صورة معدلة
الدعاية الانتخابية للمشير عبد الفتاح السيسي في انتخابات 2014 أقرنته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر.

الإيجار القديم.. جمهورية يوليو 2013 تعلن نهاية جمهورية يوليو 1952

منشور الخميس 10 يوليو 2025

بمقدار ما أثارت من ضجة، لم تكن التعديلات التي جرت على قانون الإيجار القديم مجرد خطوة تشريعية والسلام، بل إعلان ضمني بنهاية مرحلة وبدء أخرى.

لحظة الموافقة على التعديلات الجديدة هي التوقيت الزمني لانتهاء ما تبقى من دولة يوليو 1952 وترسيخ سياسات دولة يوليو 2013، أو ما يُعرف إعلاميًا باسم الجمهورية الجديدة. ضجة ما بعد التعديلات تكشف الأزمة: الجمهورية الأولى في مواجهة الجمهورية الجديدة.

بدأ قانون الإيجار القديم قبل يوليو/تموز 1952 بسنوات، لكن الجمهورية الوليدة آنذاك وهو تهدم كامل النظام الطبقي الذي سبقها أبقت على هذا القانون، وزادته رسوخًا بتعديلات جرت عليه في الستينيات لتخفض من الإيجار الشهري وتؤكد عدم جواز إخراج مستأجر من مسكنه. 

هو قانون، رغم مساوئه، يعبر عن انحياز اجتماعي اختارته يوليو 1952، وحافظ عليه كل من حكم بعد جمال عبد الناصر، فلم يغيره السادات، ولا اقترب منه مبارك حتى وهو يستحدث نظامًا جديدًا للإيجار عام 1996، رغم علمهما بأنه قانون استثنائي في نصوصه وأحكامه.

بين يوليو 1952 ويوليو 2013 خلافاتٌ في الانحيازات الاقتصادية والاجتماعية، لكن بين الدولتين مشترك واحد لم يتغير أبدًا على مدى أكثر من سبعين عامًا، وأكثر ما يثيره قانون الإيجار القديم بكل ما خلفه من ضجة ليس فقط عدالة التعديلات، وإنما المقارنات الواضحة بين دولتين وجمهوريتين. اختلفت الانحيازات والسياسات والإجراءات، وظل المشترك بينهما ثابتًا لا يتغير.

https://www.youtube.com/watch?v=VbNDjei15Cs

قدمت دولة يوليو 1952 نفسها باعتبارها ثورة طبقية. أطلقت ضمن مبادئها الستة الشهيرة القضاء على الإقطاع هدفًا رئيسيًّا خاطبت به الفقراء والمحتاجين، وغازلت أحلام طبقات بسيطة كانت خارج السياق الاجتماعي بالكامل.

تقرّبت من الفلاحين بعد أن أعادت توزيع الأرض الزراعية، واحتمت بمشروعها للإصلاح الزراعي، ثم عدّلت قوانين العمل ومكّنت العمال من المصانع فوصل العامل إلى عضوية مجلس الإدارة في شركته. فعلت كل هذا قبل أن تتوسع في مجانية الصحة والتعليم ودعم السكن والمواد التموينية وغيرها. 

في كل الخطوات والإجراءات حرصت يوليو 1952 على إعلان انحيازها للطبقات الشعبية والفقيرة. كان ذلك فهمًا لوظيفة الدولة. فالدولة التي تحكم، بالنسبة لجمهورية يوليو الأولى، يجب أن تحمي. أما في الدولة الجديدة، أو الجمهورية الجديدة التي ولدت في يوليو 2013، فإن النظرة للناس مختلفة. تغيرت زاوية الرؤية من الحماية إلى الانسحاب. 

انسحبت السلطة من كل مسؤولية التزمت بها الجمهورية الأولى. تراجعت مساحة دعم السلع والخدمات بدرجات غير مسبوقة، وبات الحديث السياسي لمسؤولي الحكم يؤكد ليل نهار أن الدعم بات عبئًا يجب التخلص منه. حدث هذا في الصحة والتعليم حتى وصل العلاج لأرقام فلكية أحيانًا، وبات التعليم، الحقيقي، قرينًا بمن يملك المال. 

وحدث في رفع الدعم بنسب كبيرة عن الكهرباء والغاز والبنزين وأنبوبة البوتاجاز والسلع التموينية. معدلات التضخم ضغطت بشدة على أعصاب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتركتهم نهبًا لأزمات الغلاء التي صاحبتها مشكلات معيشية لا تنتهي. دفع المواطن ثمنًا قاسيًا بعد انسحاب الدولة من دورها الذي مارسته سنوات طويلة. حررت دولة يوليو 2013 كلَّ شيء إلا الحرية ذاتها. 

مع كل الاختلافات الواضحة فيما بين الجمهوريتين اختارتا أن يشتركا في طريق واحد

لم يكن اقتصاد جمهورية يوليو الأولى رأسماليًا، ولا كان اشتراكيًا خالصًا، بل خليط من نظامين وتعبير أبوي عن سيطرة الدولة على كل وسائل الإنتاج. لكنها تبنت موقفًا واضحًا؛ الثروة لا يجب أن يحتكرها أحد، وعلى الدولة توزيعها بعدالة، وهي نفسها التي تسيطر على المصانع والأراضي، والضرائب التصاعدية هي الأداة العادلة كما رأت.

أدرك رجال يوليو 1952 أن الاقتصاد يجب أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وأن الثروة لا يجب أن تتركز في يد قلة من الأغنياء. أما في دولة يوليو 2013 فكان التناقض واضحًا. اقتصاد السوق يحكم كل شيء وأي شيء. بدا المواطن مجرد مستهلك في سوق متوحشة تستنزف قدرته على الحياة بكرامة، ثم إن الخصخصة والبيع هما الأصل، والنظام الضريبي لا يخضع لمقياس الغنى والفقر. 

اقتصاد ينحاز للفقراء في مقابل ثروة يملكها الأغنياء في مجتمع تعاني أغلبيته من الفقر. هذا المشهد المتناقض يكشف بوضوح رؤية الدولتين للاقتصاد وإدارته ويبرز المفارقة بين أن يكون النجاح الاقتصادي هدفه العدالة أم مجرد التنمية والنمو.

مع كل الاختلافات الواضحة فيما بين الجمهوريتين اختارتا أن تشتركا في طريق واحد؛ رفضت جمهورية يوليو 1952 ومعها دولة يوليو 2013 الديمقراطية وتداول السلطة. اختلافات في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لا تخطئها العين، واتفاق في التمسك بالسلطة وفرض القيود على الحريات العامة وإغلاق المجال العام وحصار الإعلام.

بدت الجمهوريتان مختلفتين في المبررات وإن اتفقتا في النتيجة. بررت الأولى رفض الديمقراطية وتداول السلطة بالخوف من عودة النظام القديم "الرجعي" والردة عن طريق الثورة، ثم تواصلت التبريرات بالحروب والمؤامرات الخارجية التي تستهدف البلد.

أما الثانية فبررت غياب الديمقراطية بالخوف من الإرهاب والتطرف، وضرورة الاستقرار المجتمعي الذي تهدده جماعات العنف بعد ثورة شهدت هزة عنيفة للمجتمع. تعددت المبررات والاستبداد واحد.

حكمت الجمهورية الأولى سنوات دون أن ترى أن الوقت حان للتحول الديمقراطي، وظلت حتى رحيل جمال عبد الناصر تحكم بالتنظيم الواحد والانتخابات غير النزيهة والقيود المفروضة على المجال العام.

وحكمت الجمهورية الجديدة منذ عام 2013 ولم تر أن الوقت حان للانتقال الديمقراطي، وواصلت فرض قيود قاسية على العمل السياسي والإعلامي والمشهد العام.

اختنقت السياسة تمامًا وسيطر على المجال السياسي صوت واحد وفكر واحد جميعها مجرد صدى صوت للسلطة وأفكارها ورؤيتها. جمهوريتان تختلفان في كل شيء إلا رفض الديمقراطية والإمعان في حصار الحريات، وازدراء التنوع والتنافس وإقصاء كل صوت معارض.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.