية التي أرادها الملك سخرية من الجميع؛ شعبه وأتباعه وبلاده كلها. يتقمص التاجر المفلس دوره، يتصرف كملك، يُنكر معرفته بأهله وبالملك الأصلي، لا يتردد في القسوة والفعل، ويتعامل معه الجميع باعتباره الملك فعلًا، فالمهم الثوب والتاج، وليس الحشو، ما دام يُمسك الصولجان بيده.
أتحدث هنا عن مسرحية وصورة. المسرحية هي الملك هو الملك للراحل سعد الله ونوس، كنص مسرحي، وليس كعمل نُفِّذ في مصر قبل عقود. والصورة هي ما يسمونه بـ"صورة العائلة"، التي جمعت زعماء الدول المشاركين في قمة حلف الناتو قبل أيام في مدينة لاهاي بهولندا.
يومها قرر الملك ترامب، بعد أن أصبح إمبراطورًا، معاقبة أحدهم بتركه جانبًا، هناك عند أطراف الصورة، عند الهامش؛ رئيس حكومة لم ينحنِ أمامه بالدرجة التي انحنى بها الآخرون. استجاب الباقون، الملوك الصغار، لقرار العقاب. فانحناء ولو واحد منهم نصف انحناءة، يُعرِّي الجميع. فيمتنعون عن محادثة الملك الصغير المُعاقب، ويتجنبون الاقتراب منه جسديًا.
الإمبراطور؛ "أنا الحلم. إني الحلم نفسه. أيها الوزير إني ضجر"
في بداية حكمه، وبعد قرارات العقوبات التجارية العشوائية، قال الإمبراطور المهرج، مؤكدًا على سطوته ونفوذه العالميين، إن حكام العالم يأتون إليه لتقبيل مؤخرته، ليعفي بلدانهم من العقوبات.
لم يصدقه أحد. كانت أيامها أوروبا والصين وبعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية، تبحث عن كيفية إيلامه بعقوبات مضادة. لكن الإمبراطور انتصر، تكرَّس عرشُه، بكل هَزْلِه، وهَوَسِه، وجُنُونِه. ألغى بعض العقوبات، وأجَّل أخرى، لتظل سلاحًا يستدعيه وقت الحاجة لعقاب المشاغبين.
يتحرك المهرج في كل الأماكن، لا يتوقف دقيقة واحدة عن الثرثرة. يهين الجميع، ويُمجِّد بعضهم بعد ساعات. وبإيقاع الحركة المفرط والضجيج المستمر، نفقد الوعي بالحدود، بالجدران التي تفصل المسرح عن الواقع الحقيقي، يتحول العالم لقاعة مسرحية. لا يغادر خشبة العرض، يتحرك من دون توقف، يستخدم سلاح الصخب، لا يتوقف عن الكذب ونشر الشائعات والمعلومات غير الدقيقة.
إنه يعرف أثرها، فللكذبة في هذا العالم، حيث تنهار الحدود بين المسرح والواقع، سحر. نصدقها، ونصدق بعد لحظات نقيضها. تموت المعلومة الموثقة. وبما أننا لا نعرف يقينًا ما هو حقيقي من بين المزيف، يُصبح من ضمن السحر أن يخلق كل مواطن كذبته، وأن يصدقها، وأن يدعو ويروج لها أيضًا، أيًا كان نوع الكذبة أو حجمها. فيصبح اختراع الأكاذيب من ضمن ما يسمونه في الأعمال الفنية بـ"مستويات التلقي".
الخادم؛ "أنا الظل الذي يتبعك، ويمتد وراءك"
بعد اجتماع الزعماء الأوروبيين ليقرروا كيفية الرد على عقوبات الإمبراطور، لتكون أوروبا المحور المستقل الذي لا ينصاع لترامب أو لبوتين، المحور المواجه للعبة الخوف والتسلح التي يكرسها طرفاها من الناحيتين، يحدث التحول الأول في المسرحية.
لا نعلم ما حدث، لكنهم بدلًا من الاستقلالية، ومواجهة الإمبراطور الذي يرونه خطرًا على العالم، يذهبون في طريق التبعية.
يُخرِجون من بينهم أحدهم، ليقود رحلة تراجعهم وانكسارهم أمام إمبراطور العالم، ويختارون أن يكون مجال الانكسار والركوع هو حلف الناتو. مظلة مناسبة تسمح بالانكسار دون فضائح. ففي النهاية لا يجرؤ بلد على الخروج من حلف دخله، إذا كان هذا الحلف هو الناتو.
اسمه مارك روته. كان يشغل منصب رئيس وزراء هولندا، قبل أن يستقيل بسبب فضائح فساد طالت حكومته. يرتدي الآن زي المهرج المساعد، ليكون السكرتير العام لحلف الناتو. إنه مهرج ضاحك، لا يتخلى عن مهمة تسلية سيده وأن يكون ظلًا له. حتى في أداءاته الجسدية بطوله الفارع، يتملق السيد الذي لا يتخلى عن وجهه العابس والصارم، وجه الضجر، بأدائه الجسدي المفتعل، وكأنه يلعب أيضًا دور السياف الواقف على بابه ممسكًا بالبلطة، أو دور كاوبوي الغرب الأمريكي الممسك بمسدسين، بجسد ممثل متشنج، مستعادٍ من أسوأ أفلام الويسترن الأمريكية.
الخادم الضاحك لا يخجل. قبل اجتماع حلف الناتو يوم 25 يونيو/حزيران الماضي يتحدث مع بقية الأتباع، حكام الدول العضوة في الحلف. يذكرهم بقرار الإمبراطور المنفرد، أن يخصصوا 5% من الناتج المحلي الإجمالي لبلدانهم للإنفاق العسكري، إن أرادوا حماية الإمبراطور لهم من الإرهاب ومن صديقه بوتين.
نقل لهم ما قاله الإمبراطور، أن عليهم أن يدفعوا، لكن بلاده لن تدفع. انصاعوا جميعًا، إلا واحدًا منهم؛ بيدرو سانشيز رئيس الحكومة الإسبانية. ليس لمبدئية، بل لأزمة داخلية عميقة تهدد حكومته وتنذر بانتخابات مبكرة. ففي هذه اللحظة لا يستطيع المغامرة بإغضاب اليسار برفع الإنفاق العسكري تدريجيًا لأكثر من 2.1% خلال السنوات القادمة.
وافق مارك روته على استثناء إسبانيا. أرسل للحاكم الإسباني خطاب الموافقة. لكنَّ الإمبراطور وبَّخه؛ كيف تتمرد إسبانيا الصغيرة، بينما بقية الدول وافقت صاغرة؟! راضاه السكرتير، بتمجيده كإمبراطور، بأن يرسل له رسائل تخبره كيف يراه والآخرون كسيِّدٍ أنقذ العالم بضرباته العظيمة لإيران، وأنه سيظل سيدًا. واعدًا "كلهم سيدفعون سيدي الرئيس".
القطيع؛ "أنت مولانا الكريم.. سُدْت بالمُلك العظيم"
https://www.youtube.com/watch?v=gv6Y18qhwXEيحب الجمهور وبعض الممثلين المساعدين أن يخرج البطل عن النص، وإنْ كان لتوبيخهم والتسفيه منهم. والخروج عن النص في السياسة هو خروج عن البروتوكول. إنها المشاهد المفضلة للبطل، للإمبراطور، أن يهين الآخرين ويوبخهم واحدًا وراء الآخر، وكأنهم في طابور مدرسي ينتظر الدخول إليه. يبدأ الإمبراطور المهرج الحفلة بالتوبيخ العلني لرئيس أوكرانيا، يتبعه برئيس جنوب إفريقيا. ثم يأتي دور الجميع: المرشد الإيراني، و"المرشد الإسرائيلي"، وهذا الحاكم الإسباني الصغير؛ "سأجعلك تدفع الضعف".
في مسرحية سعد الله ونوس يحاول الوزير/الخادم الحفاظ على المظاهر. لكن خادم الإمبراطور في الحياة الواقعية الحديثة لا تهمه المظاهر. يترجى رؤساءَه السابقين؛ العائلة المالكة الهولندية، لتكمل الجميل بجعل الإمبراطور أول من يُستقبل في القصر الملكي في لاهاي، رغم أنه كان آخر من حضر. وأن يكون أول رئيس دولة يبيت في القصر. والإمبراطور يرد الجميل، بتغريدة تتحدث عن جودة الإفطار في القصر الملكي.
التابع؛ "هي أحلام فردية لا تتحد، ولا تفعل"
مدينة لاهاي الهولندية، المستضيفة لقمة حلف الناتو صاحب السجل الطويل من الجرائم ضد الإنسانية، فيها أيضًا مقر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية؛ التي يفترض أنها تُحاكم تابع الإمبراطور الحالي، نتنياهو.
التجار؛ "خيط يمسك بالقصر والملك والسياسة. نحن نمسك الخيوط. من المحراب ومن السوق. وسنظل نمسك الخيوط"
رغم انتشار الأكاذيب والشائعات، وموت المعلومة الموثقة، فإن الخيوط التي يمسك بها التجار لم تعد مخفية. يعرفها الجميع، ومكشوفة أمام العوام، لا أحد يحاول تجميلها. يتحدثون علانية عن فوائد حروب إسرائيل والولايات المتحدة، بداية من إبادة الشعب الفلسطيني، وصولًا لرفع ميزانية العسكرة ومضاعفتها بحجة أن هناك شريرًا في المسرحية اسمه بوتين. فكل هذه الأموال ستصب في الميزانيتين الأمريكية والإسرائيلية؛ الرائدتين في الصناعات العسكرية الدقيقة، وغير الدقيقة.
وزيرة دفاع إسبانيا، وزيرة الملك الصغير المتمرد المُعاقَب، ورغم أن حكومتها تدَّعي أنها تحظر "رسميًا" التعاون العسكري مع إسرائيل، وتدعو الآخرين للاقتداء بها، تعترف أن المقاطعة الكاملة للصناعات العسكرية الإسرائيلية مستحيلة.
التجار ينتظرون، والإمبراطور لا ينساهم، فهم محركو خيوط الكثير من الأشياء. هم من يوفرون له متعة التباهي بالجريمة، وبأن ضربَ المفاعلات النووية الإيرانية من أجل السلام، أعظمُ من ضرب مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية، في نهاية الحرب العالمية الثانية، من أجل السلام أيضًا.
يصرخ الإمبراطور: أوقفوا الحرب بعد ست ساعات. لقد أسميتها حرب الاثني عشرَ يومًا. يبدو أنه لا يحب رقم ثلاثةَ عشرٍ.
يشارك الإمبراطور في الحرب، يُصعِّدها بضرباته، من دون أن يعبأ بالرعب النووي. يمزح مع نائبه بأنه ضغط زر النووي بدلًا من أن يضغط زر طلب الكوكاكولا. والنائب التافه يحكي للصحفيين القصة، ليثبت لهم خفة دم سيده ومرحه. لكن الحرب تنتهي عندما يريد. يوبخ هؤلاء الأغبياء؛ ملوك إيران وإسرائيل غير الواعين بما يفعلون. بينما هو قبل دقائق لم يكن يعرف ما سيفعله في الدقيقة التالية. لكنه أصبح إمبراطور الحرب والسلام، مستعيدًا هذه المرة طيف ملك/مهرج مصري سابق.
كان ملك المسرحية القديمة مولعًا بالجواري والمحظيات. والإمبراطور، بطل العالم الحديث، مولعًا بعاملات الجنس ونجمات أفلام البورنو. وكلاهما مهوسان بنوع محدد من الأبطال: الـ"one man show". ومثلما نجا الإمبراطور من العقاب بعد ارتكابه لجرائم التحريض على الانقلاب، والكذب، والرشوة، والفساد الجنسي، وسرقة ملفات سرية لمنزله الخاص، يأمر إسرائيل بالصفح عن نتنياهو وزوجته وإلغاء محاكمتهما بتهم الفساد المالي.
"نتنياهو محارب عظيم، قائد في وقت الحرب، يجب حمايته وليس محاكمته". هكذا قال الإمبراطور، فصفقت له إسرائيل. مثلما حماه أعضاء الكونجرس، في اليوم نفسه، من المحاسبة لهجومه بقنابل لم تستخدم من قبل على بلد مستقل وعضو في الأمم المتحدة.
وعلى القطيع التصفيق.
الشعب؛ "أما أحلامنا، فخير لنا أن ندرز شفاهنا عليها. ولا نبوح بها الآن"
يعود ترامب الإمبراطور من لاهاي، يستقبلونه بفيديو احتفالي ويسمونه "بابا"، هذا اللقب الذي خلعه عليه الخادم/السكرتير مارك روته. وفي اليوم نفسه، 26 يونيو/حزيران، تكشف نشرات الأخبار أن حكومة الإمبراطورية التي تشكلت تاريخيًا من مهاجرين، تبني سجنًا جديدًا للمهاجرين الذين لن يُرحَّلوا لسجون السلفادور. سجنٌ في محمية طبيعية، محاطٌ بالتماسيح، فمن من الشعب يجرؤ على التفكير في الهرب؟!
المتمرد المتخفي؛ "اعطني رداءً، وتاجًا، أعطيك ملكًا"
الإمبراطور في عودته للوراء، لا يكتفي باستعادة السجون المحاطة بالحيوانات المفترسة من التاريخ، ولا بتحويل البيت الأبيض لقصر ذهبي مبتذل، بل يحلم بما هو أبعد؛ أن يبقى في القصر الإمبراطوري لولاية ثالثة. لا يهم الدستور، فمن لا يرى أنه الأعظم؟! من لا يرى أدوات السلطة الوحيدة؛ التاج والرداء والصولجان؟!
لا تخلو السياسة من مسرحة، بها الكثير من الـ"show"، إنه من مقومات الحكم. لكن المهرج على خشبة المسرح الحديث، يتجاوز القدر المألوف من المسرحة، يُمثِّل وكأنه يغير العالم، رغم أننا ما زلنا في بداية المسرحية، ولم نرَ سوى نقطة التحول الأولى منها. ولأنه يدرك تفاهته، وتفاهة المحيطين به، يضطر لاختيار فريقه من الممثلين المساعدين من غير المؤهلين، ليشعر ببعض التمايز عنهم.
يدفع الجمهور للتطرف، للاشتباك بالأيدي، وربما لحرق قاعة المسرح. يدفعهم للتماهي الكامل معه كبطل، رغم أنه مجرد مهرج عارٍ وقبيح. فالتماهي هنا ضرورة مسرحية، للعودة إلى الوراء، إلى زمن الإمبراطوريات والاستعمار الصريح، تحت قيادة رجال بيض يطفح من جلودهم الاستعلاء العنصري. رجال مهوسون بالاستعراضات الذكورية، فهذه الذكورية نفسها هي رايتهم ضد النسوية، والعدالة، وحماية البيئة والسلام، والانحياز لفلسطين.
*الاقتباسات الواردة في العناوين الجانبية، مأخوذة من مسرحية الملك هو الملك، سعد الله ونوس.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.