عاش الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب حياة مديدة وتوفي عن عمر يناهز التسعين عامًا، اشتهر فيها بحرصه الشديد على صحته، كان سعال أحدهم في مقابلة معه كفيل بإنهائها بشكل لحظي، يتراجع الموسيقار بضع خطوات قبل أن يستأذن ليصعد لغرفته معتذرًا بأي سبب.
منذ تصاعد وتيرة انتشار فيروس كوفيد-19 (كورونا) وتلك الصورة لا تفارقني، محمد عبد الوهاب جالسًا في بيته يتابع أخبار الفيروس اللعين، كيف سيتحضر عبد الوهاب وما هي الاحتياطات التي سيتخذها شخص حريص كل الحرص على صحته؟ وكيف نستفيد من خبرته؟
كان عبد الوهاب ليفرض حجرًا صحيًا إضافيًا في بيته؛ سيتوقف عن استقبال الضيوف، سيبقى وحيدًا يتوتر حتى عندما يلتقط العود ليعزف لحنًا يواسيه، سيفكر مَن لمس العود قبله، هل يبقى الفيروس حيًا لفترة طويلة؟
سيتوقف عبد الوهاب في لحظة صفاء ويفكر أنه وللمرة الأولى ليس المسؤول الوحيد عن صحته، سيفتح درج مكتبه مستعينًا بقطعة قماش نظيفة ويخرج مجموعة من الأوراق وقلمًا لم يستعمله من قبل، ويبدأ في كتابه خطاب مفتوح للحكومة المصرية في صورة أسئلة:
ما هي خطة الحكومة المصرية لمواجهه الفيروس؟
أعلنت الحكومة المصرية أنها مستعدة للفيروس، إعلان مفيد لو أن أحدًا يثق في حكومته في العالم، أو أن الخطة قد أعلنت أو أن الحكمة غير مصرية، خلال سنوات حياتنا مع الحكومة المصرية لم نشهد خطة ناجحة في محاربة كوارث متكررة نعرف مسبقًا بوقوعها، من حوادث القطارات، لعبور المشاة في مصر الجديدة، حتى نقص الطماطم في غير موسمها، فكيف لنا أن نصدق أن للحكومة خطة، لكن لنكن متفائلين، ما هي خطة الحكومة إن وجدت وهل تغطي النقاط التالية:
هل تكفي مستشفيات الحجر الصحي؟
أعلنت وزارة الصحة أن الحكومة خصصت مستشفيات تعمل كحجْر صحي لعزل المرضى حال تفشي الفيروس، قالت الوزارة إن لكل محافظة مستشفى مخصص لذلك، إذن الأقصر كمحافظة ستعامل للمرة الأولى في تاريخها كمحافظة القاهرة، جيد للأقصر، وسيئ جدًا للقاهرة، والجيزة والدقهلية والغربية والشرقية والمنوفية وتقريبًا كل محافظة أخرى في مصر.
يعيش في القاهرة الكبرى أكثر من 25 مليون نسمة، لماذا تظن الحكومة أن ثلاثة مستشفيات كفيلة للعمل كحجر صحي لهذا العدد؟ ربما تظن الحكومة أن الفيروس لا يُفرّق بين المحافظات كما تفعل هي، وأنه لو أصاب البلاد سيتم توزيعه بشكل إداري مثالي، عدد حالات متناسبة لكل محافظة تعطي الفرصة للحكومة لاستغلال كافة مستشفيات الحجر الصحي التي أعلنتها لا تسبب أي زحام في إحداها.
هل سيتم إغلاق المدارس وما أثر ذلك؟
تُغلق المدارس كإجراء وقائي لا يبدو ذي أي تكلفة على الحكومة، لأن الحكومة تظن ذلك وليس لأنه الواقع، عند انتشار الفيروس ستعلن الحكومة إغلاق المدارس والجامعات كإجراء أول لا شك فيه، مع إغلاق المدارس والجامعات ستتوقف حياة كل العاملين في قطاع التعليم، لا ضرر عددهم ليس كبير للغاية ليعرقل الاقتصاد المصري، ناهيك عن أنهم لا يضيفون شيئًا محسوسًا للاقتصاد بالأساس، مجرد محاضرات ودروس لا تُسمن ولا تغني من جوع.
من يترك أولاده للدراسة لديه عمل ما يكفل له دخلًا ما، في الأوضاع الاقتصادية الجديدة التي نعيشها منذ سنوات ليست بالقليلة، عمل فرد واحد في الأسرة لا يكفي، يعمل الأب والأم، وأحيانًا كثيرة تعمل الأم فقط، ببقاء الأطفال في البيت سيضطرب سوق العمل، سيحتاج الأطفال لمن يرعاهم في البيت، سيفقد سوق العمل لمدة طويلة نسبة غير قليلة من طاقته. لا تعلم الحكومة ذلك، وربما تعلم، لكن في النهاية سيتأثر سوق العمل من قرار بهذه البساطة والبديهية.
هل نحتاج لإغلاق المدارس؟
نعم، نحتاج لإغلاق المدارس، ليس لأي سبب علمي لكن لأسباب اجتماعية، الخوف على الأطفال أقوى من الخوف على الكبار، لدينا مشاعر مختلفة تجاههم، غريزتنا الأساسية ستجبرنا على حمايتهم حتى لو لم يكونوا هم الهدف الأسهل للفيروس.
أثبتت تجربة العالم مع فيروسات مشابهة مثل سارس، وكذلك مع كوفيد-19 رغم عدم الثقة في كل الأرقام والإحصائيات الحالية لأسباب متعددة، أن الفيروس أقل حدة مع الأطفال، أقل نسبة إصابة تظهر لدى الأطفال، وأقل نسبة وفيات بينهم أيضًا، والسبب الأساسي هو المناعة الأكثر نشاطًا لديهم، وأن نسبة الوفيات الأعلى تظهر لدى كبار السن من لهم تاريخ طويل مع الأمراض عامة، ومناعة أضعف، كل ذلك لن يجعلنا أقل خوفًا على أطفالنا، لكنها معلومات أساسية يفترض أن نقرأها من مصادر حكومية.
هل لدي الحكومة خطة لتعويض نقص العمالة الناتج عن إغلاق المدارس والجامعات؟
أعلنت اليابان عن خطة لتعويض الآباء ممن اضطروا للبقاء في منازلهم لرعاية أطفالهم بسبب غلق المدارس، التعويض تجاوز 80 دولارًا للفرد عن اليوم الواحد. في هونج كونج كانت المشكلة أكبر، فالآباء طالبوا الحكومة بتعويض عن مصاريف المدرسة التي أغلقت لأكثر من 13 أسبوعًا بحلول مارس/ أذار، حيث تصل مصاريف الدراسة للعام الواحد لطلبة المدارس لأكثر من عشرين ألف دولار.
هل يمكن للحكومة توفير المال اللازم لتعويض من سيجبروا على البقاء في المنزل؟
هل يمكن للحكومة أن تكون أكثر شفافية من باب التغيير؟
منذ الإعلان عن الإصابة الأولى في مصر عبر بيان مشترك مع منظمة الصحة العالمية، أعلنت تحيزي لنشرات الحكومة المصرية ضد كل الشائعات مهما كان مصدرها، لكن ذلك التحيز الذي لا يتناسب مع سابق خبرتي مع الحكومة انتهى بعد أيام قليلة مع تزايد الأخبار عن حالات إصابة خرجت من مصر، ظهرت أولًا على مواقع التواصل، ثم أْعلنتها الدول التي استقبلت الحالات، قبل أن تنتظر الحكومة المصرية أيامًا لتخرج ببيان يشرح ويؤكد ما تداوله الناس قبلها.
لا تحتاج الحكومة للعمل بنفس الطريقة القديمة؛ التعتيم على الأخبار والخوف من إثارة الرعب سيثير الرعب في النهاية، ما تم داوله على منصات مواقع التواصل كان صحيحًا، لا ندري غدًا ما سيتم تداوله، لو فقد الناس ثقتهم في بيانات الحكومة واستعادوا بيانات 67 أو كادرات التلفزيون المصري في 28 يناير/ كانون الثاني 2011 فلن تستطع الحكومة السيطرة على شيء، وستفقد كل قدرة على التصدي للوباء، بفقدانها لثقة الشعب.
هل نمتلك خطة لتأمين الغذاء؟
قالت وزيرة الصحة إن الفيروس سيدخل مصر لا محالة. لم تكن الأولى في ذلك، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن على الدول ألا تنتظر وصول المرض لتبدأ التحرك، بل عليها التحضر لوصوله لأنه سيأتي حتمًا، ما الخطة إذًا، لو تفشَّى المرض في مصر؟ أول ما سيضطرب هو أمننا الغذائي، سيتوافد الناس على الأسواق لشراء ما يحتاجونه للبقاء في المنزل، سترتفع الأسعار خاصة لكل ما يتعلق بالمرض، وصل الأمر في كوريا الجنوبية أن قامت عصابة مسلحة بالسطو على أحد المحال لسرقة ورق تواليت. كيف ستتعامل الحكومة المصرية مع نقص في الليمون أو الكمامات أو اللبن أو المناديل أو الفول أو السكر؟
هل نملك قدرات للعزل؟
ينتشر الفيروس من نقطة مركزية وقد يحول مركزه لمنطقة وباء، لنفترض أن شخصًا مصابًا قد عاد لقريته في الشرقية، ستتحول المحافظة في غضون أيام لمنطقة موبوءة، فهل تمتلك الحكومة خطة لعزل محافظة بأكملها، عزلًا صحيًا وليس عزلًا وجوديًا؟
العزل الصحي هو مراقبة القادمين للمدينة والخارجين منها، العزل الوجودي هو منع دخول وخروج أي شخص.
أعلى إصابات في العالم بالفيروس قبل حلول مارس كانت على الترتيب، الصين، اليابان، سفينة دايموند برينسيس، كوريا. لماذا ارتفعت الإصابات في سفينة لتتخطى عشرات الدول؟ أولًا، لأن عدد مرتاديها تجاوز الثلاثة آلاف شخص، وثانيًا لأن الحكومة اليابانية رفضت إنزال أي من ركابها بعد علمها بصعود راكب من هونج كونج مصاب بالمرض وخروجه منها، ارتفعت الحالات خلال أقل من ثلاثة أسابيع لتصل إلى ما يقارب الـ700 مصاب، وتوفي خمسة على اﻷقل، فيما واجهت الحكومة اليابانية نقدًا كبيرًا بسبب تعاملها مع أزمة السفينة حيث يعتقد أن العزل تسبب في ارتفاع عدد المصابين ولم يمنع انتشاره بل زاد الطين بله.
هل سيفرض حظر تجوال؟
يدخل القاهرة الكبرى يوميًا زهاء الخمسة ملايين شخص. لم يفرض حظرًا للتجوال بشكل حقيقي في أي مكان في العالم، استخدمت الصين الطائرات المسيرة لحث الناس على البقاء في البيت، لكن ينتهى الأمر عند ذلك الحد، خرج الناس لأنهم يحتاجون لذلك، هل يمكن فرض تضيق على الانتقالات لمنع انتشار الفيروس، وهل ذلك هو الحل المثالي لمنع انتشاره؟
هل تم تدريب الأطباء والأمن؟
لا أتصور أن أي طبيب مصري أو من أي جنسية لم يقرأ عن الفيروس، أظن أن الكثير منهم لديهم الآن معلومات هامة عنه، لكنها أبدًا لن تكون كافية، يتطلب الأمر دورات تدريبية سريعة، ونشرة معلوماتية علمية ترسل لكل الأطباء ومحاضرات متنوعة، لدينا الآن فرصة لعقد مثل تلك المحاضرات والاجتماعات، لكن ليس فقط للأطباء، لدينا قائمة طويلة من المطلوب تعليمهم؛ الأطباء، رجال الأمن، المعلمين، الموظفين الحكوميين، مديري التشغيل في المصانع، الفلاحين وجموع الشعب المصري.
يحتاج الجميع للمعلومات السليمة، لكن تحديدًا الأطباء ورجال الأمن يحتاجون للمعلومات العلمية ونشرة بالإجراءات المطلوب اتباعها، وتدريبات مكثفة وتجريب متكرر للخطوات حتى الاعتياد عليها، ثم يأتي دور معلمي المدارس للحد من انتشار الوباء بين الأطفال، حتى إغلاقها، ثم موظفي الدولة ممن سيضطرون للعمل حتى تغلق المصالح الحكومية، ومدير التشغيل في المصانع حتى لا تتوقف الحياة، والفلاحين حتى نجد ما نأكله، وجموع الشعب حتى لا يقتلنا الخوف قبل المرض.
ماذا لو لم يأت الفيروس؟
ستتكلف كل الإجراءات المذكورة مئات الملايين من الجنيهات، وآلاف الساعات من العمل، ودقة واجتهاد عزيزين، لكن ماذا لو لم يأت الفيروس؟ سيضيع المال والمجهود والتفاني، وتبقى الحسرة.
اختارت منظمة الصحة العالمية تغيير اسم الفيروس من كورونا لـ"كوفيد-19" لعدة أسباب، أحدها أن اسم الفيروس العلمي هو (SARS-CoV-2) باختصار "سارس 2"، فالفيروس هو تحور لفيروس سارس الشهير الذي ضرب آسيا بشدة. قالت منظمة الصحة العالمية أن اختيار اسم سارس كجزء من الاسم الإعلامي للفيروس كان ليثير الذعر في آسيا التي عانت من الفيروس، ما نراه اليوم هو تحور لفيروس قديم، سيعود الفيروس مرة أخرى، بعد عام عامين أو عشرة، بنفس الاسم أو باسم جديد، أو يأتي فيروس جديد تمامًا، لذلك فالتحضر للكارثة أمر ضروري.
لا ضرر أبدًا من صرف ملايين الجنيهات للوقاية من فيروس أصبح تهديدًا للعالم كله، لا ضرر حتى لو أن علاج الفيروس هو أقراص الأسبرين. سنتعلم من هذه التجربة لنكون قادرين على مجابهة أي وباء آخر، ستبقى ملفات العمل على هذا الفيروس متاحة لكل الحكومات التالية، لو ظهر فيروس جديد بعد عشرين عامًا، ستعود الحكومة لتنظر ماذا قدمنا في 2020 لتبدأ من حيث انتهينا، كل آمالي أن تجد تلك الحكومة في ذلك الملف أي معلومات حقيقية وأي خطوات عملية، وليس مجرد تقرير عن حسن سير العمل وانتظامه.
المخلص محمد عبد الوهاب.