تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
يحتل الكاسيت مكانة بارزة في تشكيل الوعي الجمعي للمصريين خلال الربع الأخير من القرن العشرين

الكاسيت.. صوت إمام وكشك وعدوية وعنتر مسلم في مواجهة السلطة

أندرو سايمون يتناول تأثيرها في المجتمع المصري من السبعينيات لمطلع الألفية

منشور الثلاثاء 17 يونيو 2025

عندما زار الأكاديمي الأمريكي آندرو سايمون مصر لأول مرة عام 2007، كان أكثر ما لفت انتباهه الأصوات التي ملأت الأجواء من حوله؛ مكبرات صوت في المساجد، موسيقى صاخبة في المقاهي، ضجيج أبواق سيارات في الشوارع.

الأكاديمي الأمريكي آندرو سايمون مع الإصدار الأول لكتابه إعلام الجماهير باللغة الإنجليزية، 12 يناير 2025

"تركت هذه الأصوات أثرًا فوريًا في نفسي، ودَفعتني إلى التعمق في تاريخ الثقافة الصوتية في مصر"؛ يتحدث سايمون لـ المنصة بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتابه Media of the Masses: Cassette Culture in Modern Egypt/إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر يناير/كانون الماضي عن دار الشروق.

يتناول الكتاب تأثير أشرطة الكاسيت في المجتمع المصري منذ السبعينيات إلى مطلع الألفية، شارحًا دورها في التغيرات الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية.

سايمون مؤرخ أمريكي مختص بالإعلام والثقافة الشعبية في الشرق الأوسط الحديث، يعمل محاضرًا بكلية دارتموث في الولايات المتحدة، درس اللغة العربية في القاهرة إبّان ثورة يناير، حينها فتحت أصوات المتظاهرين في ميدان التحرير أمامه آفاقًا جديدة في مسعاه لفهم تأثير الصوت على الحاضر والماضي في مصر.

على مدار أكثر من عقد من الزمان، تراكمت معرفة سايمون بالحياة المصرية، وتوسع في الدراسات الأكاديمية حولها، حتى تُوّجت جهوده بصدور  كتابه أول الأمر بالإنجليزية عام 2022 عن مطبعة جامعة ستانفورد، قبل ظهور الطبعة العربية الأولى عن دار الشروق في مصر، مطلع العام الحالي.

في الدراسات العليا، قدم سايمون أوراقًا بحثيّةً عن فنانين مصريين مثل الشيخ إمام، وما مثلته أغانيه الثورية من رواية تقارع الرواية الرسمية للسلطة، إضافة إلى ما قدمه بخصوص أنواع فنية أخرى وعلى رأسها الموسيقى الشعبية، و"كان الخيط المشترك بين كل هذه الاتجاهات هو أشرطة الكاسيت"، على ما يقول.

https://www.youtube.com/watch?v=ASA3CQn0HZA

صوت الشعب

في عام 1963، كشفت شركة فيليبس الهولندية عن اختراع جديد سيُغيّر مستقبل الصوت المسجّل؛ شريط الكاسيت المُدمج/Compact Cassette. مثَّل هذا الابتكار لحظةً مفصليةً في تاريخ الإعلام الصوتي، إذ أتاح تسجيل وتشغيل الأصوات بطريقة ميسّرة ومحمولة وغير مكلفة، بالمقارنة مع الوسائط السابقة كالأسطوانات الكبيرة، أو بكرات الشريط المفتوحة.

غير أن رحلة الكاسيت في مصر لم تكن مجرد امتداد تقني لهذا الابتكار، ففي حين حمل الكاسيت في هولندا معطيات العالم الرأسمالي المتقدم، تحوّل في مصر إلى وسيط مقاومة ثقافية، مكّن المهمشين من التعبير عن أنفسهم، وأربك رقابة الدولة، وأعاد رسم العلاقة بين الجمهور والمحتوى المسموع، في مجتمع كانت فيه السيطرة على الكلمة المسموعة من أدوات الضبط السياسي والأمني.

غزت أجهزة الكاسيت المحمولة المقاهي والمحال ووسائل النقل، وأطلقت العنان لفيض من الأصوات تراوح بين الأغاني الشعبية وخطب الدعاة، ما خلق حالة حادة من الانقسام المجتمعي.

يظهر في الصورة مصريون يلتقطون صورة مع جهاز كاسيت في إشارة لرمزية سيطرته وانتشاره

لم يكن الإزعاج الصوتي الناتج عن هذه الأشرطة مجرد مسألة تقنية أو ذوقية، بل أصبح رمزًا لصراع طبقي وثقافي. فبينما اعتبره البعض تعبيرًا عن تمكين المهمّشين وإعادة امتلاكهم للحيّز العام، رآه آخرون دليلًا على "انحدار الذوق العام" وفوضى ثقافية تستدعي التدخل. 

يتبنى سايمون في قراءته لهذا المشهد الرأي القائل بأن أصوات الكاسيت، وإن بدت مزعجة للبعض، لكنها كانت بمثابة إعلان رمزي لتحرّر المواطن من احتكار الدولة للصوت.

الضوضاء لم تكن مجرد حالة اجتماعية في الشوارع تثير حفيظة البعض، بل علامة على تحوّل اجتماعي وثقافي عميق، جعلت من الكاسيت أداة تعبير بديلة في مواجهة السلطة والرقابة والنخبة الثقافية على حد سواء.

رواية بديلة 

بينما كانت الإذاعة المصرية تروّج لرواية السلطة، كانت أشرطة الكاسيت تنقل الحكايات الشعبية، والهجاء السياسي، وأوجاع الطبقات المهمشة. هذه التقنية المحمولة والمقرصنة مكّنت صوتًا مثل الشيخ إمام من التحول إلى مؤرخ شعبي.

مثال بارز على ذلك، أغنية "شرفت يا نيكسون بابا"، التي قُدّمت بالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لمصر عام 1974. ففي مقابل الاستقبال الرسمي المبالغ فيه، الذي شمل مواكب واحتفالات وتغطيات صحفية احتفالية، قدّم إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم سردًا ساخرًا يُحيل الزيارة إلى زار سياسي، ويفضح النفاق الإعلامي المحيط بها.

https://soundcloud.com/bassam-hamdan/w1pr4npehqzb?si=0282ff39918f4aaaae6eb00f48aa5f9d&utm_source=clipboard&utm_medium=text&utm_campaign=social_sharing

أغنية شرفت يا نيكسون بابا للشيخ إمام

ربطت الأغنية بين نيكسون وفضيحة ووترجيت، ووصفت زيارته بأنها أحد أشكال الارتهان للغرب. لم تُذع الأغنية رسميًا، بل انتشرت على أشرطة مقرصنة في المقاهي وسيارات الأجرة. كانت هذه الأشرطة بمثابة سردية مضادة للتاريخ الرسمي، أعادت الاعتبار لصوت المواطن العادي بوصفه سلطة مستقلة.

لم يكن إمام الصوت الوحيد. فقد استخدم الكاسيت أيضًا دعاة شعبيون مثل الشيخ عبد الحميد كشك، الذي تخطّت أشرطته الحواجز المؤسسية، ووصلت آلاف البيوت من دون إذن رقابي. كذلك الأمر مع مقرئين مثل عنتر مسلم، الذي مُنع من التلاوة بسبب مخالفته قواعد التجويد الرسمية، لكنه أصبح نجمًا في الأرياف وبين الطبقات العاملة.

الشيخ إمام في ضاحية المعادي حيث كان يسجل أشرطة الكاسيت هناك

في السياق نفسه، يشير سايمون إلى أن أحمد عدوية، المغني الشعبي الذي استُبعد من الإذاعة باعتباره "مبتذلًا"، أصبح نجمًا بفضل أشرطة الكاسيت. ويرى فيه نموذجًا مبكرًا لمطربي المهرجانات، الذين يمثلون تحديًا للنخب، ويعكسون ثقافة الشارع.

ببساطة، ردّ الكاسيت الاعتبار للمهمشين، وأعاد تعريف صوت العاديين بوصفه قوة مقاومة قادرة على زعزعة الرواية الرسمية. بهذا، تحولت أشرطة الكاسيت إلى أدوات تدوين بديلة، تحتفظ بالذاكرة الشعبية، وتتحدى رواية الدولة.

في مواجهة الرقابة

لم تكن الدولة المصرية غافلةً عن تحدي أشرطة الكاسيت لهيبتها وروايتها الرسمية. فمنذ أواخر السبعينيات، ومع تنامي تأثير هذه التقنية الوافدة، بدأت محاولات مكثفة للسيطرة على الكاسيت. وأصدر الرئيس أنور السادات قرارًا بإنشاء ما عُرف شعبيًا بـ"شرطة الكاسيت"، وذلك تحت ضغطٍ من رموز ثقافية وفنية مثل محمد عبد الوهاب، في محاولة لكبح جماح الأصوات التي باتت تنتشر خارج الإذاعة الرسمية.

كما سنّت الحكومة قوانين جديدة، وفرضت ختمًا رسميًا على الأشرطة الأصلية لتمييزها عن المقرصنة، في حين دعا فنانون وخبراء إلى فرض ضرائب على مبيعات الأشرطة الفارغة لدعم أصحاب الحقوق. وبالرغم من هذه الإجراءات، استمرت القرصنة في التوسع، وواجهت الشرطة اتهامات بالتقاعس.

رغم هذه الجهود، فشلت الدولة في كبح نمو سوق الكاسيت، الذي شهد انفجارًا هائلًا خلال عقد الثمانينيات. يشير سايمون في كتابه إلى تضاعف عدد شركات الإنتاج المرخصة من 20 إلى 40 شركة خلال أقل من شهر واحد مطلع عام 1981، وتجاوز لاحقًا 500 شركة مع نهاية العقد، دون احتساب الكيانات غير المرخصة التي عملت خارج رقابة الدولة. 

https://public.flourish.studio/visualisation/23776556/

وحسب الكتاب، أسهمت مصر سنويًا بحوالي 300 ألف شريط مقرصن من أصل 850 مليون شريط يُتداول عالميًا، ما وضعها في طليعة الدول النشطة في هذه السوق. وقدّرت الخسائر السنوية الناتجة عن القرصنة بأكثر من 100 مليون جنيه، حيث كانت الأشرطة المقرصنة تُباع بأسعار تتراوح بين جنيهين و2.5، مقارنة بـ7 إلى 10 جنيهات للشريط الأصلي.

لكن تأثير الكاسيت لم يقتصر على الاقتصاد، والمؤسسة السياسية، بل امتد إلى المؤسسة الدينية. أشرطة الكاسيت أتاحت لمئات الوعّاظ تسجيل خطبهم ومواعظهم خارج رقابة الأزهر، ما مثَّل انفجارًا في الخطاب الديني غير الرسمي.

كان هذا بمثابة إفلات للسلطة الدينية من قبضة الأزهر. فاتّسع هذا الفضاء الصوتي الموازي، ليمنح الفرصة لمئات الوعّاظ والقراء، محترفين وهواة، للتعبير عن رؤيتهم للإسلام ونشرها على نطاق واسع، خارج منظومة الإجازة الرسمية. 

في المحصلة، يكشف كتاب إعلام الجماهير بوضوح أن أي سلطة، سواء كانت سياسية أو دينية، لن تكون قادرة على احتكار الفضاء الصوتي، فسبق للكاسيت أن صنع أرشيفًا شعبيًا مستقلًا، ووسّع دائرة تعبير المصريين عن ذواتهم كما هم، لا كما يُراد لهم أن يكونوا.

إلى جانب المعاني التي أكدّها كتابه، يرى آندرو سايمون في ختام حديثه لـ المنصة أن تجربة الكاسيت تمثل لحظة تأسيسية في فهم الإعلام البديل، إذ مكّنت من إنتاج الثقافة وتداولها خارج الأطر الرسمية، تمامًا كما تفعل السوشيال ميديا اليوم. من هنا، يدعو المؤرخ الأمريكي الباحثين إلى إعادة التفكير في مفهوم "الإعلام الجديد" من خلال دراسة تقنيات سابقة مثل الكاسيت وشرائط الفيديو.

وعن مشاريعه المقبلة، يعمل سايمون على رقمنة أرشيفه الصوتي، وإتاحته للعامة، إلى جانب تحرير كتاب جماعي عن تاريخ الإعلام في الشرق الأوسط، وكتابة سيرة ذاتية عن الشيخ إمام.