فى وداع ميشيل المصري

منشور الأحد 1 يوليو 2018

منذ فترة انتشار الإذاعات الأهلية مطلع القرن الماضي، وبعدها مرحلة الإذاعة الموحدة - التي صارت رسمية- في ثلاثينات القرن العشرين، كان الراديو هو سيد المعرفة والغناء. ثم جاء التلفزيون في الستينات، ومعه انتقل فن الدراما نقلة نوعية بدخول الصورة عنصرًا رئيسًا ومركزيًا في المعادلة.

دخول الصورة في معادلة الدراما جعل الملل المتولد عن طول المحتوى أمرًا مستبعدًا، وهنا جاءت النقلة في "تتر المسلسل" الذي صار يستغرق عدة دقائق بعد انتقاله من الراديو للتلفزيون، وتطور ليصبح لأغاني التترات بصمة وأثرًا في وعي أجيال متعاقبة. 

تبدو هذه المقدمة الطويلة للوهلة الأولى بعيدة جدًا عن عنوان الموضوع. لكن إن أردنا أن نتكلم عن الموسيقار ميشيل المصري الذي ودّع عالمنا مساء السبت 30 يونيو 2018؛ فلا مفر من الحديث عن فن التتر الذي أخذ ميشيل إلى بيوتنا ووجداننا، وجعل موسيقاه تُشجينا دون يكترث كثيرون منا لمعرفة اسمه. 

ربما تكون من الجيل الذي كبر على مشاهدة مسلسل ليالي الحلمية، وتدندن بشجن من آن لآخر "ومنين بييجي الشجن؟ من اختلاف الزمن"، هي جملة محورية في مفهوم النوستالجيا الذي بات يسيطر على جيلنا من المولودين في نهاية السبعينات وحتى منتصف الثمانينات. ربما كنت واحدًا من كثيرين يقولون بأسى وهم يهمهمون بالكلمات "الله يرحمه عمار الشريعي"، فمن المعلومات الخاطئة المنتشرة، أن هذا التتر البديع من ألحان الشريعي، الذي ارتبطت ألحانه طويلا بتترات صديقه الراحل أسامة أنور عكاشة. لكن الحقيقة أن هذا التتر الجميل من ألحان الموسيقار الراحل ميشيل المصري. 

المعلومات الموجودة على شبكة إنترنت تقول إن ميشيل المصري ابن محافظة أسيوط وعاش حياته كلها تقريبًا في حي شبرا القاهري وهم من مواليد عام 1933. بدأ ميشيل مشواره الموسيقي عازفًا لآلة الكمان. ولأنه كان موهوبًا فقد حظي بالمشاركة في العزف بفرقة أم كلثوم في المرحلة الأخيرة من مسيرتها الفنية، ومع عبد الحليم حافظ والرحبانية فى حفلات فيروز. كما أعجب به الموسيقار محمد عبد الوهاب وجعله يوزع ثلاث أغنيات من ألحانه غنتها جميعًا الراحلة وردة، وهي "بعمري كله حبيتك" و"أنده عليك" و"في يوم وليلة".

في عام 1981 كان موعد إطلاق أول ألبوم كامل يحمل ميشيل المصري موزعًا موسيقيًا، وهو ألبوم "اعذريني" لعلي الحجار. وزع ميشيل الألبوم كله عدا أغنية "مش عابر سبيل". وحقق الألبوم نجاحًا كبيرًا ووضع اسم ميشيل المصري في موقع بارز بين الموزعين المتعاونين مع الشباب الجدد الواصلين لساحة الغناء. حملت أغنيات الشريط أسماءً كبيرة فى عالم كتابة الأغنيات كعبد الرحيم منصور والتلحين لبليغ حمدي.

أبرز الألبوم براعة ميشيل في إبراز "الدراما" في الأغنية. لا يمكنني أن أجزم إن كانت هذه الموهبة هي ما جعلته ملحنًا لعدد من أنجح التترات الدرامية في تاريخ التلفزيون المصري، لكن بالتأكيد قدرته على خلق أو تجسيد "حدوتة" من خلال الآلات الموسيقية، أو ما يمكن أن نسميه "الأغنية السينمائية" برزت جدًا في توزيعه لألحان خليل مصطفى لأغنية "كان إحساسي صحيح" التي غناها الحجار في هذا الألبوم. اعتمد ميشيل المصري على صولوهات الكمنجات "آلته المفضلة" كرد على مشهدية الكلمات التي خطها عصام عبد الله. 

كان الألبوم تمهيدًا يؤكد أن طريق ميشيل الصحيح هو الموسيقى التصويرية في المسلسلات والأفلام، فقام فى نفس العام بعمل موسيقى فيلم الغيرة القاتلة لعاطف الطيب.

لم تكن الموسيقى في هذا الفيلم على المستوى الذي ظهر من ميشيل المصري لاحقًا، لكنها أعادت التأكيد على حسه الدرامي، وواصل العمل حتى أنتج رائعته الأشهر "تتر ليالي الحلمية" في 1987، الذي أبدع فيه بتوزيع شرقي بآلة الأكورديون التي كان استخدامها في هذه الفترة يكاد يكون قاصرًا على الأغاني الشعبية؛ إلا أنه وظفها في تتر المسلسل وجعلها بطلاً رئيسًا، وربما كان لهذا الاختيار دور مهم في تقريب التتر من أسماع طبقات مختلفة من المستمعين. 

اقرأ أيضًا: الغناء الشعبي من عدوية إلى شيبة.. لف وارجع تاني

في مفارقة قد لا تتكرر في أيامنا الحالية، اُسند إلى ميشيل تلحين تترات مسلسلات دينية  كمسلسل "لا إله إلا الله" الجزء الثالث كما لحّن ابتهالات وتسابيح كتبها سيد حجاب وغناها على الحجار، وشارك فى عمل بعض الأوبريتات الوطنية التى كانت تصنع لبعض الجهات كأوبريت الإعلاميين وأوبريت التنمية وقاهرة الزمان وكان مؤلفهم هو الشاعر مصطفى الضمراني.

ورغم قلة توزيعه للأغنيات، إا أن توزيعاته النادرة كانت عاملاً حاسمًا في نجاح العديد من الأغاني، ففي عام 1988 كان ألبوم مدحت صالح الأكثر نجاحًا وهو كوكب تاني، يحوي واحدة من أشهر وأنجح أغنيات صالح "آسف على الأحلام" وهي من توزيع ميشيل المصري. وتظل إلى الآن أنجح أغنيات الألبوم بعد كوكب تاني. 

 

لاحقًا ظهر لميشيل المصري ألبومات خاصة تحوي ألحانه وتوزيعاته الموسيقية منها "ندى" و"عنبر" وليالي الحلمية، لكنها لم تحقق نجاحًا على المستوى التجاري.

كان المصري يوظف الآلات الوترية والأكورديون والناي بشكل كبير في توزيعاته الشرقية، كما أنه اعتمد على التراث وأذن موسيقية موسوعية. لكن لأن موسيقاه بسيطة؛ كانت قريبة من أذن المستمع وتستطيع جذبه كما فعل في تترات مثل "من الذي لا يحب فاطمة" و"أبناء ولكن".

وعلى الرغم من ابتعاده شبه التام في النصف الثاني من التسعينات؛ إلا أنه عاد بتتر ناجح في مسلسل مثير للجدل هو "عائلة الحاج متولي" عام 2001. كان التتر مميزًا ببصمة شرقية وشعبية واضحة، يأخذ المستمع بعودته لآلة الأكورديون. ولكن بقت أعماله قليلة ونادرة، منها تترات مسلسل الفنار. 

 لميشيل المصري أعمال لم تظهر للنور، وربما لن تظهر، منها الموسيقى والتوزيعات التي وضعها لعمل درامي بعنوان "مداح القمر" عن حياة وفن الموسيقار الراحل بليغ حمدي.

أنهى ميشيل المصري عمله على موسيقى وتوزيعات العمل منذ عشر سنوات، وظل يتحين ظهوره حتى وافته المنية مساء أمس. المسلسل المنتظر من اخراج مجدي أحمد علي، لكنه لا يزال يواجه مشاكل إنتاجية مع الشركة المنتجة تعوقه عن الظهور للنور، لكن موسيقاه جاهزة.

رحم الله المبدع ميشيل المصري، الذي تحتاج أعماله المتناثرة إلى اهتمام حقيقي بجمعها وتوثيقها ودراسة أثرها في تطوير فن الموسيقى التصويرية وفن التتر الذي يعد من رواده الكبار إلى جوار عمار الشريعي وتلميذهما بياسر عبد الرحمن.

يحتاج إلى لفتة واهتمام إعلامي ليشمل أعماله الكثيرة المتناثرة، والتي تحتاج إلى جمع وتوثيق حقيقي، لتسجل في تراث الموسيقى المصرية، وتتاح لمن يريد سماعها. هذه الأعمال تستحق الاستعادة حتى نعيد استكشاف جمالياتها، ولا يقتصر هذا التمني على أعمال الراحل ميشيل المصري، بل أتمنى أن تشمل تلك الجهود أعمال موسيقيين مثل محمد هلال (الدنيا على جناح يمامة وإنذار بالطاعة) وعبد العظيم عويضة (نهاية العالم ليست غدًا ولا إله إلا الله في جزئيه الأول والثاني).  وأعدكم إن قدمت أعمال هؤلاء المبدعين في حفلات فستكون مضمونة النجاح، فالنوستالجيا صارت واحدة من السلع الرابحة في عالمنا اليوم.