تصميم يوسف أيمن- المنصة
المبدع بقدر ما يحمل من نرجسية المُنشِئ، فهو يحمل هشاشة المُنشَأ. لذلك قد لا تكفيه عبارة "الأكثر مبيعًا"، فيسعى لـ"الرواية الفائزة بجائزة كذا".

عن اﻷحلام والكتابة: هل يصلح الأدب كعلاج نفسي؟

منشور الخميس 5 مارس 2020

دعني أحكي لك شيئًا قبل أن أبدأ؛ حدثت أزمة كبيرة في نهاية شهر أبريل/ نيسان عام 2003 لصحفي نيويورك تايمز جايسون بلير عندما طُلب منه الإجابة عن بعض الأسئلة التي تخص قصته الصحفية التي نشرها قبل ذلك بأيام، وحكى فيها قصة حول عائلة الجندي الأمريكي الذي اختفى في العراق آنذاك. كان زملاؤه في الجريدة إلى جانب غيرهم يرون "تشابه" (بالنسبة لأصدقاءه) أو لنقل "اقتباس" و"سرقة محتوى" (بالنسبة للملاحظين من غير أصدقاءه) بين قصته وقصة أخرى كتبها صحفي غيره في جريدة أخرى، بينما يدّعي بلير أنه هو من تحدَّث إلى عائلة هذا الجندي.

مع الضغط عليه ادّعى أن لديه بعض الوثائق والأوراق التي اعتمد عليها في الكتابة، واعتبر ذلك بمثابة مقابلة أجراها مع العائلة، وأن الأمر اختلط عليه بأن الملاحظات في المقال الآخر هي ملاحظاته، هو بينما لم يغادر غرفة نومه ومكتبه في الجريدة. تساءل بلير عن  الضرر في تأليف قصة إنسانية ممتعة عن حدث ما. ألم يكن ذلك بمثابة تأريخ أو ما شابه؟ هذه الواقعة التي يحكيها في سيرته الذاتية "حرق منزل أساتذتي: حياتي في نيويورك تايمز" جعلته يستقيل من الجريدة ويذهب لمصحة نفسية ليُعَالَج من أوهام اختلاط الواقع بالحلم لديه. على ما يبدو أننا أمام قصة قصيرة حزينة يمكن أن ننطلق منها للحديث حول عدد من الأسئلة التي تشغل بال الأدباء بالتحديد، إلى جانب الكُتّاب عمومًا في مختلف مجالاتهم.   

في الأدب وباعتباره كله سردًا متخيّلًا، كُتبت أحداثه بعدما عايشناها في أحداث حقيقية حدثت بالفعل ويُعاد استنساخها، أو حكايات تُروى أدبيًا بأثر رجعي لتحكي عن خيالاتنا وأحلامنا، نحاول هنا من خلال آراء علمية وأدبية أن نُجيب على عددٍ من الأسئلة؛ هل تفسر كتابات الشخص ما يخزنه في لاوعيه أم لا؟ ثم هل يمكن أن تصبح هذه الكتابات بمثابة علاج نفسي للأزمات النفسية التي تواجهه؟ ونحتاج أن نجيب أولًَا عن سؤال؛ هل يمكننا أن نطبق التحليل النفسي على الأدب من الأساس؟ وما الذي يعنيه الأدب إذا لم يتحدث عن أشياء مختلقة لم يرها الكاتب وقارؤه؟ وماذا نتوقع أو نرجو منه أكثر من أي يحكي حياة غير مملة عن شخص داخل غابات أفريقيا لقاريء سويدي لم يغادر غرفته، لكنه تخيل وعرف أشياءً عن عالم غريب عنه؟

الأدب فضلوه على الطب

بالتزامن مع حادثة الصحفي السابقة ظهر كتاب الباحث بيير بيار هل من الممكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟ الذي حاول خلاله تأسيس هوية جديدة للمحلل النفسي للأدب، ربما تظهر معالمها أكثر مع مؤلفات نظرية وتطبيقية لاحقة مثل كتاب "كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟ ثم كتاب كيف نتحدث عن أمكنة لم نزرها؟ وعبّر خلالهما عن أفكاره التي تخص إمكانية التحليل النفسي للإنسان من خلال الأدب.

يؤيد ذلك الباحث المغربي حسن المودن في كتابه التحليل النفسي والأدب الذي يعتقد فيه أن ما يحكم كل ذلك هو أن المحلل النفسي للأدب لم يعد يتقدم باعتباره يملك المعرفة الجاهزة الخاصة التي تفهم كل شيء، بل إنه يمنح الفرصة للأعمال الأدبية لتحاوره وأن تُسائل معرفته النفسانية الجامدة، ذلك لأن الأدب هو الذي بإمكانه أن يرسل هواء جديد إلى التحليل النفسي وليس العكس، ونَقَل ما كتبه المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان أن "الأدب لا التحليل النفسي؛ هو المصدر الأساس للتنظيرات والتصورات النفسانية".

الاهتمام بالعلاقة بين الأدب والتحليل النفسي ظهر منذ رمن بعيد؛ العالم سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي ذاته لم يكن اهتمامه بالأدب مجرد اهتمام هاوٍ من بعيد، لكنه أسس نظريته في التحليل النفسي بناءً على قراءاته الأدبية والأسطورية والدينية، وأجرى حوالي أربعة عشر دراسة للأعمال الفنية والأدبية ليحصل بعد ذلك على جائزة جوته للأدب 1930.

سيجموند فرويد. صورة برخصة المشاع اﻹبداعي: ويكيبيديا

هذا يعني أن الأدب كان ركيزة أساسية في بناء تصوراته عن العالم النفسي للإنسان عمومًا، وهو ما يعني دون شك أن "اللغة" ذاتها كانت موضع النظر؛ لأنه يرى أن الأعمال الأدبية نجحت في كتابة اللامرئي، لذلك فالتحليل النفسي لفرويد بُني على شبكة من الروابط والعلاقات بين اللاوعي (أو ما لا يراه الإنسان بوضوح) وبين اللغة (أي الكتابات الأدبية التي تجعل الأفكار الداخلية للإنسان مرئية)، وتجعلنا على وعي بها، بالتالي تسهِّل أيضًا من مهمة التحليل النفسي.

إذن، قد تُجبِر اللغة الإنسان على أن يعبّر، ويقول ما لا يريد أو يخاف أن يقوله، كما يمكنها أيضًا أن تبرهن خطأ النظرية التي تعتبر أنه على التحليل النفسي أن يضيء الأدب بل العكس؛ على الأدب أن يضيء التحليل النفسي ويمدَّه بالمشاعر التي يحاول الإنسان إخفائها.

تتمحور أغلب إنتاجات الباحث حسن المودن، تلك التي ترجمها وكتبها، في مساحات حديث متخصص أكاديمي حول أهمية الأدب وعلاقاته بالتحليل النفسي. ويُضيف قائلًا إن "التحليل النفسي والأدب كلاهما لا يُقنعان بأن يتحوّلا إلى مجرد أمثلة من اللغة المستعملة، تعمل اللسانيات على توضيحها وإضاءتها، بل إنهما يستكشفان بُعدًا في اللغة يصمد أمام المعرفة اللسانية ويتحداها، ذلك لأن ما يتحقق باللغة في تحليل نفسي أو في عمل أدبي لا يمكن أن نحيط به من خلال نماذج نظرية لسانية".   

هنا الباحث يرفع من شأن "لغة" التحليل النفسي الذي يُقال شفاهيًا و"لغة" الأدب الذي يتم كتابته، مدعيًَا أنه من الصعوبة إخضاع هذه "اللغة" لتفسيرات أكاديمية عمومًا، ويُقر بإمكانية تحقيق العلاج النفسي من خلال الأدب تمامًا مثلما يُحقق من خلال التحليل النفسي.

الأشياء تبدو في المرآة أخطر مما هي عليه في الواقع

يحكي تلميذ فرويد النابغ وخليفته كارل يونج قصة كاشفة (مذكورة في كتاب "محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي" عن مكتبة الأنجلو المصرية. للمترجم الدكتور أحمد عزت راجح) ذات مرة حلم فرويد حُلمًا، وفسَّر بعدها سبب حلمه هذا، لكن يونج لم يصدِّق أو لم يقتنع بما برَّره فرويد له، كان تفسير يونج أكثر منطقية، وقال وقتها إنه بإمكانه أن يُفسر أفضل من ذلك إن حكى له فرويد أكثر عن حياته الخاصة، كانت صدمة يونج في الرد، حيث رمقه فرويد بنظرات شك واستهجان وقال "لن أخاطر بسلطتي"؛ هكذا كان فرويد ذاته يخاف من فضح نفسه وكشف أسرار الداخلية التي لا يحكيها، أو من مقابلة أشباهه الذين يذكِّرونه بنفسه حتى. 

يقول فرويد إن المحتوى الباطن والمحتوى الظاهر للحلم؛ لا تحكمهما علاقة مثل علاقة العلامة بالدلالة، بل مثل علاقة نَص بنَص آخر، الأمر يتعلق بترجمة لسان بلسان آخر، بمعنى أن ما يقدمه التحليل الفني للغة هو أفعال لغوية لا تُحيل إلى دلالات، بمعنى أننا لم نكن أبدًا على يقين بأننا أوّلنا حُلمًا ما تأويلًا تامًا. بالتالي من الممكن دائمًا أن يكون للحُلم المزيد من المعاني الأخرى؛ هذه المعاني لا يمكن تفسيرها لأننا لا نعلم كثيرًا عن أسرار الشخص الداخلية التي يخاف أن يحكيها، لكن ربما يمكنه كتابتها أو التوحُّد مع قراءتها مكتوبة من آخرين. 

يمكن للحلم أن يعبِّر عن المشاعر الداخلية للإنسان، لذلك يتطلب تفسيره معرفة أعمق بالشخص الحالم وحقيقة شعوره تجاه والديه تحديدًا، إلى جانب علاقاته عمومًا، لذلك إذا أردت أن تُحلّل أحدهم عليك أن تنظر إلى سيرته الحقيقية، وليست التي يحاول إظهارها، لترى الصورة الأشمل.  

لذلك رفض فرويد لقاء الكاتب والأديب النمساوي أرتور شنيتزلر بدعوى أنه يرى فيه "قرين" أو بشكل أكثر تفسيرًا يرى فيه الضعف الذي يخشى مواجهته وجهًا لوجه، على اعتبار أنه شبيهة الذي يجد في إنتاجاته الأدبية ومظهرها الشعري الفرضيات والنتائج التي تخص محلل نفساني، أي التي تخصه هو نفسه كاتبًا ومحللًا. 

أرتور شنيتزلر.. شقاوة قديمة مخفية

رواية الأديب النفساني النمساوي الذي يخافه فرويد قصة حُلم التي صدرت ترجمتها حديثًا عن دار المحروسة، للمترجم المصري سامح سمير، تكثّف وتظهر تصورات الرجل وفكرته عن الكتابة التي تحكي ما يخاف الإنسان حكيه، وتحاكي ما تحدثنا عنه تمامًا؛ كتابة أدبية ثاقبة تسرد قصة زوجين يرويان خلال حكايات أحلامهما غير الواعية ما لم يستطيعا أن يقولاه في الحقيقة أمام بعضهما البعض. فهي تُكتب على أنها أحلام ليست حقيقية لكنها تفسر مشاعر الأشخاص الحقيقية تجاه بعضهم الآخر. 

يقول شنيتزلر عن بطله الغارق في هواجسه وأحلامه التي لا تنتهي "قرر أن يحكي لحبيبته أحداث الليلة السابقة في أقرب وقت وربما في الغد حتى، لكنه سيرويها كأن كل الأشياء التي مرَّ بها كانت مجرد حلم، وعندما تدرك تمامًا مدى عبثية مغامراته وخلوها الكامل من المعنى، سيعترف لها أنها حدثت في الواقع".

ترد حبيبته قائلة "أعتقد أننا يجب أن نشعر أننا خرجنا سالمين من كل مغامراتنا، سواء كانت حقيقية أو مجرد حلم".

لا أحد يحسم الجدل

رغم كل ذلك، يرفض الباحث رولان بارت أن يُمارَس النقد النفسي الذي يفسِّر العمل الأدبي بالصراعات اللاواعية للكاتب والشاعر أو الحالم، كما يكشفها تاريخ طفولته، أي أنه يرفض نظرية أن الأعمال الأدبية ليست منفصلة عن الحياة الشخصية لمبدعيها، ولا تجد تفسيرها إلا بالعودة لطفولته.

تنبع حُجّة رولان بارت من حياته الشخصية؛ إذ مات والده وهو في سَنته الأولى في الحياة، فلو طبَّق على نفسه الصراع الأوديبي مثلًا الذي يحلِّل من خلاله فرويد الأشياء فلن يجد ضالته هنا؛ فلا وجود لأب ليقتله ولا لعائلة ليكرهها ولا لوسط  أجَّل إدانته. وهو ما يصفه بارت بأنه خيبة أوديبية كبرى.

لكن ولسبب غير مفهوم كتب رولان بارت نفسه كتاباته وتدويناته التي "أخرجت البساطة من داخله" بعد موت والدته، في كتاب جمعته ناتالي ليجير، وترجمته إيناس صادق عن المركز القومي للترجمة بعنوان يوميات الحداد قال خلاله "فكرة مذهلة ولكنها ليست محزنة أنها (يقصد والدته)  لم تكن "كل شيء بالنسبة لي" وإلا ما كنت كتبت مؤلفاتي، منذ أخذت أرعاها من ستة شهور كانت بالفعل كل شيء بالنسبة لي، ونسيت تمامًا أنني كنت أكتب، لم أعد مهتمًا بشغف إلا بها، قبل هذا، كانت تجعل نفسها شفافة حتى أتمكَّن من الكتابة... أنا لا أريد أن أتكلم في هذا الموضوع خوفًا من أكتب أدبًا دون أن أكون متأكدًا أنه لن يكون كذلك، رغم أن الأدب في الواقع ينبع من هذه الحقائق".

أما الكاتب خورخي بورخيس فيعتبر التحليل النفسي عمومًا نوعًا من الفانتازيا والصبيانية. أمام ذلك، هناك تساؤل وجيه كتبه الباحث حسن المودن في دراسته عن بورخيس قائلًا "أتعوْد كراهية بورخيس للتحليل النفسي إلى تلك الصورة التي يقدمها عن علاقة الأب والابن؟ أكانت علاقة بورخيس بأبيه التي يشوبها الاحترام الكامل المتبادل، على النقيض من علاقة الأب والابن في مسرحية الملك أوديب، التي ينطلق منها فرويد في التحليل النفسي"؟

الحلم عند فرويد هو الطريق المَلَكي إلى اللاوعي والحلم بالنسبة له رغبة مكبوتة منسيّة، أي أن اللاوعي يستعيد حَدَثًا من الماضي لم ينجزه الأنا "فعليًا" وحدث "حلميًا"، بينما بورخيس يعتقد العكس تمامًا؛ أن الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل كأنه يريد أن يعرف مصيره ومستقبله، ويتساءل دون أن يجيب "ما الفرق بين الحلم والعالم؟ وماذا لو استمر الحلم ولم يتوقف"؟


اقرأ أيضًا: صرخة إدفارت مونك: عندما تساعدنا التروما على الإبداع


صراع لم ينته بعد حول جدوى الأدب ومدى أهميته، وكشفه للكُتّاب والأحداث المروية، تجعلنا نتساءل عن جدواه كعلاج نفسي في قصة الصحفي الذي اختلق قصة إنسانية لم يراها؛ هل مغادرته الجريدة وتلقيه العلاج النفسي كان الحل، أم كانت كتابته للقصة ذاتها تعبيرًا عن أمنيات وأشياء شخصية كان يريد التعبير عنها دون أن يضر أحدًا؟