المنصة
تصميم: يوسف أيمن

تلك الأحداث| الصراع على كعكة الشرعية

منشور السبت 23 يناير 2021

"لا شيء يبدو أكثر إدهاشًا لهؤلاء الذين يتأملون شؤون البشر بعين فلسفية؛ من السهولة التي بها يحكم القلة منهم الأكثرية، وذلك الإذعان الضمني الذي به يُخضِع الناس مشاعرهم ورغباتهم لمشاعر ورغبات حكامهم. وعندما نبحث عن أي وسيلة تحققت بها هذه الأعجوبة، سنجد أنه في حين أن القوة دائمًا على جانب المحكومين، فالحكام لا شيء يدعمهم إلا الرأي. إنه على الرأي وحده إذن تتأسس الحكومات؛ وهذا المبدأ يمتد إلى أكثر الحكومات طغيانًا وعسكرة، كما يمتد إلى أكثرها حرية وشعبية".

ديفيد هيوم - عن المبادئ الأولى للحكومات


تشبه الثورة الانقشاع المفاجئ للغيوم عن الشمس في منتصف النهار، تسطع بضوء باهر يُكسب الأشياء من حولنا وضوحًا شديدًا، ولكنه يجعل الظلال أكثر عتمة وسوادًا، وبالتالي تتراوح الأشياء بين الأبيض والأسود وتغيب الرماديات. ومثل الشمس يصيبنا التعلق بالتحديق في حدث الثورة لبعض الوقت بالعمى المؤقت، بينما يعرضنا الاستمرار بالتحديق فيه، أكثر مما ينبغي، لخطر العمى الدائم الذي لا شفاء منه.

قد تكون عشر سنوات كافية لأن يبدأ بعضنا في التعافي من عماه المؤقت، رغم أنها في أعمار الشعوب تبقى فترة قصيرة للغاية، حتى مع تسارع وتيرة التغير في أزماننا هذه مقارنة بما سبقها. ولكننا، على أية حال، يمكننا فقط اختبار مدى شفائنا، وكذلك قدر ما تحتفظ به ذاكرتنا من الوضوح المؤقت الذي منحتنا إياه لحظة الثورة العابرة، بطرح رؤى جديدة ومختلفة عن تلك التي كانت لنا في وقت سابق.

يكشف حدث الثورة الشعبية، قبل أي شيء آخر، صحة مقولة هيوم التي صدَّرت بها هذا المقال؛ فلحظة الثورة هي تلك التي يُثبت فيها المحكومون، بوضع أجسادهم نفسها على خط المواجهة مع ممثلي قوة الحكام، أن القوة في التحليل الأخير هي إلى جانبهم. ومن ثم فإن استمرار الحكم، أي حكم، مرهون بـ"الرأي"، بلغة هيوم في القرن الـ 18، والذي يعني رأي المحكومين في حكامهم، أو بلغة السياسة الحديثة "الشرعية" التي يحصل عليها الحكام ممن يحكمونهم، والتي إن تبددت، سعى المحكومون إلى إسقاطهم، بصناديق الانتخاب إن كانت متاحة، أو في غيابها بالثورة، إن تحققت شروطها المادية.

ما سأحاول القيام به في هذا المقال هو قراءة التطورات السياسية خلال السنوات العشر الماضية، وصولًا إلى الواقع السياسي الحالي من خلال سؤال الشرعية السياسية. في سبيل ذلك سأبدأ بمقدمة ضرورية حول طبيعة الشرعية السياسية في سياق تاريخ الدولة المصرية الحديثة، وعلاقتها الوثيقة بالأجهزة البيروقراطية للدولة، وبصفة خاصة مؤسستها العسكرية ثم الأمنية، ثم أتناول أزمة الشرعية المؤدية إلى ثورة 25 يناير، وتطور هذه الأزمة في الأحداث اللاحقة عليها وصولا إلى 30 يونيو وما تلاها. وأخيرًا سأحاول قراءة الممارسات السياسية لأجهزة الحكم في الوقت الحالي، على ضوء التطورات السابقة.

على أكتاف البيروقراطية 

مثل غيرها من الدول الحديثة نشأت الدولة المصرية على أكتاف بيروقراطية إدارية نواتها الجيش النظامي الذي أنشأه محمد علي. نمو البيروقراطية، وحاجتها المتزايدة إلى التدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية لسكان الإقليم الجغرافي الخاضع لإدارتها، هو البداية الأولى لتحويل هؤلاء السكان إلى مجتمع يرتبط أفراده بالدولة المركزية من خلال أجهزتها بشكل مباشر، تعتمد حياتهم اليومية وشروط استمراريتها عليها. وبالتالي فالشرعية الأولية والتأسيسية للدولة الحديثة في مصر، كما هو حالها في كل مكان آخر، هي شرعية الإدارة البيروقراطية، وضماناتها المتمثلة في البيروقراطية العسكرية والأمنية.

وجود الدولة المادي المتمثل في بيروقراطيتها ينشئ بدوره الشروط الأولية لوجودها الرمزي من خلال مؤسسات التعليم النظامي، التي توحد اللغة القياسية بين السكان المتعلمين، كما تعمل على تثبيت مجموعة من القيم المشتركة، التي تشكل صورة موحدة للعالم الاجتماعي. ومع انتشار وسائل الإعلام الجماهيري بالتدريج يتزايد تغلغل هذه الصورة الموحدة بين فئات أكثر اتساعًا من المجتمع، لتنمو مع الوقت منتجة ما نسميه بالهوية الوطنية، والتي تبلورت في الحالة المصرية في مراحل رئيسية في مواجهة التدخل الأجنبي، الثورة العرابية، ثم الاحتلال البريطاني، ثورة 1919.

ولا ينبغي أن يغيب عنا مغزى الانتقال من قيادة البيروقراطية العسكرية للمواجهة الوطنية ضد التدخل الأجنبي الذي مثلته الثورة العرابية، إلى قيادة فعاليات سياسية، ممثلين للبيروقراطية المدنية وأعيان اقطاعيين ورأسماليين محليين، لمواجهة الاحتلال في ثورة 1919. هذا الانتقال يعكس بدايات تطور حقل سياسي له استقلالية نسبية، ومن ثم بداية نشأة شرعية سياسية مستقلة عن البيروقراطية وعن الشرعية الوراثية التقليدية لأسرة محمد علي.

لكن التجربة الليبرالية قصيرة العمر، في الفترة من 1923 وحتى 1952، لم تنجح في بلورة هذا الحقل السياسي ليصبح مجال منافسة حقيقية على الشرعية السياسية، فرغم الشعبية الكبيرة لحزب الوفد، لم ينجح في اكتساب ولاء البيروقراطية، وبصفة خاصة الجيش الذي ظل ولاؤه الأول للملكية، التي كانت بدورها في صراع دائم مع الحزب.

وكان تدخُّل الاحتلال في هذا الصراع مقوضًا لشرعية طرفيه. ومن ثم عندما فقد الملك ولاء جيشه، بشكل أولي مع حادث 22 فبراير 1942، ثم بشكل شبه نهائي بعد الهزيمة في حرب 1948، لم ينتقل ولاء الجيش إلى صاحب الشرعية السياسية في الحقل السياسي، الذي لم تتح له الاستقلالية الكافية، وكان احتدام أزمة شرعية الحكم الملكي مع بداية 1952 بطريقة ما استدعاءً للجيش ليتولى الحكم بشكل مباشر.

الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر يدلي بصوته في انتخابات الاتحاد القومي 1959. الصورة: مكتبة الإسكندرية

وضعت الحقبة الناصرية حدًا لإمكانية تبلور حقل سياسي مستقل يكون ساحة للتنافس على الشرعية السياسية. بدلًا من ذلك بنى عبد الناصر شرعيته السياسية على الأساس البيروقراطي لشرعية الدولة، ومن خلال استكمال بلورة الأساس الرمزي القومي لهذه الدولة. مجال التمثيل السياسي المتمثل في الاتحاد الاشتراكي كان جهازًا بيروقراطيًا إضافيًا، وامتدادًا للممارسات السياسية التي حافظت من خلالها البيروقراطية على توحيد مجمل المبادئ التي من خلالها تتشكل صورة العالم الاجتماعي لدى أفراد المجتمع، وكان للإعلام البيروقراطي دور متزايد في العمل على تأكيد هذه المبادئ، وتقديم تمثيلات رمزية مكثفة لها منذ بداية الستينيات بصفة خاصة.

هذه الفترة تمثل ذروة نجاح المشروع الناصري للدولة الحديثة، التي تكاد بيروقراطيتها تحتوي داخلها كامل فعاليات المجتمع. ولكن هذا النجاح لم يدم طويلًا؛ لأن هزيمة 1967 وضعت حدًا لطموحات الوطنية المصرية في السيادة الإقليمية، والتي كانت القضية الفلسطينية حجر الزاوية فيها. في الوقت نفسه وضع عبد الناصر بنفسه لبنة نمو نفوذ الأجهزة الأمنية داخل فضاء البيروقراطية، في مقابل السيادة التقليدية للجيش في هذا الفضاء. ومن ثمَّ فقد بدأ تآكل الشرعية السياسية للنظام، الذي أنشأه عبد الناصر، ببطء منذ السنوات الأخيرة لحكمه هو نفسه.

وتاريخ العقود الأربعة التالية منذ وفاة عبد الناصر وحتى ثورة 25 يناير يمكن اختزاله بصفة عامة في تفاقم هذا التآكل، مع التخلي، خطوة بعد أخرى، عن العناصر الرئيسية التي استخدمها عبد الناصر لبناء شرعية نظامه، مع ترهل البيروقراطية المدنية، والنمو المتزايد لدور البيروقراطية الأمنية، والتراجع، الذي كان بعضه حقيقيًا والآخر ظاهريًا، لدور البيروقراطية العسكرية.

وفي المقابل لم تؤد "عودة" الحياة الحزبية إلى بلورة حقل سياسي مستقل، فقد ظل البرلمان امتدادًا للبيروقراطية، وظلت سيطرة حزب السلطة غير قابلة لأن يتحداها حزب آخر بشكل جدي، ثم كان تسلل رجال الأعمال إلى قيادة هذا الحزب وسيطرتهم عليه، في تمهيد لمشروع توريث الحكم إلى خارج البيروقراطية العسكرية، هو المسمار الأخير في نعش الشرعية السياسية لنظام مبارك.

شرعية على المحك

انهيار الشرعية السياسية لنظام مبارك كانت بالأساس نتيجة للتخلي التدريجي عن مجموعة المبادئ الأساسية التي أرساها العهد الناصري لشرعية الدولة. من هذه المبادئ دور الدولة كراعية للمواطنين توفر لهم الوظائف والخدمات التعليمية والصحية وغيرها، والدور القيادي للدولة المصرية في نطاقاتها الإقليمية العربية والأفريقية، ومكانتها الدولية اعتمادًا عليه. وبالطبع كان التخلي عن المبدأ الأول هو صاحب الأثر المباشر والواضح في الحياة اليومية للمواطنين، ومن ثمّ فقد حمَّل المواطنون نظام مبارك، عن حق، المسؤولية عن التدهور الشديد لأحوالهم الاقتصادية والمعيشية، ومعاناتهم اليومية الناتجة عنه. كانت تلك القناعة من الرسوخ بما يكفي لأن يستمر الضغط خلال الأيام الأولى للثورة دون هوادة لإرغام مبارك على الرحيل، ومع تحقق ذلك في 11 فبراير/ شباط بدأت أزمة الشرعية تتخذ شكلًا آخر.

                                                                   بيان من المجلس العسكري

الثورات ضد أنظمة ديكتاتورية تطرح سؤال الشرعية السياسية نظريًا، ولكنها على الجانب العملي تضع شرعية الدولة نفسها على المحك، فالثورات تكشف حقيقة أن الدولة ليست هذا الكيان الرمزي المملوك لجميع مواطنيه، كما تنص الدساتير عادة، وإنما للدولة وجود مادي متمثل في بيروقراطيتها، وهذه البيروقراطية ليست مملوكة حقا للشعب، وإنما هي فضاء اجتماعي معقد قائم بذاته وله قدر كبير من الاستقلالية، وفي ظل الأنظمة الدكتاتورية يبلغ اندماج البيروقراطية بموقع الحاكم، وليس شخصه بالضرورة، الحد الأقصى.

وهو ما يعني أنه بحكم التراكم التاريخي لفترة طويلة تصبح البيروقراطية، العسكرية والأمنية في الأساس ولكن المدنية أيضًا، شريكًا أساسيًا في تحديد مواصفات موقع الحاكم الذي ترتضي قيادته. هذا يخلق للحاكم طبيعة مزدوجة؛ فهو فاعل سياسي له قدر يزيد أو ينقص من الشرعية السياسية، وهو أيضًا رأس البيروقراطية التي يحكم من خلالها، والتي تستأثر بقدر كبير من الممارسة السياسية في غياب حقل سياسي مستقل وفاعل. وبالتالي انهيار الشرعية السياسية للحاكم في نظام ديكتاتوري هو أزمة شرعية لبيروقراطية الدولة، أي أنه أزمة لشرعية الدولة نفسها.

في غياب شرعية سياسية تُختزل شرعية الدولة في شرعية بيروقراطيتها، والتي تنعكس بشكل عملي في انصياع المواطنين للأجهزة البيروقراطية للدولة. وفي ظل كون هذه الأجهزة طرف في الصراع في الأيام الأولى للثورة وفي أعقاب تخلي مبارك عن الحكم، كانت استعادتها لشرعيتها أمرًا صعبًا في حد ذاته.

في مواجهة هذا الوضع اختارت أجهزة الدولة، الأمنية بصفة خاصة، أن تتعامل معه كنقطة قوة وليس العكس، فقد تعمدت مفاقمته بما يشبه الإضراب غير المعلن عن أداء معظم واجباتها، في الوقت الذي حمَّلت المسؤولية كاملة لعدم انصياع المواطنين لشرعية الدولة، وبالتالي تهديدهم للدولة نفسها بالانهيار، ولخصت ذلك رمزيًا في مقولة "الانفلات الأمني"، والتي أدخلت تحتها ممارسات تعتبر في حد ذاتها حقوقًا للمواطنين، في مقدمتها الحق في التظاهر، وحق العمال والموظفين في الإضراب عن العمل في سبيل التفاوض لتحسين ظروفه. ومثل ذلك بداية لصراع رمزي هام حول حقوق التظاهر والإضراب ظل قائما حتى نهاية 2013 مع إصدار قانون التظاهر. والملاحظ أن الجهازين، الأمني والعسكري، عادا إلى التعامل العنيف مع المظاهرات والاعتصامات منذ وقت مبكر، وسواء كان ذلك متعمدًا أم لا، فإن استخدام العنف لقمع هذه المظاهرات والاعتصامات كان له دور رئيسي في استشعار المواطنين لحالة الفوضى وغياب الأمن على النفس والممتلكات إلخ، والتي انضوت بمجملها تحت العنوان الرمزي للانفلات الأمني.

فرصة أم مشاجرة في الشارع؟

ليس ثمة شك أن ممثلي الأطراف القادرة على الفعل، بدرجات متفاوتة من حجم هذا الفعل وأثره، كانوا يدركون في أنهم في حالة صراع على اكتساب أكبر قدر ممكن من الشرعية السياسية، تسمح لهم بدور في المنظومة السياسية التي يفترض أن تملأ الفراغ السياسي بعد رحيل مبارك، وفي ظن البعض حزبه أيضًا.

الجميع أيضًا كانوا يدركون أن في هذه اللحظة على الأقل كانت الشرعية السياسية في الشارع، أي في أيدي الجماهير العادية، لأول مرة بهذا القدر وهذا الوضوح منذ نشأة الدولة المصرية. وهو ما كان يعني ألا أحد يعرف عن توزيع هذه الشرعية بين القوى السياسية القديمة والناشئة على عجل، أكثر من تقديرات ظنية مبنية على تصورات عامة ومؤشرات غير دقيقة من الممارسات السياسية الانتخابية المحدودة في مراحل سابقة.

وربما كانت المؤسسة العسكرية التي تولت الحكم بشكل مباشر في هذه الفترة، هي أكثر الأطراف اهتمامًا بالحصول على مؤشرات لمدى الشرعية السياسية المتاحة للقوى المختلفة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين. ومن ثم فإن استفتاء 19 مارس على التعديلات المؤقتة لدستور 1971، كان الهدف الحقيقي الأول منه هو قياس قدر ما يمكن أن تحشده القوى السياسية المختلفة، من تأييد تصويتي في الصناديق للموقف الذي أعلنته من التعديلات.

البرادعي في حملة التصويت بـ لا في استفتاء 19 مارس

النتيجة الأساسية لاستفتاء 19 مارس، وربما كانت أحد أهدافه، إنتاج شق رئيسي لحقل سياسي لم ينشأ بعد. الإشكالية الرئيسية هنا كانت أن القوى السياسية من خارج بيروقراطية الدولة افترضت أن إزاحة مبارك تعني في حد ذاتها إخلاء الحقل السياسي لتنافس حقيقي على السلطة على نمط الديموقراطيات الغربية. ولم يدرك أي من هذه القوى أن الخطوة الأولى التي لم تتحقق بعد كانت نقل الشرعية السياسية إلى الحقل السياسي وتحقيق استقلاله الكامل عن البيروقراطية، بالقدر الذي يجعلها ترتضي الإذعان لسلطة من تكون له الغلبة في الصراع داخل الحقل السياسي.

بعبارة أخرى، لبناء ديموقراطية على النمط الغربي يكون لمن يفوز فيها بالانتخابات القدرة على إدارة الدولة من خلال أجهزة بيروقراطية ترتضي التعاون معه، لابد أن يكون للحقل السياسي في مجمله وبمجموع قواه السياسية القدر الكافي من الشرعية السياسية والقدرة على الحشد التي تثني البيروقراطية، بقيادة المؤسسة العسكرية عادة، عن الانقلاب عليه والاستيلاء على الحكم بنفسها. وبعبارة ثالثة، ثمة حاجة إلى أن يثق المواطنون في اللعبة السياسية، أن يصدقوا فيها وأن يمنحوها تأييدهم، في مجملها وقبل أن يمنحوا التأييد للاعب بعينه في هذه اللعبة. هذه الثقة وهذا التصديق والتأييد هم شرط وجود اللعبة السياسية والحقل السياسي بشكل مستقل عن بيروقراطية الدولة وفي مواجهتها.

المغزى الحقيقي لاستفتاء 19 مارس هو ما يفسر الخطابات السياسية التي أنتجتها القوى المختلفة قبله، ولا يفيد هنا بأي حال تكرار الاتهام لقوى الإسلام السياسي بأنها خرجت بالصراع حول الاستفتاء عن محتوى ما يفترض أنه الهدف منه، فالحقيقة أن الجميع كان يخوض معركة حول تقرير الأسس التي ستبنى عليها الشرعية السياسية لاحقًا. وهذه كانت المشكلة الرئيسية التي استمرت فيما بعد، فالصراع كان حول هوية الدولة نفسها، وهو صراع ليس محله الحقل السياسي أصلًا. اللعبة السياسية تشترط توافق القوى المختلفة، أو اللاعبون، على هوية ما للدولة ومبادئ أساسية مشتركة للصراع السياسي أو اللعبة السياسية. بعبارة أخرى: هوية الدولة هي حدود الملعب السياسي، وعندما يبدأ اللاعبون الصراع خارج هذه الحدود لا تكون ثمة لعبة ذات قواعد منظمة، بل فوضى تشبه مشاجرة في الشارع.

بغض النظر عن تصورات القوى المختلفة عما أسفر عنه الاستفتاء فقد خرج الجميع بانطباع واضح عن صعوبة أن يكون اللاعبون السياسيون أنفسهم هم الضامن للعبة السياسية، وهذا تحديدًا ما أعاد البيروقراطية العسكرية لتلعب دور الحكم، كما تخيل اللاعبون، أو تمهيدًا لتلعب دور الحاكم مع طرد الجميع. ويمكن تفسير الممارسات السياسية طيلة الفترة التالية من خلال هذه المعادلة المختلة، التي جعلت بناء حقل سياسي مستقل أمرًا مستحيلًا. والحقيقة أننا لن يكون بإمكاننا أبدًا الحكم على ما إذا كان بناء هذا الحقل السياسي ممكنًا في الأساس، حتى إن تصرَّفت القوى السياسية بشكل مختلف، ما يمكننا معرفته هو أنه إن كانت ثمة فرصة لذلك فقد كانت الممارسات السياسية للقوي السياسية، جميعها، كافية لإهدارها.

الساعات الأخيرة للهزيمة

رغم أن حدث استفتاء 19 مارس كان تأسيسيًا للواقع التالي له، فليس معنى ذلك أن ما تلاه كان بلا أهمية، كل ما هناك أن هذا الحدث عكس نمطًا للصراع السياسي هو نفسه ما استمر لاحقًا، وهو نمط يكشف العمى السياسي لكافة الأطراف، بما في ذلك الأجهزة البيروقراطية للدولة، التي ظلت طيلة الوقت تتلمس طريقها في الظلام. الميزة الوحيدة لبيروقراطية الدولة هي أن سقوطها لم يكن خيارًا مقبولًا، أو بعبارة أخرى، شرعيتها تتعلق بشرعية الدولة نفسها، باستمرارية الحياة اليومية للمواطنين، الذين نما تذمرهم لاستمرار اضطراب هذه الحياة.

ولا يهم هنا إن كانوا قد حمَّلوا المسؤولية للبيروقراطية أو للإخوان، بعد فوزهم الانتخابي بالسلطة المتاحة سياسيًا، أو للثوار الذين أصروا على البقاء في الشارع بحثًا عن شرعية ثورية، المسؤولية، فهم في النهاية كانوا يعلمون أن من يمكنه إعادة الاستقرار المفقود، هي الأجهزة البيروقراطية، فإن لم يكن بإمكان أحد إرغامها على ذلك فهي وحدها من ستمنحه طواعية عندما يتحقق لها ما تريد.

ويمكننا أن ننظر إلى عام محمد مرسي في الاتحادية على أنه تأجيل لمحتوم. فالإخوان لم يكونوا يملكون منفردين القدر الكافي من الشرعية السياسية للسيطرة على بيروقراطية الدولة، وكانت محاولتهم للسيطرة على بعض أجنحة البيروقراطية المدنية، والمواجهة العنيفة مع أهمها وأكثرها نفوذًا وهو السلطة القضائية، خطأ بائسًا جعل موقفهم السيئ أكثر سوءًا.

أما انخراط ما يسمى بالقوى المدنية في صراع وجودي ضد الإخوان، فلم يؤد إلى أكثر من تأكيد حقيقة أن الحقل السياسي أكثر انشقاقًا من أن يدعم السيطرة السياسية المطلوبة على البيروقراطية لتحقيق الاستقرار. وفي النهاية قررت البيروقراطية العسكرية التي ظلت مترددة طيلة الوقت الماضي أن تضع حدًا للملهاة السياسية التي لم تعد تجتذب اهتمام أحد.

جرافيتي في التحرير، مارس 2012. صورة برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي- فليكر 

وفي ذلك الإطار فقد كانت مظاهرات 30 يونيو 2013 هي الإعلان عما كان واقعًا فعليًا لبعض الوقت، وهو تجريد الإخوان من القدر الضئيل من الشرعية السياسية التي اكتسبوها من الصندوق الانتخابي، وهي شرعية ربما كانوا وما زالوا هم وحدهم من يظن أن لها أي قيمة عملية. ثم كان طلب التفويض في 24 يوليو/ تموز، ثم جمعة التفويض في 28 يوليو، هي الإعلان مرة أخرى عن واقع فعلي لم تعلنه ترتيبات 3 يوليو صراحة، وهو أن البيروقراطية العسكرية ورأسها قد استعادوا الشرعية السياسية، وهو ما يعني إغلاق الحقل السياسي، حتى وإن ظنت أي من القوى السياسية المدنية حينها خلاف ذلك. التالي كان بداية عمل البيروقراطية العسكرية لإزالة آثار الفترة السابقة، وهو ما حرصت على تأكيد عزمها على تحقيقه، من خلال استعراض دموي للقدرة على استخدام العنف، والاستعداد لاستخدامه، في مذبحة رابعة العدوية.

خوفًا من شبح مبارك

ثمة حقيقة لم تغب في ظني عن وعي أو لا وعي قيادة النظام الحالي، وهو أنها لا تمتلك من الشرعية السياسية أكثر كثيرًا مما امتلكه الرئيس المخلوع حسني مبارك عشية الثورة. ومن ثم فهي لا تعيش إلا على الشرعية الخام للدولة، وقليل جدًا مما هو خلاف ذلك. ويمكن فهم الممارسات السياسية لهذه السلطة من خلال تصنيفها بين مسارين، الأول هو دعم وحماية الشرعية الخام، البيروقراطية، للدولة، والثاني هو محاولة بناء أي قدر إضافي من الشرعية السياسية من خلال المنظومة الرمزية السائدة مجتمعيًا.

على المسار الأول يمكن أن نصنف كل الممارسات القمعية ضد جميع القوى السياسية على اختلافها، وفي مقدمتها بالطبع الإخوان المسلمين. الهدف هنا هو التخلص تمامًا من أي منافسة ولو شكلية على الشرعية السياسية. لا يختلف الأمر إذا ما كان من يحاول المنافسة هو الإخوان أو حزب سياسي مدني، أو شخصية تنتمي إلى البيروقراطية العسكرية نفسها، مثل أحمد شفيق وسامي عنان. ولكن ليست المنافسة وحدها هي ما يجب قمعه بل أي قدر من التشكيك يوحي به نقد سياسات الحكم في أي مجال، حتى ولو كانت أسعار تذاكر مترو الأنفاق.

السياسة العامة هي تسامح صفري مع أي رسالة تختلف عن تلك التي ترغب البيروقراطية، وبصفة خاصة في هذه الحالة أجهزتها الأمنية، في وصولها إلى الجماهير. لضمان ذلك لابد من السيطرة الكاملة على الإعلام التقليدي، وإن تبين أن هذا لن يتحقَّق بترهيب المؤسسات ومن يملكونها أو بإنشاء مؤسسات موازية، فلا بديل عن الاستيلاء على المؤسسات المملوكة ملكية خاصة وإدارتها بشكل مباشر.

على نفس المسار يمكن أن نصنف جهود تحجيم نفوذ رأس المال، والحرص على إيصال رسالة واضحة بأن محاولة تحويل رأس المال الاقتصادي إلى رأس مال سياسي هي أمر لن يُسمح به مرة أخرى. ومن ثم فإن الاستيلاء على بعض المؤسسات الإعلامية، لم يكن فحسب لضمان أحادية الخطاب الإعلامي، ولكن لتجريد رأس المال من أداة طرح أي خطاب سياسي في أي وقت. ولكن هذا ليس المظهر الوحيد لتقليم أظافر رأس المال، فالعديد من الممارسات الاقتصادية للبيروقراطية إما استهدفت الدخول في الأسواق كمنافس، أو منظم لها من خلال فرض مرور المبادرات الاقتصادية الكبرى من خلالها، ليس من خلال قطاع الأعمال العام أو الوزارات المدنية ولكن من خلال البيروقراطية العسكرية والأمنية بصفة خاصة، وهو ما يضع حدودًا صارمة ومساحة حركة شديدة الضيق، وعواقب فادحة للخروج على النص.

المسار الثاني، يلجأ إلى استخدام العناصر الرمزية السائدة في تكوين رؤية غالبية المصريين للعالم الاجتماعي، بصفة أساسية تنتمي هذه العناصر إلى المحافظة الاجتماعية المعتمدة بشكل متزايد على الرمزية الدينية الإسلامية، يتقاطع معها حس قومي أصبح مختزلًا في كراهية ما هو أجنبي وتحميله المسؤولية عن أي اختراق للداخل بأي أفكار وممارسات "غريبة"، وفي المقابل الاعتقاد في أن كل مختلف هو دخيل، وفي ظل الشعور بالتهديد الخارجي فهو أيضًا عميل.

هذه التوليفة تفسر الخطاب السياسي المباشر في مستوياته المختلفة ومن خلال الإعلام، الذي يحمل طابعًا دينيًا محافظًا، مختلفًا في نسبته ومضمونه عما كان يميز الخطاب السياسي للبيروقراطية المصرية في الفترات السابقة. وربما يثير خطاب البيروقراطية القانونية، أي النيابة والقضاء، دهشة خاصة لوضوح اختلافه عن فترات سابقة، ولكن أيضًا لتوسيعه للدور الرقابي على الفضيلة والأخلاق في المجتمع، بموازاة ممارسات ترسل رسائل واضحة بهذا الخصوص، وربما تمثل قضايا من أصبحن يعرفن إعلاميًا بفتيات التيك توك نموذجًا مثاليًا لهذه الممارسات، والتي تدعمها تعديلات تشريعية تستهدف تحديدًا الفضاء الإلكتروني.

لابد من القول بأن العرض السابق اختزالي إلى حد أخشى أن يكون مخلًا. لا شك أن النقاط التي مررت بها تحتاج إلى معالجة أكثر تفصيلًا، كما أن ثمة نقاط لا تقل عنها أهمية لم أتمكن من التطرق إليها على الإطلاق، منها السياسة الخارجية والشرعية الدولية، وهو مجال حققت فيه القيادة الحالية نجاحًا ملحوظًا في المجمل باستغلالها متغيرات الوضع الدولي في السنوات الأخيرة لصالحها. ولكنني في النهاية آمل أن يكون هذا العرض نجح في الإشارة إلى إمكانية قراءة التطورات والواقع السياسيين من خلال التمييز بين شرعية الدولة وثقل وأهمية أجهزتها البيروقراطية، وبين الشرعية السياسية التي إن لم يتوافر حقل مستقل للتنافس عليها أصبحت بالضرورة ملحقة بشرعية الدولة وتحت سيطرة بيروقراطيتها.

الأرضية المؤسسة لفهم كيف تعمل الشرعية وتتشكل؛ تعتمد على ضرورة ألا تغفل أي قراءة موضوعية للواقع السياسي، حقيقة أن ما يشكِّل مواقف الناس وخياراتها هي الظروف الموضوعية دائمًا، ولكن من خلال تصوراتهم عنها. ما يحكم هذه التصورات هو العدسة الرمزية التي قد تحرف رؤية الظروف الموضوعية إلى حد يتخيل معه الباحث أن المواقف والخيارات السياسية للناس تعتمد على انحيازات هوياتية، دينية، قومية، جندرية، عنصرية، إلخ، إما يختارونها عمدًا متخلين عن مصالحهم الموضوعية، أو ينخدعون بها فلا يمكنهم إدراك هذه المصالح. ولكن الحقيقة هي أن الناس بالفعل يهتمون بمصالحهم الموضوعية، ولكنهم لا يرونها سوى من خلال العدسة الرمزية للثقافة السائدة.

محاولاتنا لفهم حدث ثورة 25 ويناير وما تلاها من تطورات سياسية ستستمر لسنوات طويلة قادمة، وستشهد بالتأكيد العديد من المقاربات المختلفة، ومن ثم فلا شك لدي أن مقاربتي المتواضعة سيتجاوزها الزمن سريعًا، ولكنها تبقى بالنسبة لي محاولتي للاحتفاء بذكرى الثورة على طريقتي الخاصة.


قراءة ملف "تلك الأحداث" على هذا الرابط

 

 

هذه القصة من ملف  تلك الأحداث التي لا يجب ذكر اسمها



مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.