لقطة من أعلى لقرية رومية بمحافظة جبل لبنان- الصورة: فليكر برخصة المشاع الإبداعي

عامٌ على تفجير مرفأ بيروت: الذي غرق في الماء صار سحابة

منشور الثلاثاء 24 أغسطس 2021

عامٌ مرّ على تفجير مرفأ بيروت (أغسطس/ آب  2020)، الذي لا تودّ الذكرى أن تستدعي ألسنة لهبه وأدخنته البغيضة، لكنها بيروت المشحونة بمقاوَمة واقعها الهش وتجاوز صراعاته الضيقة، بيروت الواثبة في خيالات الشعراء فوق حدود الكوكب بانفجاراتها الجمالية المُخلخِلة، بيروت القادرة دائمًا على امتطاء الريح وابتداع أجنحة من الضوء وتحريك المشهد الإبداعي العربي كله صوب انعطافات لا يبرد وهجها النابض البهيّ.

في اندفاعها التلقائي المحموم صوب شواطئ بيروت، واحدة تلو الأخرى، تتراقص الموجات الهادرة وهي تقصد وجهة الوصول، مجرّدة من كل شيء، إلا عقيدة الحرية، وعند مرافئ عاصمة الشمس، فإن الصخورَ لا تصُدُّ شططَ فكرة قادمة من البعيد، والأسوار لا تمنع نسمة عابرة للقارّات، ونقاط التفتيش لا تستوقف طائرًا محلّقًا، ولا قصيدةً مخبوءةً في روح شاردة.

بالنسبة إلى شاعر عربي ينتمي إلى الأبجدية الحداثية الجديدة، ولا يعترف بالحواجز والفواصل والنعرات المحلية وتأشيرات الدخول، فإن بيروت بطقوسها الاستثنائية هي تلك الهوية الشعرية الحاضنة بامتياز، بل هي المدينة القصيدة، المفتوحة على الدهشة، بكل ما تعنيه من انزياحات جمالية وانفجارات تثويرية وزلزلات عصفت بالساكن والثابت في الكتابة الشعرية الموروثة عبر الأجيال.

بيروت القصيدة، فضاء سارح خارج جغرافيا المدينة المحدودة وخرائطها الضيقة، مزاجها الفطري السحري هو دستور الشعرية الخام، الموجودة بذاتها، حيث لا مجال للاعتراف بكشفٍ إبداعيّ جديد؛ ما لم يكن نابعًا بالضرورة من عقل متحرر من القوالب المكرورة والمعطيات الجاهزة والمعارف المنقولة والأيديولوجيات المتحالفة مع القمع والتنميط والتقييد.

تحت هذه المظلة، توالت انتقالات بيروت؛ القصيدة العصرية؛ من محطة إلى أخرى، بحضور شعراء ونقّاد ومنظّرين وناشرين وصحافيين ثقافيين نابهين، لبنانيين وغير لبنانيين، انصهروا في منظومة العاصمة المشحونة بالشعر، المستقطبة للطليعيين وأصحاب الطاقات الإشعاعية والمواهب الكبيرة، سواء من سكّانها، أو من المهاجرين منها ولا يزالون معلقّين بها، أو من المقيمين خارجها في سائر أرجاء الوطن العربي، والعالم.

 

الشاعرة الراحلة عناية جابر- الصورة: صفحتها على فيسبوك

تستعير اللحظة الفنية الراهنة عنوان أحد كتب الشاعرة الراحلة عناية جابر (1958-2021) لا أحد يضيع في بيروت، خصوصًا إذا كان شاعرًا مرهفًا، فالمدينة مَنْجَاهُ من "طقس الظلام"، وحصنه ضدّ "مزاج خاسر". ويعجّ سجلّ الحاضر الشعري بعشرات الأسماء المعاصرة والشابة التي استكملت مسيرة الآباء والجدود، وفرضت تشكلاتها الجديدة على المشهد العربي، منطلقة من عشق المدينة، ووقودها الحيوي الملهم.

اختزنَ نفَسُ عناية جابر الشعريُّ رحيقَ النسمات البيروتية، وسكنتْ نصوصَها المفتوحةَ بغير تصنيفٍ تفاصيل المدينة الزاخمة، التي لا تحتاج فيها إلى خرائط، وَتَعْتبر الابتعاد عنها انتحارًا إبداعيًّا وإنسانيًّا. من طزاجة المكان وجنونه ومزاجه الخاص استوحت تمردها على الراسخ والمستقر، وشرعت في صكّ حروفها التي "ترتطم برفق بعضها بالبعض، وكأنها موجات صغيرة تتكسّر على الشاشة".

في بيروت، "هناك دائمًا منافذ إلى ما يقصده المرء، وحلول تظهر في الأفق"، ما جعل جمال المدينة واسعًا، غير مزيّف. وفي رحابتها غير المرئية؛ وسط البنايات والعشب والأشجار، مضت عناية جابر تتابع تجوالها الحركي والشعري، ببلاغة جديدة، فيها من حبكة الروايات، وسرد اليوميات، مديرة دفة الكلمات إلى سياقها الصحيح، رغم التعب والألم.

منحت الدروب والمشاوير البيروتية عناية جابر مقدرتها على قنص التفاصيل، والتقاط العابر من على سطح المدينة في رحلات التمزق والتشظي، لتضفره في علاقات متشابكة عميقة، عبر لغة تتكئ على التوصيل والتقرير، ولا تعترف بالمواربة والتورية والزينة. جَسَدُ المكان هو جسدها، طاقته هي روحها، مشاعر الطبيعة هي حواسّها "لحاءُ الشجر قاسٍ/ بظفري نزعتُ طبقة يابسة/ وتذكرتُ قلبي".

 

وديع سعادة- الصورة: حسابه الشخصي على فيسبوك

ولم تؤثر رحلة اغتراب الشاعر وديع سعادة عن بيروت منذ أكثر من ثلاثين عامًا في علاقته المباشرة بمدينة الشعراء؛ إنسانًا ومبدعًا مجددًا، فصاحب قُل للعابر أن يعود.. نسيَ هنا ظله له رؤية مختلفة في التعاطي مع المكان غير القابل للنسيان، إذ يحمله في قلبه ويمضي مؤتنسًا به، ولا يكفّ عن محاولة تفجيره شعريًّا واتخاذه معبرًا إلى مصادقة الحياة، على ما فيها من كوابيس ومنغّصات.

صوت بيروت في تجربة سعادة هو صوت الطزاجة والدهشة والبساطة والعمق، والتحريض على الحياة، وعبور الحواجز والحدود، والانتصار للعذوبة والألفة، وملامسة الجوهريّ الباقي، في عالم متهاوٍ يكاد ينسحب تدريجيًّا من تحت الأقدام "الذي غرق في الماء، صار سحابة/ ثم نزل قطرةً قطرة/ والسابحون في البحر، يسبحون فيه".

تحرر وديع من المنفى ومن أي حيز ضيق "في هذه القرية التي تستيقظ، لتشرب المطر، انكسرتْ في يدي زجاجة العالم"، ليكون الشاعر الأكثر انخراطًا في المشهد العربي المعاصر، والأقرب إلى الذائقة العربية الجديدة المواكبة لتحولات قصيدة النثر وتطوراتها في السنوات الأخيرة، وأدرك منذ وقت بعيد أن المنفى أمر نسبي، لا يُعوّل عليه في قياس التحقق والتلاشي، والحضور والغياب.

وقد قطعت قصيدته شوطًا طويلًا في سبيل بلوغ تطورات ملموسة، منها توظيف السردي شعريًّا، والمذكراتي، وأحيانًا الفانتازي، والسيناريو، والكادرات السينمائية، وتركيب النص الكلي، مهما بدا صغيرًا، من وحدات عضوية متشابكة متجانسة مرنة، تفيض موسيقية ووضاءة.

ويضيق المقام عن حصر أصحاب الالتماعات النادرة من شعراء اللحظة الراهنة وشاعراتها الذين راهنوا على بيروت المنفجرة جماليًّا في أعمالهم المتوهجة التي أحدثت حراكًا في مسار قصيدة النثر العربية، ومنهم كذلك إسكندر حبش، الذي قدّم قصيدته الجديدة بوصفها انخراطًا في الحياة المعيشة، ومساحة للحرية المرجوّة. وشكلت جماليات المدينة، حتى بحروبها وأحزانها، اللغة السرية لصاحب بورتريه لرجل من معدن في صياغة نصوص مهشّمة هشة، محمّلة بالشفافية والسكينة، يتخفى فيها، ويظهر، منفاه الداخلي الخاص "الضوء لم يعد منصوبًا/ وحدها المائدة كانت مغطاة بكل هؤلاء الذين يشبهوننا/ في الغيبوبة نبني مدينة".

 

سوزان عليوان- الصورة: صفحتها على فيسبوك

أما الشاعرة سوزان عليوان، التي "تفلتُ كل خيطٍ، وتطير"، فإنها تمضي في نصوصها ثائرة على الحذاء الخانق والمسالك المألوفة، بريئة كسندريلا، قلقة مثل لصوص النار. وغزلت الشاعرة من براءة المكان قصيدتها الطفولية النيئة، وهي منطلقة فوق دراجتها بشريطةٍ حمراء، حيث تصير الكلمات بارودًا موجعًا وعطورًا عميقة التأثير تتحدى الزوال "كُلُّ ما رسمناهُ لمحةٌ، لونٌ وحيدٌ كحجرٍ، ثلجٌ، كُلَّما علوْنا بضحكةٍ، بأسنانِهِ أعادَنا إلى أرضِنا".

وتشكل تجربة الشاعرة ليندا نصّار إشارة إلى أحدث التجليات الحالية لقصيدة النثر، وجاءت الأمكنة والخرائط فيها مسوّغات للتفاعل مع المجّاني والهامشي واليومي في طرقات المدينة، وتوليد ارتحالات داخلية تأملية بديلة؛ إذا تعذرت سبل الواقع وتعثرت الخطوات "هي أماكن فارغة، صور وحيدة، عزلة كثيفة، سماء تلوح لبحار عالية".

وبالارتداد إلى الوراء قليلًا، تمكّنت بيروت على مدار سنوات في ماضيها غير البعيد من أن تقدّم دائمًا نموذج الجسر الحيوي المرن، القادر على قيادة المشهد المتكلس الثابت إلى صيرورة وسيرورة وسيولة، وانفتاح على الآخر؛ الغربي على وجه الخصوص، بالتأثير والتأثر، والعلاقات المتبادلة. وشهد نضجها الشعري ذروته بالتزامن مع إصدار يوسف الخال مجلة شعر في عام 1957، التي بلورت مفهوم "قصيدة النثر" العربية، وكانت نواة مشروع تأسيسي مغاير، امتدت تأثيراته إلى محطات تالية، وبقيتْ عطاياه إلى يومنا هذا.

وليس من الإنصاف ردّ حركة مجلة شعر العربية برمّتها إلى رغبة الخال في محاكاة نظيرتها "شعر" الأميركية بقيادة عزرا باوند، فبزوغ جيل شعري عربي متعدد الأطياف يمتلك حساسية جديدة مختلفة من أسمائه: أنسي الحاج، أدونيس، شوقي أبي شقرا، محمد الماغوط، سعدي يوسف، خالدة سعيد، وغيرهم، هو أمر لا يجري التخطيط له، ولا ينتظر اعتماده قرارًا إداريًّا، فقد كانت هذه الأصوات الواعية على دراية بما تحدثه من تغيير، وجاءت مجلة "شعر" لتنتظم الشتات في كيان ملموس رصين.

على جانب آخر، فثمة جذور أخرى كثيرة لتجربة مجلة شعر، ولقصيدة النثر العربية على وجه العموم، من هذه الجذور ما هو تراثي، وما هو نثر فني حديث، كما لدى المصري حسين عفيف في كتابه مناجاة (1933)، وكذلك فإن من الجذور ما يعود إلى إرهاصات أقلام التجديد اللبنانية، لكن في المهجر في هذه المرة، كما في كتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، في مطلع القرن الماضي.

 

غلاف لمجلة شعر- صورة متداولة برخصة المشاع الإبداعي

التقت هذه الروافد كلها، وغيرها مثل كتاب سوزان برنار المرجعي قصيدة النثر، لتصبّ في تجربة مجلة شعر، ومعها أضيئت مصابيح بيروت كبوصلات هادية إلى مسالك غير مألوفة وجزر غير مأهولة في كتابة القصيدة الجديدة، المعنية بخصوصية الفرد والهموم الذاتية والأمور العابرة والتفاصيل اليومية والانكسارات والخسائر المتلاحقة، ومن أبرزها هزيمة 1967 أمام المحتلّ الإسرائيلي، ولم ينتهِ تأثير المجلة بتوقفها في عام 1970، وإنما ظل مانفستو قصيدة النثر الذي أفرزته المجلة مجالًا للتطوير والتفجير والتجريب في محطات شعرية متتالية، قدّمت إلى يومنا هذا عشرات الأسماء البارزة، من بينها: بول شاؤول، صباح زوين، بسّام حجار، وغيرها.

قبل التقنيات الاتصالاتية والسماوات المفتوحة والإنترنت، لم تكن بيروت لتصير القصيدة العربية المفتوحة لولا تلك الحصون العملاقة التي امتلكتها، وهي دور النشر الكبرى، والمجلات المرموقة (مجلة "شعر" على وجه التحديد، بعنوانها الأشهر: بيروت- ص. ب. 3608، ومجلة الآداب التي أسسها سهيل إدريس في عام 1953)، وكذلك الملاحق الثقافية والأدبية للصحف ذائعة الصيت (النهار، السفير، المستقبل، الأخبار، الخ)، وهي الملاحق المهمة المقروءة التي رسّخت بتعمق واصطبار صورة بيروت كقصيدة مركزية ناصعة، إلى جانب تحليلها النقدي المتدفق وتأطيرها الأكاديمي الدقيق للثيمات الشعرية المستحدثة، وتقريبها من ذائقة المتلقي العربي، أينما كان.

لم تكن حركة مجلة شعر البيروتية، وتوابعها من النتاجات الإبداعية اللاحقة، مجرد موضات شعرية، وإلا كانت بهتت أو ضعفت بعد مرور أكثر من ستين عامًا على نشوئها، وإنما هي انعطافة جذرية في مسار القصيدة العربية نحو الإنساني الخالص والشعري "الصافي"، المجرد من الأغراض التحريضية التقليدية، والجوهري والحقيقي وغير الزائف، وبالتالي فإنه غير الزائل. يقول بسام حجار (1955-2009) "لا شأنَ لي بما يجري على بُعدِ أمتار، على بُعد أميالٍ، ومدنٍ، وبحارٍ، وحكاياتٍ، من بوّابة سهوي".

تجاوزت المجلة حدود التوقيت الذي كانت تصدر فيه، محدثة عبر عقود بعد توقفها نقلات نوعية من مناطق الجمود والتقليد وتحميل الشعر ما لا يطيقه من القضايا والموضوعات إلى آفاق مسايرة الحداثة العالمية، على مستوى المضمون والتعبير واللغة وفلسفة الحياة ذاتها. كذلك، فقد أسهمت الترجمات الكثيرة التي نشرتها المجلة في رفع سقف الطموح لدى المبدعين العرب لمجاراة الإبداع الغربي، وتحرير العقل العربي من التشرنق وضيق الرؤية والمحلية، ليأخذ مكانه المستحق في هذا الوجود.

في هذا الإطار، يمكن استشفاف التصالح التام بين أفكار شعراء الحركة كطليعيين ثوريين متمردين على الماضي المشكوك في قداسته والتراث الواجب تمحيصه، وبين قصائدهم التفجيرية المستشرفة حركة الواقع الفادح، يقول يوسف الخال (1917-1987) في إحدى قصائده "سأغرس زجاجة على الرصيف وأحسبها امرأة. قليلًا، قليلًا من الدفء. جسدي بارد كاللعنة/ لألف سنة وأنا أمضغ القات. لألف سنة وأنا أركب جوادًا ميتًا. لألف سنة وأنا بلا وجه. قناعي لوحة على قبر/ واليوم أنا سائح بلا هوية. نقودي مزيفة ورأسي بلا شعر. وموكبي قصب تصفر فيه الريح". ويقول أدونيس (1930-) في إحدى رسائله حول فلسفة جماعة شعر "ليس التراث مركزًا لنا. ليس نبعًا وليس دائرة تحيط بنا. حضورنا الإنساني هو المركز والنبع، وما سواه والتراث من ضمنه، يدور حوله".

لقد عرفت قصيدة النثر العربية التكثيف والتوهج وكتابة الومضة والاختزال والمحو، يقول وديع سعادة (1948-) في أحد نصوصه الموجزة "نتسلّق ضحكاتنا/ لأن صراخنا شاهقٌ جدًّا"، وتفوّقت الشعرية على وعائها اللغوي بعدما تحولت اللغة إلى مجرد أداة توصيلية أكثر من كونها غاية مستقلة، وراحت الأنا الفوضوية الممزقة تمارس رفضها وخلقها وحلمها بوجود آخر خارج الهاوية، وهو الوجود الذي ربما لا يتحقق إلا من خلال الشعر وحده، وهكذا يمرّ عامًا على انفجار مرفأ بيروت، وبيروت ببساطة هي القصيدة، المكان الذي تعني الإقامة فيه المقاومة والقدرة على امتطاء الريح وابتداع أجنحة من الضوء.