صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
التكنولوجيا لم تعد حقلًا محايدًا، بل باتت جزءًا أصيلًا من منظومات الاشتباك الاستراتيجي

منظومة الابتكار في إيران وإسرائيل.. مما تتكون وكيف تُدار؟

12 يومًا من "قصف العقول".. كيف تدور منظومة الابتكار في إيران وإسرائيل؟

منشور الأحد 6 يوليو 2025

خلال حرب الـ12 يومًا التي اندلعت بين إيران وإسرائيل في يونيو/حزيران الماضي، اتخذت المواجهة طابعًا مزدوجًا؛ فإلى جانب استهداف القواعد العسكرية والبنى التحتية، وجّه الطرفان ضربات دقيقة إلى مراكز البحث والتطوير العلمي في نمط جديد من الصراع يمكن وصفه بـ"قصف العقول". هذا التركيز على استهداف بنى الابتكار يعكس تحوّلًا نوعيًّا في مفهوم القوة والردع في الحروب الحديثة.

في هذا السياق، قصفت إسرائيل مركزًا للأبحاث النووية والتكنولوجيا في مدينة أصفهان، وشنّت غارة أسفرت عن تدمير مقر منظمة الأبحاث والابتكار الدفاعي في طهران. من جانبها، ردّت إيران بقصف معهد وايزمان في مدينة رحوفوت، ومعهد إسرائيل للتكنولوجيا/Technion في حيفا، ومركز جاف يام نيجيف التكنولوجي في بئر السبع.

هذا القصف المتبادل لمراكز الابتكار والتطوير لا يعكس تغير مفاهيم القوة فقط، بل يفتح أيضًا نقاشًا أكبر حول منظومتي الابتكار في كلٍّ من طهران وتل أبيب؛ ما هي مكوّناتها الرئيسية؟ كيف يجري إدارتها وتوجيهها؟ وإلى أي مدى تستطيع الحرب إعاقة أو تسريع مسارات البحث والتطوير؟

البنية المؤسسية للابتكار الإيراني

تشمل منظومة الابتكار في إيران مجموعةً من المؤسسات التي تجمع بين الطابع العسكري والحكومي وريادة الأعمال، وتقف في قلب التوجهات الاستراتيجية للدولة. تأتي في مقدمة هذه المنظومة منظمة الأبحاث والابتكار الدفاعي، التي تُعد الذراع العلمية الأساسية لتطوير التقنيات العسكرية المتقدمة، مثل الطائرات بدون طيار من طراز شاهد 129، والصواريخ الباليستية مثل خرمشهر 4 المعروف باسم "خيبر"، وصاروخ "فتاح" فرط الصوتي.

في عام 2024، صادق مجلس الشورى الإسلامي على قانون خاص لتأسيس هذه المنظمة رسميًّا، بهدف منحها غطاءً قانونيًا يحجب طبيعة أنشطتها عن الرقابة المؤسساتية. وحسب المادة الثانية من القانون، تُعتبر المنظمة كيانًا حكوميًا مستقلًا يتمتع باستقلال مالي وإداري. وتسمح المادة الرابعة بإنشاء مؤسسات بحثية وشركات فرعية، فيما تُشير المادة السادسة إلى أن تمويلها يُخصَّص سنويًّا ضمن الميزانية العامة. هذا الإطار القانوني رسَّخ للمنظمة موقعًا بالغ الحساسية والسرية في البنية التكنولوجية للدولة.

تسعى واحة برديس إلى التوسع لتصبح منطقة ابتكار دولية بحلول عام 2029

تُعد واحة برديس للتكنولوجيا في طهران من أبرز مؤسسات الابتكار المدني، وتُلقّب بـ"وادي السيليكون الإيراني" نظرًا لدورها الريادي في تعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة. تضم الواحة أكثر من 400 شركة معرفية وتكنولوجية تعمل في مجالات متنوعة مثل تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والنانو والذكاء الاصطناعي.

وفي عام 2023، أنتجت شركات الواحة أكثر من 2530 منتجًا وخدمة تكنولوجية، وبلغت قيمة صادراتها الإجمالية 340 مليون يورو إلى 40 دولة حول العالم. كما ساهمت هذه الشركات في تحقيق وفورات بالعملة الأجنبية بقيمة 725 مليون يورو من خلال الإنتاج المحلي.

كما تسعى واحة برديس إلى التوسع لتصبح منطقة ابتكار دولية بحلول عام 2029، مع خطط لإنشاء مدينة سكنية راقية على مساحة 300 هكتار وتهيئة بيئة لاحتضان 2500 شركة تكنولوجية ومعرفية. تهدف هذه المبادرات إلى تعزيز مكانة إيران مركزًا إقليميًّا للابتكار وجذب الاستثمارات الأجنبية.

تعاون مع الجنوب العالمي 

كذلك يُعد بيت الابتكار والتكنولوجيا/iHiT إحدى المبادرات الاستراتيجية البارزة التي أطلقتها الحكومة الإيرانية لتعزيز مكانة الاقتصاد المعرفي، وتوسيع نطاق تصدير المنتجات والخدمات التكنولوجية الإيرانية إلى الأسواق العالمية، مع تركيز خاص على القارّتين الإفريقية والآسيوية.

ويتعاون iHiT مع الشركات الناشئة والمعرفية لتسهيل حضورها في الأسواق الخارجية عبر توفير بيئة متكاملة تشمل مساحات عرض دائمة، وخدمات استشارية قانونية وتجارية، ومنصات للتواصل بين الشركات/B2B.

أُنشئت فروع لـiHiT في عدة دول آسيوية مثل الصين، أوزبكستان، وطاجيكستان، إلى جانب فروع إفريقية في كينيا، بما يعكس طموح إيران لمد جسور التعاون التكنولوجي والتجاري عبر الجنوب العالمي.

ولا تكتمل صورة المنظومة من دون الإشارة إلى الجامعات البحثية الكبرى التي تلعب دورًا محوريًّا، في مقدمتها جامعة شريف للتكنولوجيا وجامعة طهران وجامعة أمير كبير. تشارك هذه الجامعات في تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي، وخصصت الحكومة 115 مليون دولار لتطوير منصات ذكاء اصطناعي محلية تهدف إلى الاستقلال عن المنظومات الغربية في هذا المجال الحيوي.

تحتل إيران المرتبة الثانية إقليميًا في عدد المطورين والرابعة في عدد الشركات العاملة في هذا المجال

رغم تعدد مكونات منظومة الابتكار في إيران، فإن إدارتها تظل حكرًا على الدولة، دون مشاركة تُذكر من القطاع الخاص. إذ تخضع واحة برديس لإشراف مباشر من المؤسسة الرئاسية، في حين يُشرف نائب الرئيس الإيراني للعلوم والتكنولوجيا على مبادرة "بيت الابتكار والتكنولوجيا".

هذا التحكم الحكومي لا ينفصل عن الرؤية الاستراتيجية الإيرانية، التي تضع الابتكار العلمي في خدمة أهدافها الدفاعية والسياسية. ويبرز ذلك بشكل خاص في قطاع الذكاء الاصطناعي، حيث تحتل إيران المرتبة الثانية إقليميًا في عدد المطورين، والرابعة في عدد الشركات العاملة في هذا المجال، التي تتركز تطبيقاتها في أنظمة التوجيه الصاروخي والطائرات بدون طيار.

كيف تُصمم إسرائيل بيئة ابتكار هجينة عابرة للحدود؟

تتألف منظومة الابتكار في إسرائيل من ثلاث ركائز رئيسية تجمع بين التخطيط الحكومي والمبادرة الخاصة. في قلب هذه المنظومة تقف هيئة الابتكار الإسرائيلية، وهي المؤسسة الحكومية المكلفة إدارة سياسات الابتكار ودفع النظام الاقتصادي من مرحلة الشركات الناشئة إلى مرحلة النمو المستدام القائم على الابتكار. تضطلع الهيئة بمهام تقديم التمويل للمشاريع المبتكرة، خاصة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، وتعزيز الشراكات بين الصناعة والأكاديميا والمؤسسات البحثية، مع التركيز على مضاعفة الأثر الاقتصادي والاجتماعي.

إلى جانب الهيئة، تلعب وزارة الابتكار والعلوم والتكنولوجيا دورًا مركزيًا في رسم السياسات الوطنية للبحث والتطوير، وتوجيهها نحو الأولويات الأمنية والعسكرية، لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي. وترتبط جهود الوزارة ارتباطًا وثيقًا بالمؤسسات الأمنية، في تكامل واضح بين التكنولوجيا والدفاع.

96 شركة متعددة الجنسيات تمتلك مراكز بحث وتطوير في وادي السيليكون الإسرائيلي

أما القطاع الخاص، فينهض بدور حاسم في المنظومة من خلال وادي السيليكون الإسرائيلي بمدينة حيفا، الذي يُعد واحدًا من أبرز مراكز التكنولوجيا في العالم خارج الولايات المتحدة. يحتل هذا الوادي المرتبة الثانية عالميًا بعد نظيره في كاليفورنيا في المبادرات التكنولوجية، ويمثل بؤرة جذب للاستثمارات الدولية في شركات التكنولوجيا العالية.

أصبح وادي السيليكون الإسرائيلي مركزًا عالميًا لصناعات التكنولوجيا المتقدمة، مدعومًا بشبكة من الاستثمارات الأمريكية، والعلاقات الأكاديمية، والتجارب العسكرية.

وتُظهر بيانات صادرة عن معهد Bay Area Council Economic Institute أن 96 شركة متعددة الجنسيات تمتلك مراكز بحث وتطوير في وادي السيليكون الإسرائيلي، 80 منها تتخذ من منطقة سان فرانسيسكو مقرًا لها. ومن بين أبرز المستثمرين جوجل، ومايكروسوفت، وفيسبوك، وأوراكل، ما يعكس التشابك العميق بين رأس المال الأمريكي والنسيج التكنولوجي الإسرائيلي.

تجسد هذه البنية المؤسسية المترابطة بين الدولة والسوق نموذجًا خاصًا لإنتاج الابتكار، حيث يجري تحويل الأبحاث والتقنيات المتقدمة بسرعة إلى منتجات وخدمات تُعزز مكانة إسرائيل العالمية في صناعة التكنولوجيا.

رأس المال المغامر

الحرب السبرانية بين الكيان الصهيوني وإيران

خلافًا للطابع المركزي والاحتكاري الذي يميز إدارة الابتكار في إيران، تتبع إسرائيل نموذجًا هجينًا قائمًا على شراكة متقدمة بين الدولة والقطاع الخاص. فالحكومة الإسرائيلية لا تحتكر التوجيه أو التمويل، بل تفتح الباب أمام استثمارات ضخمة من رأس المال المغامر، لا سيما القادم من الولايات المتحدة.

وفقًا لتقرير صادر عن معهد الاقتصاد في سان فرانسيسكو، فقد استثمرت شركات من وادي السيليكون الأمريكي أكثر من 22 مليار دولار في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي بين عامي 2003 و2021. وقد تركزت هذه الاستثمارات في مجال البحث والتطوير، خصوصًا في البرمجيات والأمن السيبراني، ما يعكس الثقة العالية في البيئة التكنولوجية الإسرائيلية.

تدار منظومة الابتكار في إسرائيل أداةً لخدمة الأهداف الاستراتيجية للدولة، خصوصًا في أبحاثها بالمجال العسكري. ويجري تحويل مخرجات الابتكار إلى تطبيقات دفاعية متقدمة تشمل الصواريخ الذكية، القنابل الموجهة، أنظمة الليزر، أجهزة الاستشعار، الأقمار الاصطناعية، الطائرات المُسيّرة، والمركبات البرية والبحرية الآلية، وصولًا إلى الروبوتات القتالية.

وتضم إسرائيل أكثر من 300 شركة في مجال الصناعات الدفاعية، تهيمن عليها ثلاث شركات كبرى هي الصناعات الجوية الإسرائيلية/ IAI وأنظمة إلبيت/Elbit Systems ورافائيل/Rafael، وهي جميعها شركات تربط بين البحث العلمي والطلب العسكري المباشر.

هذا التوجه ينعكس أيضًا في طبيعة رأس المال البشري الذي يُعاد توجيهه من الوحدات العسكرية النخبوية، مثل وحدة الاستخبارات 8200، نحو القطاع الخاص. فخريجو هذه الوحدة أسسوا شركات رائدة عالميًّا في مجال التجسس السيبراني والمراقبة، من أبرزها NSO Group، وCellebrite، وParagon Solutions، ما يوضح كيف تُعاد صياغة الخبرة الأمنية إلى مشاريع تجارية ذات طابع استراتيجي وعابر للحدود.

رغم العنف الذي طبع المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، لم تُظهر الحرب سوى هامش محدود في قدرتها على تعطيل المنظومتين الابتكاريتين لدى الطرفين. فبنية الابتكار في كلا البلدين تقوم على تعدد المراكز وتنوع الفاعلين، ما جعلها أكثر قدرة على امتصاص الصدمات، بل وإعادة توظيفها. وبينما توظف إسرائيل شراكتها مع رأس المال العالمي، تواصل إيران الرهان على الابتكار الموجه مركزيًّا لتحقيق الاكتفاء والردع.

لكن ما يكشفه هذا الصراع يتجاوز الجغرافيا؛ فالتكنولوجيا لم تعد حقلًا محايدًا، بل باتت جزءًا أصيلًا من منظومات الاشتباك الاستراتيجي. ومع تصاعد التوترات، من المرجح أن يتحول الابتكار ذاته إلى مسرح تنافسي متسارع، لا يُقاس فقط بعدد الشركات أو براءات الاختراع، بل بمدى قابلية كل منظومة على الصمود، والتكيف، والتوسع في زمن الحرب.