تصميم: أحمد بلال- المنصة
عادل كامل.

نظر وراءه في غضب ثم مضى: هذا ما جرى لصاحب "مليم الأكبر"

منشور الأربعاء 10 نوفمبر 2021

تظل رواية مليم الأكبر لعادل كامل، الصادرة في أربعينيات القرن الماضي قبل أكثر من ثمانين عامًا، واحدة من أهم التجارب الروائية وأكثرها تعقيدًا وحرثًا في حقول جديدة لم تكن الرواية العربية اقتربت منها. صحيح أن صاحبها توارى وتوقف عن النشر واشتغل بالمحاماة، وجنى أموالًا وعاش في رغد، ولكن صحيحًا أيضًا أن مليم الأكبر تجربة روائية مذهلة في ريادتها واستشرافها. وبلا أي مبالغة، لم يكن من المتصور أن يصل الفن الروائي إلى ما وصل إليه لولاها، ووصف البعض مقدمتها بأنها "من النصوص التأسيسية للحداثة في الأدب العربي".

السطور التالية تهدف في المحل الأول لأن نتذكر الرواية والروائي، ومن خلال هذا يمكن التطرق إلى المصائر والمآلات، ولماذا اختار عادل كامل الابتعاد تمامًا، كأنه فرّ من الميدان؟ ولماذا انتظر عدة عقود قبل أن يظهر مرة ثانية بروايتين قصيرتين، ثم يعود لاختفاء طويل حتى رحيله في هدوء شديد ودون أن يتذكره أحد عام 2005؟

غابت الرواية تمامًا لعدة عقود حتى تذكرتها دار الكرمة للنشر، وأعادتها للحياة من خلال سلسلتها مختارات الكرمة، وأصدرت لها طبعة جديدة، وهي الطبعة الوحيدة المتوافرة الآن، ويعود تاريخها إلى عام 2014. طبعة مزوّدة بنص بالغ الأهمية للكاتب، أعتبره مقدمة بعنوان منفصل هو في تأديب مليم. واللافت للنظر أن المقدمة طالت وبلغ عدد صفحاتها 150 صفحة، بينما بلغ عدد صفحات النص الروائي ذاته نحو 150 صفحة أيضًا.

غلاف الكتاب

سأعود للمقدمة وللرواية، لكنني أود أن أشير إلى عدة أمور من بينها مثًلا أنه يفصل بين سن نجيب محفوظ وعادل كامل نحو خمس سنوات، فالأخير مواليد عام 1916، بينما محفوظ مواليد 1911، كتبا أعمالهما الأولى في وقت متقارب، وكوّنا مع آخرين لجنة النشر للجامعيين، التي تولت طباعة الأعمال الأولى لجيل كامل بنظام الاكتتاب، ويحدد نجيب محفوظ في المقدمة التي كتبها لطبعة الكرمة.

أخبرني الأستاذ سيف سلماوي مدير الدار، عندما اتصلتُ به هاتفيًا أسأله، أن المقدمة هي في الأصل كان محفوظ نشرها عام 1993 لروايتين قصيرتين نُشرتا معًا في سلسلة روايات الهلال. يحدد محفوظ أن "أبناء هذا الجيل تعارفوا عام 1942، وذكر الأسماء التالية وبالترتيب التالي: عادل كامل، وعبد الحميد جودة السحار، وعلي أحمد باكثير، ومحمود البدوي، ويوسف جوهر، وحسن عفيفي، وأحمد زكي مخلوف"، ويضيف "كان عادل كامل في طليعة هذا الجيل، من حيث الامتياز والجودة"، كما يضيف أيضًا "ومنذ تعارفنا أدبيًا دعاني عادل كامل للانضمام إلى الحرافيش، وكانوا مكوّنين في ذلك الوقت منه، ومن زكي مخلوف، وأحمد مظهر، والمرحومين أمين الذهبي، وثابت أمين، ومحمود شبانة، وعاصم حلمي وغيرهم، التي ضمّت بعد ذلك كلًا من توفيق صالح، ومحمد عفيفي، وصلاح جاهين، وكان يتردد عليها أحمد بهاء الدين ولويس عوض وآخرون".

 ويواصل محفوظ مؤكدًا أن عادل كامل كان أسبق أبناء هذا الجيل في نشر أعماله مثل ويك عنتر وأصدرها على حسابه الشخصي، وفي لجنة النشر للجامعيين نشر مليم الأكبر ثم ملك من شعاع، لكن كامل توقف بعد ذلك وهو في ذروة نشاطه، خصوصًا بعد أن رفض مجمع اللغة العربية منح روايته مليم الأكبر جائزة المجمع، وقرر العزوف عن الكتابة، واشتغل بالمحاماة.

سبق زمانه

من جانب آخر تكمن فرادة وتميز مليم الأكبر في أنها سبقت زمانها، سواء فيما يتعلق ببنائها الفني المحكم الكلاسيكي، وتخليها عن نوع من المجاز المجاني كان منتشرًا وسائدًا، يحفل بالمحسنات البديعية والتكلف اللغوي. أو فيما يتعلق بالعالم الذي قدّمته وكشفت عنه، عالم كانت الرواية في مصر، بل والرواية العربية عمومًا بعيدة عن تناوله أو على الأقل عن التعبير عنه على هذا النحو المتطور فنيًا.

 تدور الرواية حول أسرة أحمد باشا خورشيد أحد كبار الإقطاعيين ممن يشغلون المناصب الرفيعة في الحكومة، ويتصف بالجشع والتسلط، ولا يتورع عن سرقة أقرب أقاربه. وأسرة أخرى بطلها مليم بائع الصحف والمخدرات أحيانًا، والذي يتهمه الباشا بالسرقة ويتسبب في سجنه ظلمًا. وبينهما مجموعة غريبة من المثقفين والفنانين الذين استأجروا قصرًا عتيقًا مهدمًا في الخيامية.

تقدم الرواية عالمهم شبه البوهيمي وتهتكهم الأخلاقي، كما تقدّم ملامح من تورط بعضهم السياسي في الأفكار اليسارية، وينتهي الأمر بإلقاء القبض عليهم. وتختتم الرواية بخروج مليم من السجن وتحوله إلى واحد من كبار الأثرياء من أغنياء الحرب، بعد أن عرف كيف ينتهز الفرص بالرشوة والسرقة والقوادة ومختلف أشكال الفساد.

 ليس مهمًا أن أقدّم هنا تلخيصًا للرواية، لكنني أكتفي بالإشارة إلى العوالم الجديدة المدهشة التي كانت اقتحمتها وعبّرت عنها. عالم الناس والمجتمع الحي والعلاقات وتفاصيل الحياة اليومية، ربما باستثناء وصفه لبعض سكان قصر الخيامية المتهدم، الذين حاول أن يقدمهم بوصفهم شيوعيين، لكنه كتب عن مجموعة من البوهيميين الذين كانت الحياة تخلو منهم، أي أنه قدّم صورة ذهنية متخيلة، ومع ذلك فإن الرواية مدهشة على وجه الإجمال بجملها القصيرة الواضحة، وبنائها المحكم، وانتقالاتها السريعة بين أكثر من عالم.

وبعد أن رفض مجمع اللغة العربية، الذي كان يشكّل أعلى سلطة أدبية في البلاد، مليم الأكبر، على الرغم من أنه كان سبق له الفوز بجائزة المجمع عن روايته الأولى "ملك من شعاع"، غضب كامل بشدة واتخذ قراره بهجر الكتابة، وفي الوقت نفسه عكف على كتابة رد مطوّل على رفض المجمع على مدى 150 صفحة، يستحق هذا الرد أن يصفه البعض بأنه من النصوص التأسيسية للحداثة العربية، وضمّ الرد للرواية ونشرهما في طبعة جديدة وأعلن توقفه عن الكتابة والنشر، بينما استمرت علاقته الشخصية بأبناء جيله في لقاءات الحرافيش، وطلب منهم، حسبما أشار محفوظ في مقدمته السالف الإشارة لها، عدم فتح هذا الموضوع معه وهو ما التزموا به.

أما المقدمة أو الرد الذي أضافه كامل فيعد أعنف وأقوى ما كُتب كبيان للكتابة الجديدة، ويتضمن نقدًا بل وهدمًا للبلاغة السائدة، ويعتبر التراث العربي بكامله منذ الشعر الجاهلي وحتى ظهور جيله متخلفًا ورجعيًا، وسببًا أساسيًا لكل الأرزاء والبلايا.

حوار مع "مليم" 

يلجأ كامل إلى حيلة لا تخلو من خفة الدم والرشاقة واللعب، حيث يستدعي بطله مليم من داخل الرواية التي رفضها مجمع اللغة العربية، ويحاوره ويداوره. مليم من جانبه ناقم على مؤلفه وغاضب منه، إذ تسبب في أن تتجاهله اللجنة وتحط من قدره، ويرد عليه المؤلف محاولًا الدفاع عن نفسه، فيسخر سخرية فظيعة من اللجنة والجائزة والتراث الأدبي العربي بكامله. ويذكر المؤلف لمليم أنه إذا كان المجمع يريد "الأسلوب الجزل المتقعر الرنان، فإن الفكرة واللفظ أصلًا ليسا منفصلين، ولم يكن الأدب العربي في أي عصر من عصوره من عوامل نهضة الأمم، فهو تابع لا متبوع"، ويعتبر أن الكتاب المعاصرين له مثل نجيب محفوظ طبعًا، الذي يذكره عدة مرات، وتوفيق الحكيم وأحمد أمين وتيمور والمازني، هم الكتاب الذين بوسعهم تحرير الأدب العربي.

يحشد كامل آراء وأفكار عدد كبير من الكتاب مثل سومرست موم ودوهاميل إبر كرومبي وبرجسون وبايرون ووردذورث وإمرسون وغيرهم وغيرهم من الأوروبيين، إلى جانب الحكيم ومندور وأحمد الشايب، في مواجهة الجاحظ وأبو هلال العسكري والسكاكي من الأقدمين وأحمد حسن الزيات من معاصريه، لينتهي إلى نتائج بالغة القسوة. فالشعر العربي ليس شعرًا، والأدب العربي بعامة"ليس أدبًا، وإنما في أحسن صوره مادة لأدب لم ينشأ بعد"و"عقلية كتاب العرب عقلية لفظية بحتة" ويستثني المعري على وجه الحصر.

 أريد هنا أن أذكّر القارئ أن هذه الآراء والأفكار كتُبت ونُشرت عام 1943 أي قبل ثمانين عامًا.

على أي حال، الحوار بين عادل كامل ومليمه يطول، لا يتم في جلسة واحدة، ويتجولان ويفترقان ويلتقيان، ويتخاصمان ويهاجم كل منهما الأخر لكن المؤلف يستعين بزوجة مليم التي تنحاز للمؤلف معترفة بفضله، فهو في النهاية من قام بتزويجهما في الرواية، خصوصا وأن مليما بات الآن واحدا من أغنياء الحرب الذين يُضرب بثروتهم المثل.

وينتهي المؤلف إلى أنه يجب هدم الأدب العربي القديم ودفنه ووضع اللافتة التالية على قبره "هنا يرقد الأدب العربي القديم. مات بعد حياة حافلة باللت والعجن وقزقزة اللب، وكان رحمه الله يقضى معظم وقته جالسًا فوق شلته وثيرة بأحد دكاكين حي الصاغة". وفي هذا السياق يدعو إلى اختصار اللغة اختصارًا تامًا "سواء من حيث قواعد النحو والصرف، فالتعقيد عقبة كؤود في سبيل تأدية المعنى الدقيق". ويضيف "فأنت إن أعطيت الكاتب لغة معقدة سلبته حرية التعبير".

ومع ذلك، لم تنته حكاية عادل كامل عند هذا الحد، فالكاتب الراحل سليمان فياض يضيف فصولًا جديدة في كتابه كتاب النميمة.. نبلاء وأوباش ومساكين وأعتمد هنا على طبعته الثانية الصادرة عن دار ميريت 2019، حيث يؤكد أن عادل كامل كتب روايته عام 1936، ولم ينشرها إلا عام 1943. وعندما تقدم بها لمجمع اللغة العربية، اختار الأخير رواية ميلودرامية هزيلة مليئة بالسجع والمحسنات البديعية، بينما رفض رواية مليم الأكبر، وهو ما أدى إلى هذا الغضب العارم الذي انتاب كامل، كما يفسّر العاصفة التي سببتها المقدمة السابق الإشارة لها.

ويضيف فياض إن مليم الأكبر المكتوبة في هذا التاريخ تؤكد أنه "كان سابقًا في ارتياد الإبداع القصصي في تيار الواقعية النقدية لنجيب محفوظ صاحب رواية بداية ونهاية". أما روايته الأولى ملك من شعاع فتدور أحداثها في زمن إخناتون، وفي الوقت نفسه كتب محفوظ ثلاثيته الفرعونية، إلى هذا الحد كانا متقاربين وينهلان من منابع مشتركة، كما انفردا بين أبناء جيلهما بالأسلوب المختلف الجديد الخالي من الزركشة اللغوية الفارغة، وانفردًا أيضًا باختيار موضوعات جديدة ومختلفة لأعمالهما.


اقرأ أيضًا: قصة وجيه غالي: شهاب لمع فهوى

 

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

ويواصل سليمان فياض حكايته مشيرًا إلى أنه عمل شهورًا صحفيًا في جريدة الجمهورية عام 1959، كما يؤكد أنه قرأ عادل كامل مبكرًا وكان يكنّ إعجابًا خاصًا به، كما كان مندهشًا من هروبه من الأدب وقراره المفاجئ بالتوقف عن الكتابة، فسعى للالتقاء به في مكتب المحاماة الشهير الذي يمتلكه. وعبر عدة لقاءات صارحه عادل كامل بالعلاقة الخاصة والأواصر القوية التي تربط بينه وبين نجيب محفوظ، بل وأنه الوحيد الذي سمح له محفوظ بدخول بيته، كما أنه وجد نسخة من رواية أولاد حارتنا مكتوبة على الألة الكاتبة على مكتب عادل كامل قبل نشرها في الأهرام، وأخبره أنه قدّم خدمة العمر لصديقه محفوظ فهو "منذ عمل محاميًا، وأغلب قضايا الفنانين في مكتبه مما أتاح له أن يوفر فرصة جيدة لصديقه بكتابة سيناريوهات لأفلام السينما، فغطى بأجوره عنها نفقات أعوامه كموظف بالأوقاف".

يعترف كامل بأن السبب المباشر لتوقفه هو موقف مجمع اللغة العربية من روايته، وبعد أن توثقت العلاقة بينهما صرّح له بأنه حاول العودة للكتابة، وكتب بالفعل جانبًا من رواية عنوانها الدائرة المشؤومة، وموضوعها عن اللقاءات التي كانت تجمعه بمحفوظ والسحار وباكثير تحت قاعدة تمثال بآخر كوبري قصر النيل، ولكن حسب تعبيره "اكتشفت أن قلمي صدئ، وأن روحي لم تعد روح كاتب.. فقدت الرغبة".

لم تنته الحكاية هنا أيضًا، فبعد سنوات وسنوات وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي حمل الفنان التشكيلي الراحل جميل شفيق الذي كان واحدًا من جماعة الحرافيش روايتين قصيرتين لعادل كامل، فكانت مفاجأة غير متوقعة بالمرّة، ونشرتا في كتاب واحد في يونيو/ حزيران عام 3 199 في روايات الهلال، وكان هذا الكتاب الأخير هو تغريدة البجعة، إذ صمت عادل كامل تمامًا وما لبث أن رحل عنا في هدوء عام 2005، وأظن أنه كان آنذاك في الولايات المتحدة، لكنني لم أستطع أن أتأكد.