لتَشعر بمعاناتي ضع نفسك مكاني؛ ارتضيت وجودك في هذه الدنيا وتحمُّل الأمانة، وأن يختار الله لك أن تولد في مصر دونًا عن بقية بلاد العالم. تنشأ في صغرك وعدد سكانها 60 مليونًا، وبينما تشاهد أفلامًا مثل هنا القاهرة (1985) وانتحار مدرس ثانوي (1989)، وعالم عيال عيال (1976)، ترى بعينيك المأساة تتضاعف؛ ملايين السكان ترتفع إلى 120.
تتزوج، فتؤجل الإنجاب، "اضرب المربوط يخاف السايب"، ثم تقرر أنَّك تريد طفلًا واحدًا، حقك يا أخي، فتنجب توأمًا، "قدَّر الله وما شاء فعل"، وقبل أن تفيق من الصدمة، تأتيك الثالثة بعدهما بسنة لتترعرع في عز التعويم.
ثلاث بنات دفعة واحدة، اثنتان تتعلمان المشي تاتا تاتا، والثالثة ترضع وتحبو. واحدة تبكي لتغيير الحفاضة، والثانية طلبًا للطعام، والثالثة من أجل اللا شيء. ملابس، حفاضات، سيريلاك، شوفان وتفاح وكمثرى، ألعاب؛ يتحول المنزل إلى سيرك، والحوائط إلى لوحات تجريدية، والأرضيات إلى نقوشٍ فنيةٍ من الكراكيب التي لا يشاكِل بعضها بعضًا. بنتان أتمَّتا الرابعة من عمرهما و.. لحظة، هل نسينا شيئًا؟
نعم! المدارس على الأبواب، لقد نسينا أن نُقدِّم لهن في المدارس!
سيف التلميذ ودرعه
كانت الصدمة الأولى لنا، أنا وأم البنات، أن موعد التقديم على المدارس قبل دخولها بسنة تقريبًا. غابت عن حساباتنا هذه التفصيلة، حتى قال الأقارب والأصدقاء؛ "إنتو لسه فاكرين تقدموا على المدارس دلوقتي؟ ده كل المدارس قفلت التقديم خلاص!"، ماذا؟ أحِّيه! هل سنؤجل تعليم البنات سنةً كاملةً؟ أم سأفتح كُتَّابًا في البيت وأمارس عمل المدرِّس وأقف مرددًا ألفٌ أسدٌ، باءٌ بطةْ؟
هذا الخيار الأخير مبالغة مجازية، لكنه كان أكثر رحمةً مما اكتشفناه وواجهناه. إذ تغيرت الكثير من الأمور الخاصة بالتعليم في السنوات الأخيرة، بالنظر إلى حياتي القصيرة التي تمشي بنور الله في عقدها الرابع. ثم إنها السپلايز، وما أدراك ما السپلايز؟ ثم ما أدراك ما السپلايز؟
السپلايز (supplies) كلمة عامة ذات مدلولات عديدة، تشمل أي احتياجات ولوازم وإمدادات ومؤن وذخائر، نعم ذخائر، يتسلح بها الطالب الطفل "الكيوت" استعدادًا للحرب التي هو مقبل عليها. يحتفظ معه ببعضها، ويُحضِر بقيَّتها إلى المدرسة التي تَدَّخرها له كالمقتنيات النفيسة والجواهر والأحجار الكريمة، دفينةً في مكان مجهول كأنه ثقب أسود يبتلع كل شيء.
قبل أي شيء، أذكرك بالنقطة المهمة؛ أن تقرأ هذه الكلمات واضعًا نفسك مكاني وإلا لن تستوعب الأمر. يعني ذلك أنك إذا كنت تعاني من سپلايز المدارس ولديك طفل واحد؛ فاضرب معاناتك في ثلاث. ولعلمك؛ طالما شعرنا بمعاناة من يعاني وجود طفل واحد في حياته، أيًا كان عمره.. شفقة على حالنا نحن بالطبع.
نعود إلى السپلايز، التي تنقسم إلى قسمين: الأول بمعنى الإمدادات واللوازم التي يحتفظ بها التلميذ وأهله، وهي الأشياء التي يجب أن تكون مع الطفل أصلًا ليذهب إلى المدرسة. على أيامنا كانت "لبس المدرسة" والزمزية والحقيبة وبها المقلمة والكشاكيل بجلادها وكيس السندوتشات. بقيت هذه الأشياء لكن تغيرت أسماؤها وطبائعها، وكل شيء لم يعد ككل شيء.
أصبحت الحقيبة "باكپاك"، والزمزمية "فلاسك"، والملابس "يونيفورم" بأشكال وألوان وأسعار خرافية. كما اختفى كيس الساندوتشات وحل محله "اللانش بوكس"، وله "باج" مخصوص، والعصير المعلب أصبح أساسيًا يوميًا، كذلك "السويتس" و"الكوكيز"، واضرب كل ذلك في ثلاثة.
مالي وكلُّ هذا؟
القسم الثاني يخص المدرسة؛ ذخائر تحتفظ هي بها، ولم يكن لها وجود في الماضي أصلًا. مدارس اليوم تطلب لوازم النظافة أو "الهايچين"؛ عشرات أكياس "الوايبس" وعلب و"رولز" المناديل، وزجاجات الصابون السائل والكحول ولباس إضافي. تخيل معي، مدرسة فيها مئات الأطفال، تطلب 20 صنفًا مُنَوَّعًا من المناديل للطفل الواحد. أين يحتفظون بكل هذه البكرات؟ لم أفكر كثيرًا فأنا أضرب في ثلاثة، وجدول الضرب يقول 20×3=60. نعم، حفظت جدول الضرب في المدرسة دون إحضار بكرة مناديل واحدة.
وبمناسبة أقساط التعليم، لماذا لا تُغَطِّي مصاريف السپلايز التي ليست من شأني أنا؟
أيضًا من الذَّخائر التي تبقى في المدرسة الأدوات الفنية، عفوًا، الآرت. علب ألوان خشب وشمع وفلوماستر، من أجود الأنواع والماركات في السوق، ليس أقل من Faber Castell، بالإضافة إلى عدد من الأساتيك والبرايات الفاخرة وأقلام الرصاص، وكراسات الرسم الصغيرة، واسكتشات كانسون كبيرة، "جليترد فوم"، صمغ، رُزَم من أوراق الطباعة A4، أفراخ ورقية كبيرة، أقلام سبورة، صلصال. وأنا أضرب كل هذا في ثلاثة، وترى البنات هذه الأشياء وتفرح، ولا تعلم كل واحدة منهن أنها لن تراها مرة أخرى في حياتها!
في العادة، تُجمَّع كل هذه الذَّخائر أو السپلايز معًا في المدرسة، في مكان مجهول، وعندما يحين موعد استخدام بعضها، يأتون بها للأطفال ليستخدموها، ولكن الحقيقة أن الطفل حين يمسك بشيء ما، صلصال، أو قلم، أو ورقة، لا يشعر أنها ملكه، ولا يفرح مثلما يفرح بالأشياء التي جلبناها له أول مرة.
ثم مالي أنا ومال رُزَم الأوراق وأقلام السبورة وفايلات الـU Shape؟ على رأي مرسي الزناتي؛ "هاجيب تختة من عند أمي؟ هاصرف على الحكومة بقى ولا إيه؟!"، هذه جملة هزلية، مبالغة قيلت على سبيل الفكاهة، لأنها لا يمكن أن تصبح أمرًا واقعًا، لكنها أصبحت، وصرنا نصرف على المدرسة فعلًا يا ابن الزناتي، ونشتري سپلايز ونضرب في ثلاثة!
خذ عندك مثلًا، على الطفل أن يحضر خمسة "باكيت" مناديل فاين، كل "باكيت" فيه 600 منديل، أي 3000 منديل، و10 بكرات مناديل، عشرات الأمتار من المناديل. هايچين طفل هذا أم مشروع تنجيد؟ ولماذا هذا الكم من "الأساتيك"! أنا أذكر وأنا طفل أن "الأستيكة" كانت تستمر معي لسنتين وربما ثلاثًا متتاليات، فلماذا يحتاج الطفل إلى أكثر من "أستيكة" في السنة الواحدة؟ ومن أغلى الأنواع في السوق، تلك التي يبلغ ثمنها ثمن وجبة إفطار في عصر التعويم. هل تمحو ذنوبه في المدرسة؟!
ميزانية قائمة بذاتها، وأنا أضربها في ثلاثة. كل بند ينطح الآخر. وإن لم تستوفِ "الليستة" كلها فأنت أب عاق، وعليك أن تتحمل كمًا لا قِبَل لك به من مكالمات إدارة المدرسة بأن هناك لوازم وذخائر وسپلايز ناقصة، ستتهرب منهم ربما لبعض الوقت، ولكن ليس إلى الأبد، فلديهم من الطرق ما يستطيعون بها إجبارك على أن تفعل ما يطلبون صاغرًا، أو تفضّل وفسِّر لابنتك لماذا لا تشارك مع زملائها في أنشطة المدرسة الفنية.
وعلى ذِكر الأنشطة، فهذه ميزانية أخرى من الرحلات والكامبات والاستعراضات والاحتفالات، وهي أنشطة نشجعها وندعمها ونفرح بوجودها وتفاعل أطفالنا فيها، فلماذا لا نوفر ميزانية السپلايز لنضعها هناك؟ ألا تكفينا أقساط التعليم؟
وبمناسبة أقساط التعليم، لا أعلم بالضبط لماذا لا تُغَطِّي مصاريف السپلايز التي ليست من شأني أنا؛ ذخائر الهايچين والآرت ومستلزمات المدرسين من أقلام وأوراق. يُذكِّرني الأمر ببعض "الكافيهات" التي ندفع فيها ثمن علبة مناديل لا تخصنا موضوعة على الطاولة، مع حساب المشاريب والخدمة والضريبة!
ثم اضرب كل ذلك في ثلاثة، وهي نقطة لو تعلمون عظيمة، لا تدركها عندما يأتي سبتمبر، ويقترب موعد إعداد السپلايز، فتُحضِّر "الليستة" وتحسب الحسبة، وتضع التحويشة التي ظللت شهورًا تكنزها، لتدفعها مرة واحدة. إنك في نعيمٍ حقيقي ينبغي أن تشكر حظك، والعناية الإلهية، التي لا تجعلك تضرب في ثلاثة، وستنظر إلى بلوتي، لتهوِّن عليك بلوتك، فتأمَّل.