
منجم في الكونغو ومصنع في الصين.. لماذا لا يُصنع الآيفون في أمريكا؟
هل يمكن أن يُصنع جهاز الآيفون دون عمال من الكونغو ومصانع في الصين؟ هذا السؤال في ظاهره بسيط وفي جوهره يعرّي وهمًا راسخًا في الخطاب الشعبوي الأمريكي بادعاء إمكانية تصنيع منتج عالمي معقّد داخل حدود وطنية ضيقة دون الاعتراف بأن الآيفون ذاته هو نتاج شبكة رأسمالية دولية لا يمكن فصلها عن ظروف العمل واللامساواة عبر العالم.
بلغت الدعوات الشعبوية لتصنيع هواتف آيفون داخل الولايات المتحدة ذروتها حين ضغط دونالد ترامب على شركة Apple لنقل مصانعها إلى الداخل الأمريكي، ملوحًا بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على كل هاتف آيفون يُباع في البلاد ولم يُصنع فيها.
وتخيّل ترامب أن بالإمكان إنتاج "آيفون أمريكي صرف" بمجرد إصدار قرارات من البيت الأبيض، متجاهلًا تعقيدات الاقتصاد العالمي وتقسيم العمل الرأسمالي المعولم. فالآيفون ليس مجرد جهاز ذكي، بل تعبير مكثّف عن بنية اقتصادية عابرة للحدود.
عبارة "صُمم في كاليفورنيا وجُمّع في الصين" الموجودة على كل هاتف آيفون هي تلخيص بالغ لاختلالات عالم الإنتاج الرأسمالي، حيث تُتّخذ القرارات وتُكدّس الأرباح في مراكز السلطة التقنية، بينما يُنتج الجهاز فعليًا بأيدي عمّال في مواقع لا تُرى إلا بوصفها أدوات لتوليد فائض القيمة.
من خام الكونغو إلى متاجر Apple
عند اقتناء جهاز آيفون جديد، لن يبدو للوهلة الأولى سوى منتج متقن التصميم وعالي الأداء؛ غير أن هذا الشكل اللامع يُخفي وراءه بنية إنتاجية معقدة تقوم على استغلالٍ ممنهجٍ للموارد الطبيعية والبشرية عبر سلسلة توريد ممتدة على امتداد الجنوب العالمي.
رحلة تصنيع الآيفون تبدأ من أماكن مثل الكونغو الديمقراطية، حيث يُستخرج معدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة بطاريات الليثيوم. في هذه البلاد، لا تُدار المناجم بأيدٍ عاملة محمية أو نقابات قوية، بل بأطفال لا تتجاوز أعمار بعضهم العشر سنوات يكدحون في ظروف بالغة الخطورة مقابل دولارين في اليوم.
يسلط تقرير لمنظمة العفو الدولية الضوءَ على هذه الحقائق الصادمة، ويوثق كيف أن الشركات الصينية كانت تحصل على الكوبالت من المناجم التي تستخدم عمالة الأطفال، ثم تُسلّمه لاحقًا إلى الشركات العملاقة التي تزود Apple بمكونات البطارية.
وبينما يُستخرج الكوبالت في الكونغو، يُستخرج الليثيوم، وهو عنصر أساسي آخر في بطاريات الآيفون، من منطقة تُعرف باسم "مثلث الليثيوم" الممتدة بين تشيلي والأرجنتين وبوليفيا. في هذه المناطق، لا يتعرض العمال فقط لمخاطر صحية، بل تعاني المجتمعات الأصلية من استنزاف المياه الجوفية، حيث تتطلب عملية استخراج الليثيوم كميات هائلة من المياه في مناطق تعاني أصلًا من الجفاف والتصحر.
بعد استخراج هذه المواد الخام، تبدأ المرحلة الثانية المتعلقة بالتكرير. المعادن لا تُستخدم بصورتها الطبيعية، بل تُرسل إلى منشآت صناعية ضخمة في الصين وماليزيا وكوريا الجنوبية، حيث يتم فصلها وتنقيتها وتحضيرها للدخول في سلاسل تصنيع متقدمة.
ثم تُصنّع المكونات الأساسية لهواتف آيفون في عدة دول حول العالم، وتعتمد Apple على شبكة واسعة من الموردين المتخصصين. فعلى سبيل المثال، تُصمَّم معالجات Apple في كاليفورنيا، وتُصنَّع بواسطة شركة TSMC في تايوان. أما الشاشات فتأتي من شركات كورية جنوبية مثل سامسونج وإل جي، في حين تُنتج ذاكرة الفلاش وRAM من قبل Kioxia في اليابان.
يُصنَّع الزجاج الأمامي للشاشة في مصانع شركة Corning في الولايات المتحدة أو تايوان أو اليابان. كما تُنتج مكونات أخرى مثل مستشعرات الكاميرا من قبل Sony في اليابان، وتُصنَّع رقائق الاتصالات من قبل شركات أمريكية مثل Broadcom وQualcomm.
في 2010، ألقى 18 عاملًا في فوكسكون بأنفسهم من فوق مباني السكن احتجاجًا على ظروف العمل القاسية
تُرسل هذه المكونات إلى مصانع التجميع، مثل مصانع Foxconn في تايوان. هذه الشركة وحدها كانت تشغّل ما يقارب 1.3 مليون عامل، يعملون في مجمعات صناعية ضخمة تجمع بين المبيت والعمل والانضباط الأقرب للحياة العسكرية. أحد أكبر هذه المجمعات يقع في مقاطعة لونجهوا بمدينة شنتشن الصينية، حيث استُخدم مصنع Foxconn موقعًا رئيسيًا لتجميع أجهزة الآيفون.
في عام 2010، هزّت العالم موجة انتحارات داخل ذلك المصنع في لونجهوا، حيث ألقى 18 عاملًا بأنفسهم من فوق مباني السكن احتجاجًا على ظروف العمل القاسية، توفي 14 منهم. واقتصرت الاستجابة الرسمية على نصب شبكات لالتقاط الأجساد المتساقطة، وإجبار العمال على توقيع تعهّدات بعدم الانتحار ، لا تحسين ظروفهم.
بعد التصنيع، تبدأ عملية الشحن والتوزيع، وهي سلسلة معقدة من العمليات اللوجستية العابرة للقارات. الآيفون لا يُنقل مباشرة من المصنع إلى المتجر، بل يمر عبر مستودعات وسيطة في هونغ كونغ وسنغافورة وألمانيا والولايات المتحدة، ويُشحن باستخدام حاويات بحرية ضخمة أو طائرات شحن تابعة لشركات مثل FedEx وDHL.
وحين يصل الآيفون إلى متجر Apple الفاخر، تُعاد كتابة القصة بالكامل. لم يعُد المنتج يُقدَّم حصيلةً لسلسلة من البؤس العمّالي والنهب البيئي، بل أيقونة للانتماء الطبقي.
لماذا لا يُصنع الآيفون في أمريكا؟
بناءً على هذا التكوين العالمي للإنتاج، تصبح الدعوة إلى تصنيع الآيفون داخل الولايات المتحدة غير قابلة للتطبيق، ليس فقط لأسباب تقنية أو سياسية، بل لأن الرأسمالية ذاتها توزّع العمل والربح على نحو غير متكافئ. ومع ذلك، يواصل الخطاب الشعبوي القومي الترويج لهذا الوهم.
أول ما يقف عائقًا هو عامل التكلفة. وفقًا لتقديرات من بنك أوف أمريكا، فإن نقل التصنيع إلى داخل الولايات المتحدة سيرفع تكلفة إنتاج الآيفون بنسبة تتراوح بين 20% و35%، فيما يذهب محللون أكثر تشاؤمًا إلى أن السعر النهائي للجهاز قد يتجاوز 3500 دولار إذا صُنّع بالكامل في أمريكا بدلًا من نحو 1200 دولار حاليًا.
يعود ذلك إلى عدة عوامل، أهمها فارق الأجور. فهواتف آيفون عندما تُجمع بواسطة شركات تايوانية مثل فوكسكون، حيث يتراوح أجر العامل بين 25 و26 يوانًا (حوالي 3.44 إلى 3.58 دولار أمريكي)، ستختلف تكلفة إنتاجها بشكل جذري عندما تُجمّع في أمريكا، حيث يحصل العاملون على متوسط 127 ألف دولار سنويًا. كذلك تُنتج معظم المكونات حاليًا في شرق آسيا بتكاليف منخفضة، ما يعني أن تصنيعها محليًا سيتطلب استثمارات ضخمة في المصانع والتكنولوجيا، أو استيرادها بتكلفة أعلى.
اختيار الصين ليس فقط بسبب رخص اليد العاملة بل بسبب وفرة المهارات التقنية على نطاق واسع
العامل الثاني هو ترسّخ شبكة الإمداد العالمية، فإن Apple تعتمد على موردين من 43 دولة عبر 6 قارات لتزويدها بمكونات الآيفون. وخلال العقود الماضية تطورت حول الصين وجيرانها منظومةٌ صناعيةٌ متكاملةٌ تعتمد عليها Apple؛ شاشات من كوريا واليابان، وحدات كاميرا وذاكرة من تايوان، شرائح من تايوان والولايات المتحدة، وتجميع نهائي في الصين والهند. هذه الشبكة لا تُبنى بسهولة ولا يمكن استنساخها في بلد واحد مهما بلغت قدراته.
العامل الثالث يتمثل في رأس المال البشري. كما أشار تيم كوك، فإن اختيار الصين ليس فقط بسبب رخص اليد العاملة، بل بسبب وفرة المهارات التقنية على نطاق واسع. الصين خرّجت ملايين الفنيين والمهندسين، بينما في الولايات المتحدة هناك نقص حاد لهذه الفئات؛ في 2014 كان عدد عمّال أدوات التشغيل نحو 76 ألف فقط. إنشاء مصنع ضخم للآيفون في أمريكا سيتطلب إما تدريبًا طويل الأمد، أو استقدام مهارات من الخارج، وكلا الخيارين مكلف ويأخذ وقتًا.
أما العامل الرابع فيرتبط بالبنية التحتية الصناعية. هناك تفاصيل صغيرة قد تبدو تافهة لكنها كاشفة. مثلًا، عندما حاولت Apple تصنيع حواسيب ماك برو في أمريكا، واجهت مشكلة في توافر بَراغٍ دقيقة بالجودة والكمية المطلوبة، واضطرت في النهاية لاستيرادها من الصين. هذا يعكس مدى اعتماد التصنيع الأمريكي على الإمداد العالمي حتى في المكونات البسيطة.
وأخيرًا، هناك الاعتبارات القانونية والبيئية. فالمعايير الأمريكية أكثر صرامةً من مثيلاتها في الدول الآسيوية فيما يتعلق بظروف العمل والبيئة. تصنيع الآيفون في أمريكا سيخضع لقيود على ساعات العمل، وتكاليف أعلى للسلامة المهنية والتعامل مع النفايات الصناعية. أي محاولة لتكرار نموذج الضغط على العمال كما يحدث في الصين ستُواجه برد فعل سياسي واجتماعي داخل الولايات المتحدة.
مثّل "هاتف ترامب T1" فصلًا كاشفًا وساخرًا في ملحمة الشعبوية الصناعية الأمريكية
لهذه الأسباب مجتمعة، قد تكون فكرة "الآيفون الأمريكي" أقرب إلى الخيال. ويبدو أنه حتى أكثر الأصوات الشعبوية حماسة لم تستطع تجاوز هذه الحقيقة، فحملة ترامب مثلًا التي وعدت بهاتف T1 "صنع في أمريكا" سرعان ما حذفت هذه العبارة من موقعها واستبدلت بها "مصمم وفق القيم الأمريكية".
هكذا سقطت الشعارات أمام واقع سلاسل الإنتاج العالمي، وأُثبت أن الرأسمالية لا تُغيّر مواقع إنتاجها بناءً على الإرادة السياسية، بل وفق حسابات التراكم، وتقسيم العمل العالمي.
مثّل هاتف ترامب T1 فصلًا كاشفًا وساخرًا في ملحمة الشعبوية الصناعية الأمريكية. ففي أواخر عام 2023، أعلن ابنا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جونيور وإيريك ترامب إطلاق شركة "ترامب موبايل"، مصحوبة بهاتف ذكي يدعى T1. قدّم الهاتف بلون ذهبي فاقع، مع دعاية مكثفة وصفته بأنه "مصمم ومُصنّع بفخر في الولايات المتحدة من أجل الوطنيين"، في محاولة لربط التقنية بالهوية القومية.
لكن سرعان ما بدأت الشكوك تتصاعد حول واقعية هذه المزاعم. فمتابعو الصناعة تساءلوا، كيف يمكن لشركة ناشئة، مهما كان اسمها، أن تنتج هاتفًا ذكيًا متكاملًا محليًا، في حين أن شركات عملاقة مثل Apple نفسها لم تفعل ذلك؟ جاءت الإجابة سريعًا من خلال تحليلات أكدت أن الهاتف على الأرجح سيُصنع في الصين، أو يتم تجميعه باستخدام مكونات مستوردة، مع عمليات تجميع محدودة داخل الولايات المتحدة لغرض التسويق فقط.
تكشّف سريعًا زيف الادعاء، وبات T1 تجسيدًا ساخرًا لفشل الخطاب الشعبوي نفسه. فبينما كان ترامب يهاجم Apple لتصنيعها في الصين، لم تجد شركته بدًا من الاعتماد على نفس البنية الصناعية التي يندد بها. بل إن السعر المعلن للهاتف، 499 دولارًا، كشف المستور؛ إذ لا يمكن إنتاج هاتف متكامل في الولايات المتحدة وبيعه بهذا السعر دون تكبد خسائر فادحة.
توزيع الأدوار والإبقاء على التفاوت
ما نراه في سلاسل التوريد العالمية هو اندماج عناصر متباينة من حيث التطور الصناعي والاجتماعي. في بلد مثل الصين، تتجاور المصانع ذات التقنية العالية ومراكز البحث مع مناطق ريفية تعاني الفقر ونقص الخدمات الأساسية. وتنتج الأجهزة الأكثر تطورًا في العالم بأيدي عمّال يعملون في ظروف شديدة القسوة يتقاضون أجورًا بالكاد تكفي للعيش.
في المقابل، تُصمم هذه الأجهزة في مكاتب مكيفة بكاليفورنيا، وتُباع بأسعار مرتفعة في الأسواق الغنية، لتحقق الشركات أرباحًا هائلة تُراكم على حساب جهد ملايين العمّال في سلاسل الإنتاج.
تتكرر المفارقة نفسها في بلدان أخرى؛ جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تُزوّد العالم بنصيب كبير من الكوبالت اللازم لصناعة بطاريات الهواتف، لا تستفيد فعليًا من هذه الثروة. بل يعيش عشرات الآلاف من عمال المناجم هناك في فقر مدقع، ويعمل بعضهم – بمن فيهم الأطفال – في أنفاق بدائية خطرة مقابل أجور تقل عن دولار يوميًا. ما يُستخرج من أرضهم يمر عبر سلسلة من الشركات والمصانع والبورصات ليصبح جزءًا من جهاز يباع في الأسواق بثمن يعادل رواتبهم لعدة سنوات.
ما يلفت النظر أن هذه الحالات لا تمثل استثناءً، بل قاعدة في نمط الإنتاج العالمي. فكلما زادت الحاجة إلى تقنيات متقدمة، ازداد الاعتماد على العمل منخفض التكلفة في مواقع معينة، والاستفادة من البنية التحتية والمهارات التقنية في مواقع أخرى، بينما تبقى الأرباح النهائية مركّزة في يد شركات تحتكر التصميم والتسويق والتوزيع. هذا الانقسام لا يعكس فقط تفاوتًا اقتصاديًا، بل إنتاجًا اجتماعيًا غير متوازن يكرّس الاستغلال والتهميش عبر الحدود.
اللافت في هذا السياق أن محاولات نقل التصنيع إلى الدول الغنية تصطدم بجدار الواقع. فالمعرفة الصناعية والمهارات التقنية والبنية التحتية أصبحت مركّزة في مواقع محددة خارج تلك الدول. كذلك أصبحت تكاليف الإنتاج فيها أقل بسبب عقود من سياسات تقشفية وخفض للأجور والاستثمار في التعليم التقني. أما الدول الغنية، فقد تخلّت تدريجيًا عن التصنيع المباشر لصالح الاقتصاد الرقمي والخدمات، ما خلق فجوة يصعب ردمها في وقت قصير.
بالتالي، فإن الدعوات القومية لإعادة التصنيع أو بناء سلاسل إمداد "وطنية" تتجاهل هذا التشابك البنيوي. فهي تفترض أن بإمكان دولة ما أن تعيد عقارب الساعة وتبني منظومة صناعية مغلقة في عالم يعتمد على شبكات إنتاج موزعة. وهذا وهم، لأن إنتاج سلعة معقدة مثل الآيفون يتطلب تعاونًا دوليًا فعليًا – وإن كان هذا التعاون غير عادل – كما يتطلب موارد ومهارات ومكونات منتشرة في أكثر من أربعين دولة.
ما يكشفه هذا النموذج ليس فقط اعتماد الدول الغنية على عمل الدول الأفقر، بل إن هذا الاعتماد مدمج في بنية الاقتصاد العالمي، وأي محاولة لتجاوزه دون تغيير هذه البنية ستظل محكومة بالفشل.